جواز إخراج زكاة الفطر طعاماً ومالاً
مصطفى إنشاصي
ظهرت في العقود الأخيرة أسماء يزعم أصحابها وأنصارهم أنهم علماء، يأخذون بالنص ويرفضون ما دونه، دون أن يكون لهم نصيب من علم وفقه شرعي صحيح، ولا نصيب من الأدب واحترام الرأي الآخر عند الاختلاف في المسائل الاجتهادية. وذلك لأنهم أوقفوا النظر في الحكمة من التشريع وضرورة استنباط الأحكام الشرعية من روح النص، بما يحقق مصلحة المسلمين، ويضمن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان. لذلك نجد من تلك الجماعات مَنْ يفرض على الناس العودة للماضي والالتزام الحرفي ببعض ـ وليس بما أجمع عليه السلف ـ أراء السلف حول بعض المسائل الخلافية، ويتهمون كل الآراء المخالفة لهم بأنها غير جائزة شرعاَ، وأخرى نجدها تشطط وتكفر المسلمين أو البعض منهم اعتماداً على النص فقط.
ومن المسائل المختلف عليها قديماً وحديثاً، مسألة إخراج زكاة الفطر مالاً! وقد حدث بعد صلاة الجمعة الثانية من رمضان 1430هـ، أن قال أحد الإخوة بعدم جواز إخراج زكاة الفطر مالاً. ودار بيننا الحوار التالي: أخي هذه مسألة اجتهادية لا يمكن فيها ترجيح رأي على آخر. رد: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قلت: الحديث هو النص الشرعي الذي علينا أن نستنبط منه الأحكام الشرعية بحسب الظرف والحالة. قال: أي شيء فيه نص لا يجوز الاجتهاد فيه! قلت: أن بعض الصحابة والتابعين قال بجواز ذلك. أجاب: أبو حنيفة فقط. واستطردت مستنكراً: أقول له الرسول يقول كذا، يقول لي فلان! قلت: أن الإمام أحمد بن حنبل عندما قالوا له: أن قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمةـ يعني في صدقة الفطرـ وقال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان؟ لم يقصد التحريم، وأوضح موقفه: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه. وذلك ما دفع أهل العلم إلى القول أن ظاهر ـ وليس مذهب ـ الإمام أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وغيرهم أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات. (المغني لابن قدامة، كتاب الزكاة، الجز 4، ص283). وطلبت منه القول أن المسألة فيها رأيان. رد: لا! إخراج زكاة الفطر مالاً لا يجوز شرعاً! سألته: أيعني ذلك أن إخراجها مالاً غير مقبول عند الله تعالى؟ أجاب للأسف: نعم، لأن أهل السنة على ذلك! سألته: ألسنا نحن أيضاً من أهل السنة؟ أجاب: نعم ولكن أهل السنة مراتب! نصحته بالكف عن التشدد والتعنت في رأيه حرصاً عليه من أن يبوء بإثم الأمة التي تخرج زكاة الفطر مالاً، وأن يحذر أن يكون مِمَنْ قال فيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "هَلكَ المُتَنَطِّعُونَ". أي المبالغين في الأمور والمشددون في غير موضع التشديد. ولكنه للأسف بقى مُصراً على تحريم إخراج القيمة!.
استشعاراً منا بأهمية بسط هذه المسألة وتوضيح الحكم الشرعي فيها، لأن هذه المسألة إحدى المسائل الخلافية، التي لا يجوز فيها ترجيح رأي على آخر. لأن موقف أهل العلم في المسائل الخلافية: "قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب". آثرت إعداد هذه الورقة.
لا يوجد نص في تحريم دفع القيمة
لم يثبت عن النبي ولا عن أحد من الصحابة نص في تحريم دفع القيمة، وأن الحديث (1485) الذي رواه البخاري وغيره، في باب "فرض زكاة الفطر"، عن ابنِ عمر رضي اللّهُ عنهما: "فَرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم زكاةَ الفِطرِ صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذَّكرِ والأنثى والصغير والكبيرِ من المسلمينَ وأمرَ بها أنْ تُؤدى قبل خروج الناسِ إلى الصلاة". لا ينص على نهي أو تحريم القيمة، ولكنه ينص على مقدار زكاة الفطر.
الصحابة هم مَنْ أجاز إخراج الأصناف الأخرى
إضافة إلى أنه لا يوجد في الأحاديث ما يفيد تحريم القيمة، فإنه لا يوجد فيها تحريم إخراج أصناف أخرى من الطعام، بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يجدوا حرجاً في إخراج أصناف أخرى من الطعام أو قيمتها. لأن الحديث رقم (1488)، الذي رواه البخاري وغيره أيضاً، عن أبي سعيدٍ الخُدريّ رضيَ اللّهُ: "كنّا نُخرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعيرٍ أو صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من أقِطٍ أو صاعاً من زبيبٍ". ليس حديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن عمل الصحابة.
الصحابة هم الذين أجازوا إخراج القمح
كما أن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين أجازوا إخراج القمح وهو غير منصوص عليه في الأحاديث الصحيحة، وقد تم ذلك على أساس المقدار والقيمة وليس على أساس نص الحديث. فقد روى الإمام مسلم، باب زكاة الفطر، الجزء 7، الحديث رقم (2237) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ، زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. حُرَ أَوْ مَمْلُوكٍ. صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ،أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجّاً، أَوْ مُعْتَمِراً. فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إِنِّي أُرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِذلِكَ.
