موضوع للنقاش: لا للوصاية على قضية الأمة المركزية؟!
طبيعة الصراع مع الغرب وأبعاده (3)
مصطفى إنشاصي
انتهينا إلى تحالف الصالب والمصلوب معاً ضد الأمة والوطن، وأن العدو الذي جمع بينهما هو (الإسلام) وأمته، وأنهم بذءوا في القرون الأخيرة يتحدثون عن التاريخ المشترك بينهما، وحدة الدينان، الصالب والمصلوب (التوراة والأناجيل)، وأصبح الغرب بشقيه اليهودي – النصراني - العلماني يشكل نموذجاً حضارياً عالمياً. فالغرب يؤمن بنظرية التفوق العرقي، وبشرعية استئصال كل جنس بشري يقاومه ويرفض نموذجه الحضاري الغربي، فهو النموذج الإنساني الذي على كل شعوب العالم الاقتداء به، ويرى أن حضارته فقط هي التي تستحق أن تسود وتنتصر، كما قال المؤرخ البريطاني توماس أرنولد توينبي بدايات القرن الماضي، وفرانسيس فوكوياما الياباني الأصل الأمريكي الجنسية نهاية القرن الماضي في كتابه "نهاية التاريخ"، بعد حرب الخليج الثانية، اليهودي الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه "صدام وصراع الحضارات والثقافات" نهاية القرن الماضي أيضاً، وغيرهم كثيرين، الأخيران غيرا موقفيهما واعترفا بخطئهما بعد سنوات من صدور كتابيهما، وتبين لهما أن التخبط الذي وقعت فيه السياسة الأمريكية وخاصة في عهد بوش الابن، تؤكد أن الحضارة الغربية إلى زوال.
لمعرفة أكثر وعياً بطبيعة الصراع وأبعاده سنمضي في رحلة تاريخية قصيرة نتعرف فيها على علاقة الغرب الجغرافي مع الشرق، وعلاقة الغرب كمفهوم مع الإسلام في الوقت الحاضر والواقع المعاش، وفهم واقع الاتفاق أو الاختلاف بينهما.
العلاقة بين الشرق والغرب
العلاقة بين الشرق والغرب بصفة عامة هي علاقة قديمة قدم وجودهما، ممتدة الجذور في التاريخ، ومرت بأطوار كثيرة ومتعددة، من التنافس والعداء إلى الصراع والاختلاف إلى الاحتلال، والتجاذب والتنافر، والثقة والشك ...إلخ، وقلما حكمها الوفاق والوئام! والصراع الذي يخوض العرب والمسلمون غمار معاركه اليوم في جميع الميادين، ضد محاولات الغرب فرض هيمنته الكاملة والشاملة عليهم، هو حلقة في حلقات الصراع الطويل بينهما. واليوم كالأمس إن أشرس الهجمات التي كانت تجتاح وطننا هي الهجمات الغربية، وكانت هذه البلاد كلما تخلصت من احتلال وقعت في آخر.
وهناك حقيقة تغيب عن الباحثين في العلاقة بينهما؛ وهي: أن الغرب بالرغم مما هو عليه من قوة يشعر في أعماقه بالخوف الإسلام، كما عبرت عن هذه الرؤيا صحيفة "التايمز" الأمريكية، مذكرة بأن الخوف من خطر المسلمين لم ينتهِ بقولها: "أزاح الغرب مع مضي الوقت عن كيانه خطر المسلمين إلا أنه لم يتخلص تماماً من ذكرى الخوف الذي عانى منه ألف سنة"! لذلك هو يسابق الزمن طوال الوقت محاولاً سحق الإسلام والقضاء عليه!
لأن الغرب جغرافياً أصله القارة الأوروبية، هذه القارة بداية من اسمها، كما تروي الأسطورة الأوروبية هو اسم أميرة سورية اسمها (أوروبا)، انتهاءً بحضارتها مدينة بوجودها للشرق ... وإذا ما تركنا الأسطورة ورجعنا إلى حقائق التاريخ، فإن بعض المؤرخين يقول: أن أوروبا مأخوذة من كلمة "الغاربة"، والغاربة في الأصل كلمة عربية قديمة "سامية" تعني الأراضي الواقعة إلى جهة الغرب من بلاد الشام والعراق. أي أن أوروبا في كلتا الحالتين هي كلمة عربية.
