دلالات الحمار الفيلسوف:
قراءة في كتاب "حوار مع حمار" للكاتب الراحل خليل عمر خليل
الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

يقف المرء طويلا أمام العنوان "حوار مع حمار" متسائلا هل ثمة حوار بين الإنسان والحمار، أو بين الإنسان والحيوان بشكل عام؟، أم ثمة دلالة رمزية للعنوان تكمن في السرد وتعطي دلالة على العنوان؟.
قبل الاجابة نعود إلى جذور التراث العربي حينما نطق الطير والحيوان في كتاب كليلة ودمنة، وهو أول كتاب أجرى الكلام على لسان الحيوان بما يحمله من دلالات رمزية. وكان لهذا الكتاب الذي وضعه عبد الله ابن المقفع (724- 759م) زمن الدولة العباسية أي في القرن الثاني للهجرة تحديدا في عام (130هـ - 750م) أثر كبير وعظيم على الآداب العربية والأجنبية، فقد ترجم إلى أغلب اللغات الأجنبية.
هذا الكتاب دفع العديد من الكتاب والأدباء والشعراء العرب إلى تقليده واقتفاء أثره في الكتابة، فقد نظمه شعرا ابن الهبارية (محمد بن محمد ابن العباس الهاشمي (ت 1110م) في كتاب باسم "نتائج الفطنة في كليلة ودمنة"، وكتب ابن المظفر (محمد بن أبي القاسم القرشي ت 598هـ) كتابا بعنوان "سلوان المطاع في عدوان الطباع"، وكذلك كتب على منواله ابن عربشاه (أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الدمشقي ت 1450م) كتابه "فاكهة الخلفاء ومناظرة الظرفاء"، ونجد في التراث العربي كتابات عديدة تسير على منوال كليلة ودمنة عند المعري في كتابه "القائف"، وفي رسائل "اخوان الصفا" نجد رسالة مناظرة بين الحيوان والانسان. وقد اعتبر المؤرخون رواية "الحمار الذهبي" للكاتب الروماني لوكيوس ابوليوس (125- 170م) التي كتبت في القرن الثاني الميلادي من أولى الرواية الانسانية التي أجرت الحوار من خلال تحول شخصية البطل إلى الحمار في الآداب الغربية.
جاءت هذه الكتابات على ألسنة الحيوان في زمن استبد فيه الحكام والملوك، فلم يستطع أحد أن ينتقدهم بشكل مباشر، أو يقدم لهم النصيحة والموعظة الحسنة، فجاء هذا الضرب من القصص لنصح الحكام بالعدل، كأنهم يقولون إذا كانت الحيوانات تمقت الظلم وتحقق العدل، فأولى ذلك بالإنسان، وإذا كان الولاة والرؤساء تأخذهم العزة والاثم، ويستكبرون أن تقدم لهم النصائح والنقد، فلا أقل من وضع النصيحة على لسان الحيوان أو الطير، إذا كان التصريح بالقول يعرض حياة الناقد للخطر، ففي التلميح نجاة من الضرر.
وفي العصر الحديث تواصلت الكتابة الأدبية المسترشدة بكليلة ودمنة، مستخدمين رمز الحمار للتعبير عن رؤاهم السياسية والاجتماعية، فكتب توفيق الحكيم كتابه "حماري قال لي"، وكتب أحمد شوقي قصيدة في الحمار، وكتب يحيى حقي كتابا ساخرا بعنوان "وجدت سعادتي مع الحمير"، وثمة حمار جبران خليل جبران الذي أراد أن يوصل معاني ودلالات من خلال حوار فلسفي خيالي بين حمارين. وكتب جورج اورويل روايته "مزرعة الحيوان" وكان الحمار بنيامين من الشخصيات الهامة في المزرعة، ورواية الكاتب الاسباني خوان رامون خمنيث "أنا وحماري"، وصاغ الكاتب التركي عزيز نيسين رواية "الحمار الميت"، وكتب وجدي الأهدل رواية "حمار بين الأغاني"، وفي الأدب الفلسطيني كتب جميل السلحوت روايته "حمار الشيخ" و"أنا وحماري"، وكتب محمود شقير رواية الفتيان "أنا وصديقي الحمار" وغيرهم كثير من الأدباء والكتاب الذين جعلوا من الحمار رسالة فلسفية واجتماعية وسياسية لنقد المجتمع والحكام، أو مقاومة الظلم.
ويأتي كتاب "حوار مع حمار" (الصادر في غزة عام 2021) للكاتب والشاعر الراحل عمر خليل عمر الذي نشر بعد وفاته في هذا السياق الأدبي، إذ يستنطق الحمار ويحاوره في واقع الحياة. ولا يبتعد هذا السياق عن منهج الغرائبية والعجائبية في الأدب الذي وضعه الكاتب الروسي تودوروف في كتابه "مدخل إلى الأدب العجائبي"، فمن الغريب والعجب أن يتحدث الحمار، إلا أن كاتبنا استنطقه وحدثه كأنه إنسان، ولكن دون مسخ أو تحول، لم يكن ثمة مسخ في النص، أي تحول الحيوان إلى إنسان، بل بقي الحيوان حيوانا، والإنسان إنسانا، ويتجسد الحوار بينهما، والتحول في لغة الخطاب، إذ جعل الحمار ناطقا ومفكرا كالإنسان.
