منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    الاستحواذ والاستبعاد الاجتماعي وأثرهما على تردي الأداء السياسي العربي

    الاستحواذ والاستبعاد الاجتماعي وأثرهما على تردي الأداء السياسي العربي



    لا تتوقف تساؤلات المتسائلين عن سر تأخر العرب عن اللحاق بغيرهم من الأمم في تسيير أمور دولهم، ويحاجج البعض في تساؤلاتهم مستندين الى منطق النظرية العلمية، التي من أهم ركائزها عنصر العمومية والتي تقضي بأن أي جهد علمي أو معرفي أو تقني سيصبح مُتاحاً لكل أبناء البشرية، فإن كان الأمر كذلك يتساءل المتسائلون: ألم يطلع العرب على تجارب أجدادهم، أو تجارب الآخرين القدماء والمعاصرين؟ وإن كان الجواب أنهم اطلعوا من خلال ما يُكتب ويُبث بوسائل الإعلام، فلماذا لم يستنبطوا وسائل تنظيمية تخلصهم مما هم فيه من سلبية وانعدام الوزن على الصعيد العالمي؟

    وفي هذه المحاولة في تسليط الضوء على خصوصية العربي الاجتماعية وتأثره بالعامل الصحراوي، سنجتهد في تتبع بعض التفاسير التي تساعدنا في قراءة المشهد، وكيفية معالجة آثاره.

    الصحراء في الكتابات العربية القديمة والحديثة

    أصاب المفكر العربي منيف الرزاز عندما أضاف عنصر الصحراء كعامل مهم من عوامل التشابه والتقارب في صورة المجتمع العربي من محيطه الى خليجه، فليس هناك مدينة عربية تبعد عن الصحراء أكثر من مائة كيلومتر، وبغض النظر عن الأصل العرقي (عرب، أمازيغ، أكراد الخ)، فالوضع ينسحب عليهم كاملاً، أي التأثر بقرب الصحراء...*1

    وفي الكتب التي تبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، تشير الدلالات أن مصطلح عربي لم يكن آت لوصف العرق العربي أينما وُجد، بل كان يُقصد فيه العنصر الذي لم يلتزم بنظام المدن والحواضر. ففي كتابات الآشوريين وُجد أن ملكهم هاجم مملكة الصفويين وهي مملكة تقع في الوقت الحاضر في الجزء الشرقي من المملكة الأردنية الهاشمية وكانت عاصمتها (أم الجمال والصفاوي أي h5). فيقول: هاجمت مملكتهم وقتلت ملكهم (جندب) وقتلت ألفاً من جنودهم وألفين من عربهم! وكان ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد.*2

    ويوقع (شمر يرعش) في نهاية كتاباته فيقول: أنا شمر يرعش ملك سبأ وحمير وحضرموت ومعين وعربهم!*3

    والقرآن الكريم يذكر (عربي) اثنا عشر مرة: إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون* وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق* ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين* بلسان عربي مبين* قرانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون الخ*4
    والقرآن الكريم هنا يذكر اللسان أو اللغة التي لم يلحقها (التلحين) والتأثر بغيرها من اللغات، وقد اتبع المدونون العرب الذين خشوا على اللغة العربية من الضياع عندما توسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام من الشعوب ذو اللغات المختلفة، فانشغل الخليل بن أحمد الفراهيدي والهيثم بن نصر بن سيار وغيرهم في وضع القواميس والمعاجم التي تحفظ العربية، فذهبوا الى صحراء عُمان وغيرها من المناطق الصحراوية التي لم يحتك بها الأجانب ليضعوا أول معاجمهم*5

    ونحن في الأيام الحالية نستخدم لفظ تعريب في التدليل على تنقية الشيء فنقول: عرب المُنتج للفراخ (الكتاكيت) أي استبعد ما هو غير ملائم للتربية (الضعيف والمشوه الخ). ونجد في نفس الوقت بلدات في فلسطين وسوريا تدل على مسألة النقاء، فعرابة وعروب وغيرها تدل على مهنة من تغربل القمح وتنقيه.