أوروبا تدين للشرق بالكثير، بدء من معتقداتها الدينية وآلهتها التي عبدتها، فكثير من الآلهة اليونانية والرومانية القديمة في الأصل آلهة كنعانية وفينيقية وبابلية ومصرية ... إلخ، نزعت عنها الطابع الشرقي المسالم والموادع وطبعوها بالطابع الغربي الهمجي الدموي. وتذكر أساطيرهم القديمة أن تلك الآلهة الأوروبية قد تعلمت الحكمة من الشرق، وأخذت عنه الكثير عن أسرار الحياة والكون .. مروراً بكثير من آرائها الفكرية والفلسفية، إلى كثير من أدوات التقدم العلمي والحضاري والمدنية، انتهاءاً بـ"النصرانية"، تلك الرسالة السماوية التي اعتنقتها ولم تسلم من وثنيتها وهمجيتها!
كما أنه في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ودولها منغلقة على نفسها داخل حدودها ضاربة في غياهب العزلة والجهل، سواء في عصورها القديمة أو عصورها الوسطى، عصور الازدهار والتقدم الحضاري الإسلامي ـ كانت الأساطيل الفينيقية والكنعانية الآرامية التجارية تجوب بحار العالم المعروفة لهم آنذاك، غير المعروفة للغرب، ناقلة معها إلى جانب حمولتها التجارية فنون وعلوم حضارتها المختلفة الزاهرة والمتقدمة على حضارات العالم القديم، وكانت أساطيلهم البحرية تفتح وتكتشف الأراضي والجزر المجهولة، وتقيم فيها المدن وتعمرها وتبعث فيها الحياة وتشيد الحضارات، وذلك بدءً من ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي مروراً بجزره كلها وصولاً إلى إسبانيا والجزر البريطانية في أقصى الغرب والشمال الغربي، عابرين المحيط لأطلسي إلى أرض من أسماهم المغتصبين الأوروبيين (الهنود الحمر) ما يسمى بـ(الأمريكتين) اليوم، وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح (رأس العواصف عند الغرب)!
ولأن طبع الغرب الجحود بفضل الآخرين عليه؛ فقد اختزل الإغريق متأثرين بالفكر التوراتي، تاريخ العالم والحضارة الإنسانية في تاريخهم منذ أن بدأ خروجهم من عزلتهم واتصالهم بالشرق مع نهايات القرن الخامس قبل الميلاد، وانفتاحهم على عالم واسع من الحضارة الإنسانية المتعددة الثقافات والأعراق، ذات التقدم العلمي العظيم بالنسبة لذلك العصر. حيث أصيب الإغريق بصدمة ولدت عندهم عقد نفسية مركبة، عالجوها بـما زعموا أنه (المعجزة الإغريقية)، عقدة الشعور بالاستعلاء والعنصرية تجاه كل الشعوب غير الإغريقية، واعتبار كل من هو ليس إغريقي بربري همجي وحشي متخلف. وأصبح تاريخ الحضارة الإنسانية يبدأ بما بات يعرف في تاريخ الغرب بما بعد أفلاطون وإسقاط ألاف السنين من تاريخ وحضارة الأمم والشعوب الأُخرى قبله، ذلك بالنسبة لخروج الغرب من عزلته الأُولى!
أما بعد خروجه من غزلته الثانية التي سماها العصور الوسطى، وجعلها عصور وسطى للعالم أجمع؛ في الوقت الذي كان فيه المسلمون يعيشون عصور الازدهار والتقدم العلمي والحضاري على جميع المستويات وفي جميع العلوم، فإن الغرب قد أسقط هذه المرة حوالي ألف سنة من تاريخ الحضارة الإسلامية وفضلها على الحضارة العالمية والنهضة الأوروبية، بدء تاريخ العالم الحديث من عصر النهضة الأوروبية؛ أي ما بعد 1300 أو 1500 ميلادية! وذلك هو التاريخ الذي بدأت معه أوروبا في البحث عن ذاتها مرة أُخرى، وقد حجب عنها حقدها الصليبي أن ترى مزايا الإسلام فتعتنقه، لذلك ارتدت وانتكست إلى فكر وفلسفة الإغريق والرومان، معتمدة على الإنتاج العلمي والفكري الإسلامي دون الاعتراف بعطاء الحضارة الإسلامية العالمي، ولا بفضل المسلمين عليها في كل ما وصلت إليه، والذي مكنهم من فهم كتب الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني، وبدءوا في بلوروا تصوراتهم عن مركزية أوروبا للعالم، وتصورهم عن الحياة والكون وعلاقاتهم بجميع مكوناته من بشر وجمادات وثروات ...
