ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض على أهل الطائف وسادتها الإسلام.
ذهب وحيدا تقريبا، لم يكن معه أحد غير زيد بن حارثة، وكان وقتها لا يزال زيد بن محمد.
يمكن لنا أن نتساءل عن السبب عن الذي لم يجعله يأخذ معه بعض أصحابه ممن كانوا يعتبرون من المؤثرين والمهمين في قريش..أبو بكر، عمر، حمزة مثلا..
لكن سؤالا كهذا يعني أننا لم نستوعب بعد دقة الوضع وصعوبته في مكة.
رحلته عليه الصلاة والسلام إلى الطائف كانت سرية تقريبا. أو حاول هو أن تكون كذلك قدر الإمكان..
الخروج بوفد من المسلمين ما كان يمكن أن يبقى سريا...وكانت قريش ستعرف مبكرا على نحو يجهض الرحلة قبل أن يتمكن عليه الصلاة والسلام من عرض ما عنده على أهل الطائف، وكانت ستزيد أذاها لو عرفت برحلته إلى الطائف...
*******
الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة يحدث أشخاصا غرباء، لا يعرفهم ولا يعرفونه، وبالتالي فهم أمام شخص لم يعرفوا صدقه وأمانته كما كان الأمر في مكة مع مشركي قريش..وهذا يجعل الأمر بالنسبة له أصعب بكثير، مع مشركي قريش كان يمكن أن يسألهم ببساطة: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» فيردون: نعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا" بناء على رصيد التجارب السابق معه.
هنا لا تجارب تسمح له بطرح السؤال، ربما كان بعضه قد سمع به من قبل، لكن الأمر مختلف جدا عن المعرفة الحقيقية، ومع عشر سنوات من تشويه السمعة من قبل قريش...الأمر أصعب جدا..ولا يشبه الأمر حديثه سابقا مع من كان يأتي مكة في الحج أو التجارة، القادم إلى مكة هو من جاء، ومحمد بين قومه، ويمكن أن يسأل عنه ويعرف عنه بكل سهولة.
هنا الرسول الكريم يذهب إلى ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، وهو لا يدعوهم إلى الإيمان به وبما يدعو إليه فقط، بل يدعوهم أيضا إلى أن يقدموا له الحماية والمنعة.
لعشرة أيام وهو يفعل ذلك، وكان في الخمسين آنذاك، يذهب إلى أشراف القوم وسادتهم، ويقول لهم أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله إليكم، آمنوا بي وتخلوا عن دين آبائكم وعن أصنامكم، واعطوني الحماية...
لعشرة أيام وهو يفعل ذلك...
هل يمكننا نتخيل صعوبة الأمر وحراجته بالنسبة لشخص كريم عزيز النفس مثله عليه الصلاة والسلام؟ هل يمكننا أن نتخيل ثقل أن تعرض ما تحمل على من لا يقدرك حق قدرك، ولا يعرف مكانتك السابقة بين قومك، وأنت الآن طريد مرفوض منهم.
لا يمكن أن يحدث ذلك إلا لأنه وصل إلى مرحلة قصوى من إنكار " الأنا " في داخله، لا يمكن أن يتحمل كل هذا إلا إذا كان قد روض "الأنا" على النحو الذي يجعلها تتحمل كل هذا...
هل حدث الأمر في شق الصدر ليلة الإسراء، يوم طهر قلبه؟ أم ترك الأمر لكي يتطهر بنفسه عبر السنوات العشر، ومن جاءت هذه الأيام العشرة لينهي كل ما يمكن أن يكون قد بقي من ذلك. ...أم أن ذلك كله سبق الوحي؟
لقد تخلص من " الأنا" المعتادة، ليس عنده أي شيء سوى ما يحمله من رسالة...الأنا التي عنده هي الأنا الكريمة الشريفة التي تحمل الرسالة..
لعشرة أيام، يفعل ذلك، ويجد الرفض والصدود والسخرية. ويحتمل.
ثم يذهب، في نهاية رحلته على ما يبدو، إلى الأخوة الثلاثة، ويبدو أنه فضل أن يؤجل دعوته لهم لأن زوجة واحد منهم من قريش من بني جمح ( عشيرة أمية بن خلف، المشاركة في حلف الأحلاف ضد حلف المطيبين، أي ضد عشيرته) ولعله كان يأمل – حتى تلك اللحظة- أن لا يتسرب الخبر إلى قريش...ولم يرغب في أن تسربه المرأة الجمحية.
يتناوب الأخوة الثلاثة في الرفض الساخر. فيطلب منهم عليه الصلاة والسلام في أن " يكتموا عنه" على الأقل، أي أن لا ينشروا خبر أنه جاءهم...كي لا يزيد الأمر صعوبة مع قريش..
لكنهم يتصرفون على نحو أسوأ، فيوعزون لعبيدهم وصبيانهم بسبه وتوجيه الإهانات له..وكما يفعل قطيع البشر دوما، عندما يرى من يستضعف وتوجه له إهانات ولا يستطيع ردها، زاد عدد من يفعل ذلك، وتكاثر الناس عليه، وصاروا يركضون خلفه في شوارع الطائف وكما يفعل القطيع دوما.. كانوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وكان زيد يقيه بنفسه فشق رأسه ..ولا بد أن القطيع كان يضحك ويسخر بينما يحدث ذلك...