    لكن، أشار القرآن للأعراب لصفاتهم السلوكية فيذكرهم عشر مرات في القرآن الكريم ستة منها نزلت في سورة التوبة، والأربع الأخرى في سور الأحزاب والفتح والحجرات، وفي أغلب تلك الآيات صفات ليست بالحميدة...*6

    ولكن الأعراب ـ وعلى مر التاريخ ـ لم ينقطعوا في ضخ موجات هجرتهم الى المدن والحواضر، ففي كل مدينة عربية معاصرة يوجد من الأعراب الذين اندمجوا كلياً بواقع المدينة ومنهم من يأتي بقواعده الخلقية والسلوكية ويحتفظ بها داخل المدينة، ومنهم من يؤثر في سلوك الحاكم خصوصاً إذا عرفنا أن معظم قيادات الجيوش وحراس الحكام منهم..

    بين الأعراب وسكان المدن

    أول من أشار الى سلوك الأعراب وأثرهم في الحياة المدنية هو العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، فوصفهم بكرههم أو معاداتهم للحضارة (العمران)، وتوسع في شرح أثرهم بالعصبيات ودورها في زعزعة الحكم.

    ولكن أحدث من تكلم عنهم من زاوية علم الاجتماع الحديث هو العلامة علي الوردي، الذي تنبأ له رئيس جامعة تكساس وهو يمنحه شهادة الدكتوراه عام 1950 بأنه سيكون أهم عالم اجتماع في العالم الثالث..

    لقد أشار علي الوردي الى قضية في منتهى الأهمية عندما قال: (ونجد أن العراق الذي كان مهد الحضارات يقع على حافة منبع فياض من منابع البداوة، وهو منبع الجزيرة العربية. فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى العصر الراهن يتلقى الموجات البدوية الواحدة تلو الأخرى، فكان بعض تلك الموجات يأتيه عن طريق الفتح العسكري، والبعض الآخر منها يأتيه عن طريق التسلل التدريجي. وكلا هذين النوعين من الموجات لا بد أن يؤثر في المجتمع العراقي، قليلاً أو كثيراً، فتنتشر فيه القيم البدوية وتحاول التغلغل في مختلف فئاته وطبقاته*7

    ولو حاولنا في الوقت الحاضر أن نُسقط ما قاله الوردي على بقية أنحاء الوطن العربي، فإننا سنجد الحالة متشابهة من المغرب الى مصر الى كافة البلدان العربية.. وبعد التحولات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي عمت البلدان العربية، بعد نصف قرن من تأليف الوردي لكتابه، سنجد موجات الهجرة من الريف والبوادي الى المدن العربية، ودور المهاجرين هؤلاء في تشكيلات الأمن العام والجيش، واستخدام أعدادهم في التصويت (في اللعبة الانتخابية) سنعرف عندها مدى هذا التأثير في إحداث ارتباك كبير في سيرورة التعاطي السياسي والديمقراطي في البلدان العربي وسر عدم الوصول الى صيغ حديثة تتلاءم مع ما يجري في بقية أنحاء العالم..

    وإذا تتبعنا تلك الظاهرة من بداياتها، فإننا سنجد تغليب التأثير الصحراوي على التأثير العقائدي سواء كانت العقيدة دينية أو فكرية مدنية معاصرة.


    يتبع




    هوامش
    *1ـ الدكتور منيف الرزاز/ الأعمال الفكرية والسياسية/ مؤسسة منيف الرزاز للدراسات القومية1986
    *2ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ دار العلم للملايين
    *3ـ المصدر السابق
    *4ـ الآيات بالتتابع: سورة يوسف 2؛ الرعد 37؛ النحل 103؛ طه113؛ الشعراء 195؛ الزمر 28
    *5ـ محمد عابد الجابري مجموعة العقل العربي ثلاثة أجزاء/ مركز دراسات الوحدة العربية
    *6ـ القرآن الكريم التوبة آيات 90، 97،98، 99، 101،120؛ الأحزاب20، الفتح 11،16؛ الحجرات 14
    *7ـ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي/ علي الوردي/ بغداد: مطبعة العاني 1965 ص11