كتب الكاتب الروسي انطون تشيخوف قصة في غاية الروعة بعنوان "وحشة – لمن أشكو حزني" عام 1886، تحكي عن الحوذي الذي لم يستمع إليه المجتمع، فيشكو همه إلى فرسه. وهذا ما حدث مع كاتبنا، فعندما يشعر الإنسان أنه وصل إلى قمة اليأس في دعوته إلى اصلاح حال المجتمع على مستوياته الاجتماعية والسياسية، وعدم وصول أفكاره إلى أبناء جنسه من البشر، فهم لا يريدون أن يسمعوه أو ينتصحوا من أفكاره، يلجأ إلى من يسمعه، ويبحث عن السلوى لديه.
انطلاقا من هذه الرؤية يأتي هذا الكتاب العجائبي القائم على حوار بين الإنسان والحيوان/ الحمار، ويقسمه الكاتب إلى ست حلقات للحوار، في كل حلقة يطرح موضوعا أو عدة موضوعات للنقاش مع الحمار، وهذا النقاش ليس هروبا من الواقع، بل السعي نحو تعرية الواقع وكشف زيفه، بهدف الوصول إلى عالم أفضل لبني الإنسان.
ينطلق الكتاب من فكرة رئيسية أن الإنسان والحيوان من مخلوقات الله، فلماذا ثمة ظلم من الإنسان تجاه أخيه الانسان، وبالتالي لماذا الظلم تجاه الحيوان. لقد صور جبروت الإنسان أن من حقه أن يفعل ما يشاء اعتقادا منه أنه الأفضل من بين مخلوقات الله، فمن حقه التصرف كما يشاء مع المخلوقات الأخرى بأن "يقطع هذه الشجرة، ويذبح تلك البقرة، ليرضي رغبته، ويشبع غريزته". وقد دفعه غروره وشعوره بالأفضلية أن يذهب باتجاه قتل أخيه، دون الالتفات إلى رسالة السماء التي تدعو إلى الرحمة والعطف التي أمر بها الله عباده نحو مخلوقاته.
ويأخذ في المقارنة بين الإنسان وبين مخلوقات الله الأخرى، والكشف عن الفروقات بين الإنسان والحيوان وذلك بـ"أن الخالق وهب لكل مخلوق لغته وسلوكه ورغبته ومشاعره"، وأن هذا الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما تفعله النحلة والنملة، كما أنه لا يصبر مثلما يصبر الحمار، فهو دائم الشكوى والأنين، ولم يتعلم من حكمة الحمار الذي يتحمل ما لا يطيق، ورغم ذلك يضربه الإنسان في وسط الطريق ولا تتسرب لمسات من الرحمة إلى قلبه، بل يصر على أنه جماد لا يحس ولا يفهم.
لذا اختار الكاتب هذا الحمار الصابر والخادم للإنسان لكي يطرح من خلاله أفكاره تجاه الموقف من الإنسان، هذا الإنسان الذي يتملكه الغرور والشعور بالأفضلية، فيعجر عن الوصول معه إلى اتفاق "إن حديثي معك لا يفيد، لا من قريب ولا بعيد، لن تقنعني كما أنني لن أقنعك، وقد لا أصل إلى اتفاق معك، إذ أن لك رأيك الذي عنه لا تحيد، فيما تريد وما لا تريد". وحينما يصل إلى نتيجة عدمية مع هذا الإنسان في أن يكون إنسانا لا سيدا مطلقا والكل تحت ارادته، يسعى مع نقيض الإنسان وهو الحيوان/ الحمار يقول: "وبعد إعمال فكري، وتدبير أمري، كان القرار .. أن أجري الحوار مع كاتم الأسرار وصانع القرار، السيد الحمار".
لقد اختفى الكاتب عمر خليل عمر خلف الحمار لبث أفكاره وآرائه ورؤيته للعالم التي لا يستطيع أن يعبر عنها للقيود التي يفرضها المجتمع، من محرمات وممنوعات اجتماعية وضوابط قاهرة للإنسان، أو لعدم اهتمام الإنسان نفسه بالاستماع إليه، فكان الحمار رسالته إلى بني البشر. لم يصنف الكاتب كتابه الذي جاء في 75 صفحة ضمن أي شكل من الأشكال الفنية، فهو ليس بقصة أو رواية، إنما هو في رأينا تجربة انسانية، لون جديد في الأدب يقوم على معالجة وتوليد رؤية مغايرة تجاه العالم والأشياء من خلال قلب معاير الحوار.
يلتقي الحمار على قارعة الطريق يجر عربة أو يحمل عائلة الحوذي أو أغراضه، يعني يكون في حالة عمل دائم، لا يشكو ولا يعترض، بل يعمل بصمت وكل ما يريده في الحياة المأكل والمشرب، وليس لديه طموح كبير.