ثم يلتجأ إلى بستان يملكه قريشيان في الطائف، عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، عتبة بن ربيعة - أبو هند زوج أبي سفيان، وأبو حذيفة أحد مهاجري الحبشة-وكان عتبة وشيبة جالسين في بستانهما..وكانا ينظران إلى ما يحدث عن بعد. لا نعرف أنهما شاركا بشيء أو أظهرا أي شماتة.
لكنه عليه الصلاة والسلام تيقن الآن أن الأمر واصل لقريش..بل هو وصل عيانا لواحد من أهم ساداتها....
يا لقلبك يا محمد. يا لقلبك با ابن عبد المطلب. يا لقلبك أيها الصادق الأمين. يا عزيز القوم. كيف مر على قلبك كل هذا؟ ماذا كنت تشعر في داخلك؟ عشر سنوات من الرفض في مكة كانت صعبة، لكن عشرة أيام في الطائف كانت أصعب منها بكثير.
ورقة حذرك منذ البداية. منذ اليوم الأول. لكن علمك المسبق بما قد يحدث لا يشبه أبدا أن تمر به...
عليك الصلاة والسلام، بم كنت تفكر؟
*************
بم كان يفكر؟
كان يدعو الله...
يقال أنه صلى ركعتين في ظل شجرة...ثم قال هذا الدعاء مذهل الابجدية عميق البوح...
«اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي..
وَقِلَّةَ حِيلَتِي...
وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ...
أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ..
إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟
إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي
أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي
إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ، فَلَا أُبَالِي
إِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي
أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ
لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ »..
مر الملايين على هذا الدعاء، ربت على أكتافهم المنهكة واحتوى دموعهم المكبوتة وقدم لهم منديلا يمسحونها به، صار دعاء كل عزيز قوم ذل، وكل من تقطعت به السبل، وتغلقت بوجهه الأبواب، ولم ترد على رقم هاتفه هواتف من يمكن أن يمد له يد العون.
كل أولئك المكلومين المجروحين المتكبرين على جراحهم، الذين تمنعهم عزة أنفسهم من أن يظهروا قروح الدمع تحت أقنعة التماسك التي يضطرون لإرتدائها طيلة الوقت، كل مكسوري القلوب الذين يصرون أن هذا الكسر سيلتئم مع الوقت، دون ضماد، دون جبيرة، سيجدون أنفسهم في الدعاء، سيصمدون عند " ضعف قوتي" ، ويحاولون التماسك مع " قلة حيلتي" لكن غالبا "هواني على الناس" ستضغط على زر ما في أعماقهم..وتنهمر الدموع إلى حيث الشمس والوجه الحقيقي كما لم تفعل من قبل..
عند الفواتير المتراكمة. وصاحب البيت يدق الباب يريد إيجاره. وأمر المحكمة بالإخلاء. ولا بديل لها ولليتامى الذين عندها غير الشارع. صبيحة النطق بحكم تعرف سلفا بأنه ظالم على جريمة لا تعرف عنها شيئا. عند النصيب الواقف.والحال الواقف.والخاطب الذي لا يجيء. وكل من أصغر منها تزوج وأنجب وهي لا تزال تنتظر من لا يجيء. عند مشاعر أمومة مضطرمة مع كل طفل يمر. عند اب انصرف عنه جميع أولاده. لا يلوم ولا يعتب، بل يتبرع بالأعذار لكل من يسأل عنهم. ولكن.
عند باب المشرحة، قبل أن تفتح. عند نظرات الشماتة. وسؤال بارد اللؤم لمعتقلة خرجت للتو: كم مرة أغتصبوك؟
عند غرباء المنافي والقارات السبعة. الغربة صعبة ولكن العودة إلى الوطن أصعب. عند ذلك الشعور المزمن بأنك ستموت غريبا في بلاد غريبة، وستكون محظوظا لو وجدت من يصلي عليك.
ضعف قوتي.
وقلة حيلتي.
وهواني على الناس يارب. هواني على الناس. هواني على الناس.
*********
سند هذا الدعاء لم يصح..وما لم يصح لا يعني أنه لم يحدث..فقط إن أثباتات أنه قاله ليست كافية.
والدعاء لغويا ينضح بأسلوبه في الكلام...وبعمق التجربة التي مر بها...

ودارت الأيام، كما تفعل دائما، وبعد زمن غير بعيد التقى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمرأة الجمحية، زوجة واحد من أبناء عبد يا ليل في الطائف الذين التقى بهم وطلب أن يكتموا عنه ولم يفعلوا..
التقى بها، ولم يزد أن قال لها: مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكَ ( أي أهل زوجك)؟
كل تلك المعاناة، أشد يوم في حياته، لم يعلق عليه غير بهذا السؤال، ولعله كان يبتسم ابتسامة حزينة لتلك الذكرى المرة..
كل المعاناة تخف. كل الألم يزول. كل شيء يمر ويصبح ذكرى في النهاية.
نبكي ونجهش بالبكاء عند " ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"...
ثم تمر الأيام..
كله يمر...

******
من " السيرة مستمرة"