  2. #2
    كيف يتأثر ويؤثر ابن الصحراء بالمدينة؟


    قيل: الفرد والمجتمع توأمان، تنصهر صفات المجتمع كلها في شخصية الفرد، فيصبح مشهد الفرد وكأنه عينة صادقة لمجتمعه، ومن يتفحص نكات الشعوب يجدها تبدأ في معظم الأحيان ب (اسكتلندي عمل كذا.. صعيدي عمل كذا.. جنوب إيطالي عمل كذا، كردي عمل كذا، حمصي عمل كذا، وفي المغرب سوسي عمل كذا، وفي الأردن طفيلي عمل كذا الخ). من المؤكد أن ليس كل الاسكتلنديين يتصفون بنفس الصفة التي تحددها النكتة (البخل) وليس كل أهل الصعيد أو أي شعب يتصف بنفس الصفة التي غمزت بها النكتة، ولكن السمات العامة للمجتمع جعلت من مؤلفي النكات يسوقون نكاتهم لتبدو وكأنها مقبولة..



    قبل كل شيء لا بُد من ذِكر بعض الصفات الإيجابية والسلبية التي يتصف بها الأعرابي ويختلف بها عن ابن المدينة الأصلي الذي ولد وتربى وترعرع وتمرن على قوانين المدينة وعاش وتفاعل مع أهلها وِفق ضوابط سلوك ليس بالضرورة أن تكون مكتوبة في لوائح.

    كون الأعرابي القديم كان ساكناً للصحراء بخيامٍ يسهل اقتحامها أو حرقها فهو يدرب نفسه وأهله على العِفّة فلا يتلصص على غيره ولا يهتك لهم عرض. ويعتبر الدفاع عن جاره أمراً واجباً له ضرورة ووظيفة في آنٍ معاً. كما أنه يكرم ضيفه الذي يأتي فجأة ودون إخطار مسبق، ودون أن يطرق باباً (غير موجود أصلاً) بما يستطيع خصوصا عابر السبيل، لأنه سيمر بتلك المرحلة ويكون ضيفاً أو عابراً للسبيل عند غيره. ويجير من يستجير به ويدافع عنه حتى لو استجار من يستجير بامرأة، لأن بيئته تلك هي من تحدد كيفية سلوكه تجاه الآخرين*1. وقد يستطيع من يقرأ أشعار العرب في العصر الجاهلي أن يتعرف بسهولة على مقومات الشخصية البدوية.

    عندما كان الأعرابي يحس أن محيطه لم يعد يمده بما يلزمه من شعور بالأمن والكرامة والعيش الكافي، كأن تقل المراعي أو يتطاول أبناء الأسياد على إرغامه في تزويج ابنته لمن لا تحب أو لا يحب هو، ولم يكن يلقى من ينصفه فإنه يترك المكان ويستجير بمن يخلصه مما هو فيه فيرحل ويهجر مضارب قبيلته، ومن هنا فإننا لا نجد قبيلة واحدة لم تتشظى وتتفتت ويغادرها أبناؤها إلا في ثلاث حالات (ضمرة، وعبس وذبيان). وكانت القبيلة التي تذود عن نفسها الغزوات دون مساعدة أحد تسمى (جمرة) وقد حدد العلامة جواد علي أعداد المقاتلين فيها ب أربعمائة مقاتل، وما غيرها كانت أحلاف تتخذ من طوطم لها شعار فيكون أحيانا بشكل ثور أو أسد أو جحش فيكونوا بنو ثور أو أسد أو جحش الخ*2

    أما المدن العربية القديمة، ومن بينها ما مر على تأسيسها أكثر من عدة آلاف من السنين كدمشق وأريحا ونابلس وغيرها من المدن، توارثت طرائق الحرف والتصنيع والتجارة، وابتكرت لها منظومات من اللوائح الشفهية والمكتوبة، ومن الطبيعي أن يكون لتلك المهن شيوخ ومراجع يرجعون إليها لفض الخلافات، ومن الطبيعي أن تكون لغة التعامل من اللطف والدماثة لكسب الزبائن وتنمية التجارة والصناعة، ومن الطبيعي أن تكون الأعمال الأدبية المرافقة لتلك الأعمال والمهن تختلف عما هي عليه عند الأعراب.

