حقيبة يد
بقلم: شامل سفر

كان رجلاً مختلفاً .. غير أولئك الكثيرين الذين حولها .. لم يكن مثلهم؛ يستغل أي فرصة للتحدث إليها .. بل لم يتحدث إليها تقريباً، أبداً .. باستثناءات قليلة فرضتها تقاليدُ اللباقة الاجتماعية .. السلام عليكم .. عليكم السلام .. فقط .. لا أكثر ولا أقل .. ثم إنه انتبه إلى كيمياء بينهما؛ ترسل وتستقبل .. فألغى حتى قضية التحية .. انتهينا.
لكن الذي لم تعرفه هي، ولا حتى خطر لها على بال .. أنه كان لديه مثل ما لديها، وربما أكثر .. أَحبها .. إي نعم .. أَحبها من كل قلبه، لكنْ لا كمثل ما يتوهم بعضُ أناس هذا الزمان أنه حب .. درسَ الموضوعَ من كل جوانبه، فوجدَ أنه لا أمل .. لا ظروفه تسمح، ولا ظروفها .. فأوقفَ ذبذباتِ الكيمياء التي بداخله عن أنْ تتجاوز حدودَها .. فَرْمَلَها .. قيّدها .. بل كثيراً ما زَجَرها ونَهاها .. وهكذا، لم يبقَ من القصة إلا طفراتُ نظرةٍ هنا أو هناك كلما سمحت ظروف؛ تأخذ اللقطةَ على عَجَل .. قلةٌ من الناس تعرف أن العاشقين الحقيقيين يغارون حتى من بعض أنواع القماش .. «لن أسبَّك .. لن أدعو عليك .. لأنك لها .. أدفئها وأَحِطْ بها والتصق، يا ابن المحظوظة .. لا ضير، الدنيا برد .. لكني بصراحة أكرهك .. أحبك إذ أراك وقد اختارتكَ لمشوار اليوم، بل ويتضمن غزلي الداخلي بها تشبيهاتٍ تخصُّك .. لكني أكرهك» .. المهم .. مضت الأيام، والتهذيبُ المتبادَل يكاد يحترق في داخل فرن التحفُّظ، بعدَ أن نضج بما فيه الكفاية ..
وفي يوم .. وجدَ حقيبة يد نسائية .. واضحٌ أنها سقطت سهواً من دفاتر يظنها المتوهمون مصادفةً .. التفتَ يمنةً ويسرة .. لا أحد .. تناولها .. فتحها .. فإذا بالصورة التي على بطاقة الهوية الشخصية، صورتها .. وقرأ الاسم .. لأول مرة يعرف اسمها .. اسم المرأة المحبوبة يعزف في العالم الداخلي للعاشق سيمفونياتٍ هادئة .. وأحياناً كخامسة بيتهوفن؛ مَطلعُها عنيف .. بل إن على الهوية رقم جوّال .. الوقت ليل، ولا مجال لسؤال البقّال أو مختار الحي .. لم يكن بُدٌّ مِن أنْ تبيت حقيبتُها عنده الليلة ! ... ريثما يطلع الصباح، فتكفُّ نفسُهُ الأمّارةُ بالسوء عن كلامها المُباح ..
دخل منزله دون أن يبحث حتى عن جوّال في داخل الحقيبة .. وضعها جانباً .. لماذا يكذب على نفسه؟! .. لم يضعها جانباً .. بل على طاولته الأثيرة؛ الأحبّ إلى نفسه .. أشياء الغالين غالية .. ولم يَكَدْ يشعل السيجارة الأولى، حتى رنَّ الجوّال .. حتى الرنَّة فيها من الأنوثة ما يكفي لِجَعْلِ الحجر يحنّ .. لا بد من الرد .. الأمانةُ أمانة .. أمسك الجوّال .. فتح الخط .. فإذا بصوتِ رجلٍ يزعق .. يصرخ .. يعنّف أحداً .. الصوت بعيدٌ قليلاً عن أن يكون كلامُهُ موجّهاً للشخص الذي فتح الجوّال .. بل كان الرجل يعنّفها هي .. «كم مرة تضيعين أشياءك؟! .. شيئاً من الانتباه .. آلو .. آلو» ...
لم يرد .. أغلق الخط .. كتب رسالةً نصية لصاحب الصوت الأجش: «وجدتُ حقيبتكم في المكان الفلاني .. أرجو إرسال عنوانكم برسالة نصية؛ كي نتمكن من تأمينها لكم مع سائق» .. لا ضرورةَ لزيادة جرعة التعنيف اليومي بِأنْ يعرفَ الطبلُ أنَّ مَن وجدَ الحقيبةَ رَجُلٌ .. والأقسى أنها لن تعرف .. أن الذي وجدَها وأرسلها، يغبط ذراتِ تُرابٍ مَشَتْ عليها يوماً .. لن تعرف ذلك .. أبداً.
#Shamel_Safar