يقوم السرد على طرح السؤال من الإنسان للحمار، ويكون ثمة جواب من الحمار للإنسان، كأن الحمار هو الإنسان الذي يتناقش معه الكاتب، فكرة فلسفية اجتماعية تنتقد مدى مألوفية هذا المجتمع مفادها أن هذا المجتمع الذي نراه مألوفا فيه قدر من الغرابة.
يعبر الحمار عن رأيه في سلوك الآخرين، ويقارن بين عالم الحيوان وعالم الإنسان، فهو حمار عاقل فيلسوف يمتلك الحكمة والثقافة والعلم، ويفهم كل شيء، ويدرك كل ما يفعله الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن رأيه مستسلم لسيده. فالحيوان يمتلك القوة التي يمكن أن تقتل الإنسان، ولكنه لا يفعل بل يبقى خادما للإنسان، في حين أن الإنسان حينما يمتلك القوة يتجبر ويقسو على أخيه الإنسان.
يدرك القارئ لهذا الكتاب مغزى الكاتب من هذا الحوار، فثمة أسئلة يطرحها الكاتب على الحمار يعبر فيها عن السخرية من الواقع، وانتقاد شديد لذات الإنسان وسلوكه، ويسعى لإجابتها من خلال الحمار، وتتمثل هذه الأسئلة في قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية كالتالي: السياسة وفيمن يمارسونها، وعن قوميته وجنسيته، واللغات التي يتكلمها، والثقافات التي يتعلمها، والجنس والدين الذي يتعصب لهما، وعن ارسال أبنائه إلى المدارس وماذا يتعلمون، وعن حرية التعبير، عن رعاية أولاده، وسكناه في قصر أم قبر، ولماذا يترك الأشياء القذرة في الشارع، وعن أمنياته لأخيه الحيوان وسيده الإنسان، وعن الفن والموسيقى والرقص والغناء، وعن الدين والعقيدة التي يؤمن بها، ومسألة التمييز بينهم، وعن دلالات وضع الرسن واللجام في رقبته، عن علاقته بزوجته وأسرته، وعاداته وتقاليده، وهل يتقاضى مالا مقابل عمله، وإذا عنده مال في أي بنك يضعه، وعن صومه لرمضان، وعن العيد، وعن المذياع والاستماع للأخبار، ورأيه في الحرب والسلام، وعن الصراع المرير مع عدو حقير، وعن تشكيل الاحزاب والجماعات السياسية والاجتماعية والدينية، عن الصواريخ والطائرات والقنابل والدبابات، وعن التقدم التكنولوجي، وعن دلالات العمل، وعن فن القيادة، وعن الحب والمشاعر الانسانية.
أسئلة غريبة ومثيرة للسخرية لكنها تعبر عن واقع الإنسان في حالة تناقض مع الحيوان، تصل إلى حد أن الحيوان يتمنى أن يصبح الإنسان مثله "أتمنى أن يبقى الحيوان كما كان، لا يلعب السياسة، ولا يطالب بالرياسة، لا يقتل أخاه، ولا يعتدي على سواه، يقلل الكلام، وينشر الوئام، شعاره الحنان والصدق والأمان، وخدمة الانسان، وأن تصير أنت مثلنا يا أيها الانسان".
إن الكاتب والمجيب هو الكاتب نفسه، ولكنه خلق طرفين للحوار لكي يبني من خلاله عالما مثاليا يؤمن به، ولا يستطيع أن يوصله أو يعلمه للإنسان، فجعل من الحمار أداته في توصيل الرسالة، فإذا كان الحمار لديه عالم مثالي غير قائم على القتل والتدمير والخراب، ونشر المحبة والأمان والسلم الاجتماعي، فالأولى أن يكون الانسان هو صاحب هذا العالم المثالي.
كانت الرؤية التي يسعى إليها الكاتب مستمدا اياها من فلسفة الحمار التي تقول: "إن لي فلسفتي في الحياة، لا أغيرها ولا أبدلها، لا أتلون ولا أنافق، عندي كل الناس سواء، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حقير أو أمير، ولا أفضح سرا، ولا أنشر خبرا، كل ما أراه أو أسمعه من سيدي الإنسان أكتمه في نفسي، وأحفظه لنفسي، صابر على المكاره، متجاهل للتوافه، أصادق من يصادقني، ولا أعادي من يعاديني، ثابت على مبدأي ومؤمن بديني".
هذا العالم المثالي البعيد عن الحقد والكراهية، وعن القتل والتدمير والخراب. القائم على المحبة والأمان. هو ما يسعى إليه الكاتب في نشر رسالته، ورغم أنه اسمع لموقف الحمار الكاشف للحقيقة التي يحاول الإنسان أن يتجاهلها لأنه مغرور ومعتد بذاته بالأفضلية، إلا أن هذه الأفضلية لم تمنحه الأمان والعيش بسلام، فما عليه إلا أن يهتدي بحكمة الحمار.