من ليما إلى ستوكهولم

بقلم -محمد فتحي المقداد

بعدما ثبتت إصابتي بالمتلازمات على غير إرادة ولا تخطيط منّي؛ فقد تاهت أفكاري بعيدًا ما بين (ليما و ستوكهولم)، رغم أنّني لا أعرف هاتيْن المدينتيْن إلّا من خلال الأطلس الجغرافيّ الذي كنتُ أستخدمه في دروس الجغرافيا، بأمر أستاذنا أحمد اليوسف رحمه الله في المرحلة الإعداديّة والثّانويّة؛ لتثبيت ما كنّا نقرأ من أسماء لمواقع جغرافيّة مختلفة على الكرة الأرضيّة. ولسنوات طويلة ما زلتُ أحتفظ بنسخة من الأطلس، لدرجة أنّها أصبحت قديمة وعلى وشك أن تُصبح تراثًا من الماضي، لأنّ هناك خرائط دول تغيّرت، ظهرت لنا دولٌ جديدةٌ، دولة كردستان التي كانت جزءًا من العراق، ودولة جنوب السّودان، وكذلك الصّومال التي تحوّلت إلى ثلاث دول، واليمن التي توحّدت لسنوات على إثر حرب، وعادت لتنفصل بعد حرب، هذه بقيت على حالها في كتابي الأطلس القديم، الذي أحفظ عنه اليمن الشمالي، واليمن الجنوبيّ، لم يختلف الأمر شيئًا عند هذه النّقطة الأخيرة.
والأمر المُخيف في بلدي سوريّة بعد عِقد من الحروب والتدخّلات الخارجيّة، وشبح التقسيم المُريع عندها، لاشكّ أن كتابي هذا (الأطلس) سيصبح وثيقة تاريخيّة، وسأعرضه وقتها بعشرات الألاف من الدولارات، وسيعوّضني عن خساراتي الماديّة الكثيرة على الأقلّ خلال طيلة فترة الحرب. وسيصبح مرجعًا للوحدويّين الرّافضين لفكرة التّقسيم، ولن تستغني عنه لجان ترسيم الحدود فيما لو حصل ما أخشاه.. لا سمح الله.
ولم تكن (ليما)إلّا اسم عاصمة دولة (البيرو) في القارّة الأمريكيّة الجنوبيّة، و(ستوكهولم) عاصمة مملكة (السّويد) الإسكندنافيّة في أوروبّا الشماليّة. والتي نصحني الكثر من الأصدقاء، لو كان باستطاعتي الهجرة عن طريق مفوضّية اللّاجئين أو بطريقة التّهريب الوصول إلى السّويد أمنية كلّ مهاجر في العالم؛ لاعتبارات كثيرة في العيش بمستوى يليق بالإنسان.
والتّساؤل المهمّ: ما الذي أخذني للتفكير في (ستوكهولم) ما هو إلّا أنّي أثناء قراءتي لرواية (إنّي أتعافى) –للكاتب الفرنسي (دافيد فوينكينوس) التي أهداني نسختها الإلكترونيّة مُترجمها الدكتور محمود المقداد. وفي أحد فصول الرواية ذكر المُترجم في الحاشية عن (متلازمة ستوكهولم)، الأمر الذي دفعني للبحث عنها، وكان: (هي ظاهرة نفسيّة تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوّه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف).
(وأُطلق على هذه الحالة اسم "متلازمة ستوكهولم" نسبة إلى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة من اللصوص على بنك (كريديت بانكين) هناك في عام 1973، واتّخذوا بعضًا من مُوظّفي البنك رهائن لمدة ستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفيًّا مع الجُناة، وقاموا بالدّفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم).
قادني البحث للاستزادة إلى ظاهرة مُتلازمة (ليما) التي كانت على العكس تمامًا من المتلازمة السّابقة، حيث أنّها: (وفيها يتعاطف العدو مع المعتدى عليه بدافع الرحمة والتعاطف والشفقة، وقد جاء المصطلح بعد حادثة اختطاف الرهائن المدعوين في حفل رسمي برعاية السفير الياباني في مقر السفارة في ليما (البيرو) عام 1996 حيث أفرج أفراد من حركة المقاومة المئات من الرهائن بمن فيهم أهم الشخصيات في غضون ساعات قليلة فقط من الخطف وذلك بدافع التعاطف معهم).
خلال ما مرّ بي من الاستماع لكثير من كلام المعتقلين السّابقين لدى الأجهزة الأمنيّة العديدة في سوريّة، ممن أُفرج عنهم فإنّ عمُرًا جديدًا كُتبّ لهم، لابدّ أنّهم تعرّضوا لمثل هذه المُتلازمات التي لم أصّب بها، لكن من المُؤكّد أنّه وخلال فترة الحظر أُصبت بمتلازمة (الكوخ) الغريبة وغير المألوفة، لكن حين تبيّن لي أن تاريخ معرفة هذا المصطلح يرجع إلى أكثر من مئة عام، للإشارة إلى الأشخاص الذين اضطّروا للاعتزال في المناطق النائية، خاصة خلال فصل الشتاء حين يشتدّ البرد، ويضطرّ البعضُ للمكوث داخل البيت لأيّام، وأحيانًا لأسابيع دون هواتف أو وسائل تواصل اجتماعيّ.
على كلّ حالٍ الحمد لله، حينما تأكّدتُ أنّ متلازمة (الكوخ) لا تعتبر اضطرابًا نفسيًّا، ولكن أعراضها وتأثيرها معترف به في علم النفس على أنّها شيء حقيقي، كان فرحي عظيمًا حيث أنّني لا أحتاج للعلاج النفسيّ، والذي لا يمكنني دفع تكاليفه البّاهظة أو حتّى جزء يسر منها، تركيزي الأهمّ على أساسيّات الحياة الخبز وطبق البيض ودلو اللّبن الرّائب وصحن الفول.
كنتُ لا أودّ إخباركم أنّني أعتاش من معونات مُنظّمة الأمم المتّحدة للاجئين، وأنتظر بفارغ الصّبر نهاية كلّ شهر شحن بطاقة الأغذية الخاصّة.
....