    أما الأعراب فكانوا ينظرون الى أهل المدن نظرة احتقار واستصغار، رغم أنهم يترددون عليهم لشراء بعض الأسلحة واللوازم التي يحتاجونها. وقيل أن أعرابياً وقف أمام محل وراق (لبيع الكتب) فقال: أنا أعرف كل ما موجود بتلك الكتب: إنها كلها تقول (يا ابن آدم كن خَيِّراً: أو بلهجة أهل العراق: يا قارئي صير خوش آدمي). وقد عبر ابن خلدون عن تلك الفوارق بقوله ( أن طلب العلم والبراعة الصناعية صفة الأمة المغلوبة الخانعة ذلك لأنها صفة تستدعي الخضوع و الصبر والعمل الكادح وهذه صفات لا تتفق مع مزايا الإباء والبطولة والنجدة التي اتصف بها البدوي) (فالإنسان في نظر ابن خلدون لا يستطيع أن يكون محارباً باسلاً وطالباً للعلم في نفس الوقت، وكذلك لا يقدر أن يكون بطلاً أبياً وصانعاً ماهراً في آن واحد)*3

    ويقول ابن خلدون ( إن العلوم لا تنشأ إلا في المجتمع المتفكك الذي ينشأ فيه بنفس الوقت الميل الى الإجرام والسفه والخلاعة. فهو يرى أن المجتمع البدوي الخالي من العلم والصناعة خالٍ أيضاً من مقتضيات التفسخ الشخصي وأسباب الرذيلة. فالبدوي بنظره أسلم فطرةً وأقرب الى روح التدين والفضيلة من المدني. وكأن المجتمع المدني الذي يُشجع النوابغ وأصحاب الفنون والعلوم يشجع أيضاً أصحاب الجريمة والتهتك وسوء الأخلاق)*4

    هل ينسى الأعرابي سجاياه الصحراوية؟

    في عام 1992 وفي خضم نشاط لانتخابات البلدية في إحدى المدن الأردنية، استوقفتني عبارة أطلقها أحد أبناء تجمع انتخابي ضد آخرين وبحضورهم، عندما قال لهم: جدكم كان صانعاً! فثارت ثائرتهم وحاولوا الدفاع أن جدهم لم يكن صانعاً بل جدكم أنتم! وحدث شجار كان ممكن أن يؤدي الى زهق أرواح.

    ذكرتني تلك الحالة بمشهد أن أحد أبناء حيفا افتتح في بداية السبعينات من القرن الماضي مطعماً في شارع السعدون ببغداد، وكان يبيع فيه الفلافل والحمص و(الطحالات)، وعندما كنا نحن الطلاب العرب غير العراقيين نتشوق لمثل تلك الأطعمة، كنا نسمع تعليقات ساخرة من زملاءنا العراقيين تنتقص من هذا النوع من الطعام، فكان الطحال والكبد وغيره بنظر العراقيين هو من (سقط) الأطعمة التي لا يجوز تناولها، أما سحق الفول وإضافة (الطحينة) عليه فهي خلط كريه! وجر الحديث حتى كان هناك من يحتقر زراعة الخضراوات ويطلقون على من يزرعها اسم (حساوي) فلا يتزوجون ممن يمتهن تلك المهنة ولا حتى يقبلوه في حزمة الصداقة والزمالة!

    وقد تكون البلدان العربية تختلف من بلدٍ لآخر، وتكون طبائع التعامل مع فكرة الدولة وإطاعتها أو معاداتها والتمرد عليها تختلف من مكان لآخر في البلدان العربية، في اجتماع للشيخ محمد رضا الشبيبي مع الأديب طه حسين (في مجمع اللغة العربية) قال له طه حسين: إنه قرأ تاريخ العراق منذ العهد السابق للفتح الإسلامي حتى الوقت الحاضر فوجده بلداً ثائراً هائجاً لا يكاد يخضع لحكم حاكم ولا ينصاع لقوة قاهرة. فقال له الشبيبي: وأنا، أيها الدكتور، قد طالعت تاريخ مصر منذ أقدم عهودها حتى الآن فوجدتها بلداً خانعاً مستنيماً لكل تسلط لم يأنف أن يخضع حتى لحكم شجرة الدر! وقد اغتاظ طه حسين لجواب الشيخ، لكن أعضاء المجمع الحاضرين هدأوا من حدته وقالوا: إن الشيخ أعطاك الجواب اللائق بسؤالك.*5