* لم يقف الأمر عند ذلك ولكن الصحابة اختلفوا في مقدار الصاع. فعن الحسنِ قالَ: خَطَبَنَا ابنُ عباسٍ بالبَصْرَةِ في آخِرِ رمضانَ فقالَ: أَدُّوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ، فَكَأَنَّ الناسَ لم يَعْلَمُوا، فقال: مَنْ هَهُنَا من أهلِ المدينةِ، عَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ فإنَّهُمْ لا يعلمونَ، فَرَضَ رسولُ الله هَذِهِ الصَّدَقَةَ على كُلِّ صغيرٍ وكبيرٍ ذَكَرٍ وأُنْثَى حُرَ وعبدٍ، صاعُ تَمْرٍ أو صاعُ شعيرٍ أو نِصْفُ صاعِ قَمْحٍ، فلمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَرَأَى رُخْصَ الشعيرِ قالَ: لو جَعَلْتُمُوْهُ صاعاً من كُلِّ شىءٍ. وعن سعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ أَنَّ رسولَ الله فَرَضَ زَكاةَ الفِطْرِ مُدَّيْنِ من حِنْطَةٍ. قال الشافعيُّ: حديثُ مُدَّيْنِ خطأٌ. (قال الشيخ) هُوَ كَمَا قالَ: فالأخبارُ الثابتةُ تَدُلُّ على أَنَّ التعديلَ بمُدَّيْنِ كانَ بَعْدَ رسولِ الله. وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَثْبُتُ ذَلِكَ عن أبِي بكرٍ وعثمانَ رضي الله عنهما. كما قال البيهقي: ورُوِّيْنَا في حديثِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ وفي الحديثِ الثابتِ عن ابنِ عُمَرَ أَنْ تعديلَ مُدَّيْنِ من بُرَ، ونِصْفُ صاعٍ بصاعٍ من شعيرٍ وَقَعَ بعدَ النبيِّ. سنن الكبرى للبيهقي، باب "من قال يخرج من الحنطة في صدقة الفطر"، الجزء السادس، الحديث رقم (7735) ورقم (7737).
جواز إخراج زكاة الفطر مالاً
إن الصحابة رضوان الله عليهم هم أول من أخرج القيمة. روا ابن أبي شيبة في المصنف أن أبو إسحاق السبيعي وهو أحد أئمة التابعين؛ قال: "أدركتهم ـ أي صحابة رسول الله ـ وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام". وقال الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ"، باب "ذكر الموضع الأول"، "آية 14": فأما إخراج القيمة فمختلف فيه أيضاً، فممن أجاز ذلك عمر بن عبد العزيز، والحسن، وأهل الرأي ولم يجز مالك، والشافعي، وأحمد إلا إخراج المكيلة كما جاءت به السنة، وقال إسحاق: يجوز ذلك عند الضرورة. وقال ابن زنجوية، في كتاب "الأموال"، باب "الرخصة في إخراج الدراهم"، قال حميد: القيمة تجزي في الطعام إن شاء الله، والطعام أفضل".
وذكر محمد بن علي الشوكاني في كتاب "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، كتاب البيوع، الجزء الخامس، جملة آراء في جواز دفع القيمة: قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية: لا يتعين صاع التمر بل قيمته. وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك، ولكن قالوا: يتعين قوت البلد قياساً على زكاة الفطر. وحكى البغوي أنه لا خلاف في مذهب الشافعية أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى. وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر لزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه؟ والهادوية يقولون: إن الواجب رد اللبن إن كان باقياً وإن كان تالفاً فمثله، وإن لم يوجد المثل فالقيمة.
الحكمة من زكاة الفطر
كما أنه يجب ألا يغيب عنا أن الحكمة من زكاة الفطر هي اغناء فقراء المسلمين، لقول الرسول: "اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم". "شرح الزركشي بدر الدين، كتاب الزكاة، "الجزء 2". والاغناء قد يكون بالطعام أو المال. والذي يحدد ذلك حال الفقير في كل بلد، فقد يكون المال أنفع للبعض من الطعام. ولا ننسى أن كثير من الفقراء يأخذ الطعام ويبيعه بأقل من ثمنه، ليشتري أشياء أكثر ضرورة من الطعام، وفي هذه الحال يكون الفقير لا انتفع بالطعام ولا هو أخذ قيمة الصاع كاملة.
أدب الاختلاف في الرأي
وقد أجمل الإمام أبو جعفر النحاس "آية 12" أسباب الاختلافات بين الصحابة في مقدار ما يتم إخراجه من الأصناف غير المنصوص عليها في حديث رسول الله، ولم يرجح رأي على آخر، لأنه يعلم حدود الأدب مع الصحابة، وملتزم خُلق الاختلاف في الاجتهاد، فقال: واختلفوا في مقدار ما يخرج منها من البُر والزبيب، وأجمعوا على أنه لا يجوز من الشعير والتمر إلا صاع. والحجة للقول الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرض صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر وكان ذلك قوتهم فوجب أن يكون كل قوت كذلك. والحجة للقول الثاني: أن الصحابة هم الذين قدروا نصف صاع بر، وهم أعلم الناس بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجوز مخالفتهم إلا إلى قول بعضهم، فإن قيل: فقد خالفهم علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهم، فالجواب أنه قد اختلف عنهما وليس أحد القولين أولى من الآخر إلا بالاحتجاج بغيرهما.

بعد ما تقدم يمكن القول بكل اطمئنان: أنه يجوز إخراج زكاة الفطر طعاماً كما يجوز إخراجها نقداً، وعلى المسلم أن ينظر في حال الفقير المتلقي لها، إن كان الطعام له أنفع، أو المال.
هذا والله أعلم