وقد كان نتاج ذلك الاختزال الغربي الإغريقي والروماني لتاريخ البشرية، والغرب الحديث لتاريخ الحضارة الإنسانية في أوروبا فقط، وسيادة القيم الإغريقية على العقلية الغربية، أن اعتبر الغرب كما قال الفيلسوف والمفكر الفرنسي روجيه جارودي، جميع "الشعوب والحضارة اللاغربية مجرد زوائد لتاريخ الغرب والتي لا تدخل سوى إذا اكتشفت من طرفه". ومعتبراً أن "كل غزو أو اعتداء (استعماري) هو إذاً مبرر باسم الحضارة، ومقاومة الشعوب (المستعمرة) والمسلوبة والمقتلة دائماً يطلق عليها (إرهاباً)".. لذلك تعامل الغرب مع الآخر في معظم مراحل تاريخه إلى الآن، من منطق القوة بجميع أشكالها بدء من القوة العسكرية مروراً بالقوة السياسية، انتهاءً بمحاولة فرض أخلاقياته ونظمه الحضارية بالقوة على الآخر، كما تحاول اليوم الولايات المتحدة التوراتية قائدة الغرب فرض العولمة بجميع أبعادها على العالم بالقوة العسكرية والاقتصادية وما تولد من قوة سياسية.
وترى المؤرخة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها "الغرب والآخرون: قصة تفوق"، الذي أرادته أن يكون مواجهة مع الذات الغربية بالتأريخ لنظرة الغرب إلى نفسه وإلى الآخرين وتقاطعها مع نظرة الآخر إليه، أن: "تزاوج (المسيحية) الأوروبية مع العرقية هو الذي شكل طبيعة الانتماء المزدوج الذي جعل غزو أميركا مشروعاً. ولإنجاح هذا الغزو (الاستيطاني)، ارتكب الأوروبيون أول إبادة بشرية في التاريخ. ففي أقل من 30 سنة أبادوا حوالي ثلاثة أرباع السكان الأصليين لأميركا. ومن خلال تأسيسها للتطهير والإقصاء العرقي (في الأندلس) والاكتشاف (للعالم الجديد)، تجسد تحرك أوروبا في المراحل الأولى عبر ثلاثة عناوين: الدين (المسيحية)، والنقاء العرقي، والتفوق العرقي. وقد استخدمت هذه المسوِّغات لتبرير غزو العالم والسيطرة عليه.
ويقول مالك بن نبي: "إن الفكرة (المسيحية) قد أخرجت أوروبا إلى مسرح التاريخ. وقد بنت عالمه الفكري انطلاقاً من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها العالم الإغريقي فتعرفت على (سقراط) باعث الأفكار، و(أفلاطون) المؤرخ لتلك الأفكار، و(أرسطو) مشرعها. غير أن هذا العالم الذي التقت به ثانية وهي تقتفي أثر الحضارة الإسلامية قد اكتسى منذ (توماس الأكويني) صبغة (مسيحية)". وبالرغم مما أضيف إليها من بُعد إغريقي إلا أن النصرانية لعبت دوراً أساسياً في تشكيل أوروبا كيان حضاري، يقول مالك بن نبي "إن الفكرة (المسيحية) شكلت أنا الأوروبي أو ذاته، كما صاغت منظر أوروبا الذي نشهده في منتصف هذا القرن", ـ أي القرن العشرين!
هذا الغرب الذي هو خليط من العقلية الاستعلائية الاستكبارية الإغريقية، إلى فلسفة القوة الرومانية، وإخضاعها للآخر جبراً وقهراً، إلى تعاليم التوراة الشريرة الاستئصالية التي لا تؤمن بحق الآخر في الوجود، إلى رهبانية النصرانية الزائفة الكاذبة، إلى العلوم الحديثة التي لا تؤمن بإله وترى أن لا إله والكون مادة، وأن إنسان عصر النهضة والتقدم التكنولوجي هو الإله أو قادر على صنع إلهه الذي يريد ...إلخ من مكونات العقلية الغربية، تجاوز الاطار الجغرافي وأصبح من الوجهة المفهومية إطار حضاري! وذلك ما سنوضحه في المقالة القادمة ..

التاريخ: 9/6/2022