    إذا كان النمر الذي يتم تدريبه على الأعمال البهلوانية في السيرك، قد اكتسب صفاته نتيجة البيئة الاصطناعية التي وُجد فيها، فإنه إن انتهت تلك البيئة فإنه سيعاود ممارسة (نموريته) الطبيعية في الغابة، إذا أعيد إليها. كذلك ابن البادية الذي يعيش سنوات طويلة في أوروبا مستخدماً للشوكة والسكين ومنضبطاً في الالتزام بالاصطفاف لإتمام معاملته، فإنه ما أن يعود للبادية فإنه سينزع نعليه قبل الولوج للديوان ويقبل يد والده ويأكل دون ملعقة أو شوكة..


    يتبع




    هوامش
    *1ـ محمد عماد الدين إسماعيل/ المنهج العلمي وتفسير السلوك ط4 الكويت1989، والطبعة الأولى في القاهرة عام 1961.. يشير في كتابه عن كيفية تأثير البيئة في تحديد شكل سلوك الإنسان [كان خبيراً تابعاً للأمم المتحدة] وأستاذًا لعلم النفس في جامعة عين شمس والكويت.

    *2ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ دار العلم للملايين
    *3ـ مقدمة ابن خلدون ص544
    *4ـ مقدمة ابن خلدون ص 121
    *5ـ كتاب أعلام الوطنية والقومية العربية ـ مير بصري ـ لندن ـ دار الحكمة 1990 ط1/ صفحة 33.





  3. #3
    الميل الى الاستحواذ


    الاستحواذ في اللغة هو الإحاطة بالشيء والتغلب عليه، وقد وردت في التنزيل الكريم مرة واحدة { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}*1.

    والاستحواذ له أشكال كثيرة ودوافع كثيرة أيضاً، فأن يسعى أحد الورثة على الاستحواذ على حصص إخوته أو أخواته وإن لم يستطع يستحوذ على أكثرها وإن لم يستطع يحصل على أفضلها فهذا شكل من أشكال الاستحواذ.

    والدولة تسعى للاستحواذ على أراضي دولة مجاورة أو مياهها الإقليمية أو قرارها الوطني وإن استطاعت تسعى الى ممارسة تلك السياسة حتى تستحوذ على قرارات أو مقدرات العالم، وهذه رأينا نماذجها في الإمبراطوريات القديمة، ولا نزال نراها حتى اليوم عندما يعلن ساسة أمريكا أن القرن الواحد والعشرون هو قرن الولايات المتحدة حزب رغبتهم!

    والحزب يسعى للاستحواذ على سلطة الحكم في بلاد، ويعمل من أجل ذلك، ورئيس البلاد أو حاكمها يسعى لأن يكون حكمه أزلياً حتى مماته وإن مات فإنه يورثه الى من يُحب من أبنائه، ويحاول جاهداً أن يكون الحاكم هو صاحب القرار الأول والأخير ولا يناقشه أو يعارضه أحد من أعوانه..

    ولا يقتصر الاستحواذ على ذلك (مادياً) فحسب، بل يسعى الى ما هو أبعد من ذلك، في الحصول على الأشياء دون ثمن، فالراغب بالاستحواذ إن استطاع أن يحصل على أراض واسعة دون ثمن أو بثمن بخس فلا يألو جهداً في ذلك، وإن استطاع أن يقهر عباداً دون أن يقدم قطرة دم من دمه أو دم أعوانه فلا يوفر ذلك (الحروب بالإنابة نموذجاً على مر التاريخ)، (واستيلاء أبناء الدائرة الضيقة المحيطة بالحكام من خلال الخصخصة وبيع معادن الدولة واستضافة النفايات السامة والتصرف بأثمانها نموذجاً).

    كما أن الرغبة بإطالة عمر المستحوذ تمتد لتصبح مرافقة لصفة الميل للاستحواذ {ولتجدنهم احرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود احدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون}*1

    سيقول قائلٌ: إن هذا الاستحواذ لا يقتصر على الأعرابي بل يعم كل أرجاء المعمورة، فالتوريث في الحكم لا يقتصر على العرب المتأثرين بالأعراب، بل يصل الى دول شيوعية سابقة وليبرالية (نموذج كوريا الشمالية)، ونموذج الولايات المتحدة الأمريكية عندما توارث أنسباء وأولاد عائلة محدودة أهم إدارات الأمن والدفاع والاستخبارات منذ عام 1903 وحتى عام 1973*3، فنقول هذا صحيح، ولكن دوافع الاستحواذ وطرق منعه أو التخفيف من آثاره تختلف من مجتمع الى آخر.

    دوافع الاستحواذ عند الأعرابي


    إذا كان الدافع الأساسي للاستحواذ عند كل الشعوب وحتى الأفراد هو الانتقال من حالة التدني والتأخر والعوز الى حالة التقدم والرفاهية والعزة، أو بمعنى آخر الانتقال من إشباع المنفعة الحدية والانتقال منها الى المنفعة الرمزية ومنها الى المنفعة الإستاطيكية.

    يعني إذا كانت أربعة جدران وسقف وباب تكفي صاحبها شر المتلصصين والأعداء والظروف الجوية، فإن تصميم بيت من الحجر والإسمنت ووضع الأقواس فيه على طراز (رمزي) معين، هو انتقال من المنفعة الحدية في الحالة الأولى الى الرمزية في الحالة الثانية، وإذا وضعت بعض الإضافات من قرميد ونباتات زينة وتماثيل فاخرة فهو انتقال الى حالة التفرد الخاصة (الأستياطيكية) وهكذا يتم في الطعام كقوت يكفي صاحبه للبقاء ثم الانتقال الى اللحوم والصنوبر والمطيبات الأخرى، وهذا ينطبق على اللبس ووسائل النقل من حمار وجمل الى سيارة (لادا) ومن بعدها سيارات فارهة ذات قوة حصانية عالية الخ.

    الأعرابي، كان يعطش هو وحيواناته بشدة، ويجوع هو وحيواناته بشدة، فكان يرحل ويقاتل ويغزو وينهب ويموت من أجل البقاء، وكان من يقوم بذلك هو الوحيد الذي يتصف بالصفات الحسنة. كان الخوف من الجوع يدفعه لتوسيع مساحة سيادته، وحتى لو أصبح ذا مال وافر وحيوانات عديدة، فإن ذلك لن يجعله يحس بالأمان، وقد انتقلت تلك الصفات الى كثير من أبناء مجتمعنا الحالي.

    المُغالبة قرينة الاستحواذ


    التغليب هي الاستحواذ بالقهر والقوة الشديدة، والدولة الفلانية غلبت الأخرى أي استولت عليها بالقهر، وهي غير الفوز فالفوز هو النجاة بالأمن والخير، وقد خاطب الله تعالى عباده بلغة يفهمونها { إن ينصركم الله فلا غالب لكم }؛ {قال رجلان من الذين يخافون انعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}؛ {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين}*.

    واليوم نرى تلك المغالبة واضحة في حياة العرب، فقد يسأل أحدهم الآخر: بكم اشتريت هذا الغرض؟ فيقول: بكذا.. فيقول الأول: لقد غلبك! وتظهر المفاصلة في بلادنا بالبيع والشراء لتقليل الثمن دون الالتفات الى التسعيرة الرسمية وغيرها. وتظهر تلك الكلمة في عرض نتائج المباريات الرياضية: الفريق الفلاني غلب الآخر بثلاثة أهداف، وكأن المسألة محصورة بالصراع والقهر.

    في حين تظهر كلمة فوز للتدليل على الانتهاء من سباق ومنافسة على فعل الخير، وقد وردت بالقرآن الكريم بهذا المعنى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} التوبة100


    هوامش

    *1ـ سورة المجادلة 19
    *2ـ سورة البقرة 96
    *3ـ الطبقة الحاكمة في أمريكا: تأثير الأثرياء والنافذين في دولة ديمقراطية/ ستيف فرايزر وغاري غرستل/ ترجمة: حسان البستاني/ بيروت: الدار العربية للعلوم 2006 صفحة 233 وما بعدها.
    *4ـ السور حسب الترتيب: آل عمران 160؛ المائدة 23؛ الأعراف 113.

  4. #4
    بوركتم وأجدتم وأحسنتم.
    سياسة الاستحواذ طغت حتى أثرت على الأفراد وهي سياسة عالمية بأساليب متعددة.
    ناجي أبو عيسى.غزة العزة

  5. #5
    الاستبعاد الاجتماعي



    الاستبعاد، قد يكون نقيضاً للاستحواذ، ولكنه نقيض قرين، أي يلتصق به التصاقاً شبه وظيفي. فاستبعاد الشيء هو عزله وإهماله وانتقاص قيمته، واعتباره غير موجود بالأصل.

    والاستبعاد الاجتماعي قديم قِدم تأسيس المدن، وقد وُجد مع عصر العبيد القديم، ويذكره حمورابي في شرائعه بشكل حثيث فما أن يذكر الإنسان الحر حتى يذكر معه الإنسان غير الحر فمثلاً تقول المادة 209 (من ضرب امرأة فأسقط ما بجوفها فعليه دفع عشرة شواقل من الفضة إذا كانت حرة وخمس شواقل من الفضة إذا كانت أَمة (من العبيد).

    أما اليونانيون القدماء فقد قسموا المجتمع الى قسمين فبرأي أرسطو: (هناك نوعان من البشر: منهم الراكدون، المتوحشون الذين يشكلون قطعاناً كبيرة في الممالك الضخمة، أما الآخرون فهم الذين يتجمعون بشكل منسق ومنظم في المدن، الأولون ولدوا ليكونوا أرقاء مستعبدين أما الآخرون فولدوا ليكونوا أسياداً وأحرارا بفضل قدرتهم على التنظيم العالي)*2

    وفي العهد الإسلامي، تم تصنيف المهن المحتقرة والخسيسة في رسائل (الجرسيفي)*3 و (ابن عبد الرؤوف) وقبلهما الجاحظ، فقد وضعوا قائمة طويلة من المهن الخسيسة والتي يترتب على المحتسب ومن بعده المجتمع في استبعاد آراء هؤلاء، ومن بين ما ذكروا من أصحاب المهن الخسيسة: المشعوذون والحجامون والماشطات من النساء والمغنون والطبالون وكتاب العرائض وقد استوقفتني تلك المهنة لأرى لماذا صنفت مع المهن الخسيسة فيفسر الجرسيفي ذلك بأن من يمتهن تلك المهنة يجلس على قارعة الطريق فيقف (الزعران) على مقربة منه ليتسمعوا الى قصص النساء اللواتي يكلفنه بكتابة ما يشكون منه فيلاحقوا تلك النساء!


    لقبل أكثر من نصف قرن تقريباً، كانت المدينة تقسم الى أحياء وحارات لكل حي أو حارة باب وبواب ومجلس أعيان ينظر في كل مسائل الحي، فإن أراد أحد سكان الحي بيع بيته، فإن مجلس أعيان الحي هو من يقرر كيفية البيع ويحرم عادة دخول قادم جديد غير معروف.. ولو عدنا الى بعض المدن العربية لنجد تلك الأبواب لا زالت ماثلة حتى اليوم إما بأبوابها أو أسمائها ففي الموصل مثلاً: باب الطوب (أي المدفع) وباب (لكش) وباب سنجار الخ، وفي القدس وبغداد ودمشق لا زالت تلك الأبواب أو أسماؤها معروفة.

    الاستبعاد ضمن وظيفته السياسية والاجتماعية


    فالتعريف الإجرائي للاستبعاد حسب جون هيلز (يُعد الفرد مستبعداً اجتماعيا إذا كان لا يُشارك في الأنشطة السياسية للمجتمع الذي يعيش فيه)*4

    ويبين الباحثون مواصفات المستبعَد فيقولون: إن دخله الأسري يقل عن نصف الدخل العام للمواطن في بلده. وأنه ليس مستخدما ولا يعمل لحسابه، ومتعطلا بسبب مرض طويل أو إعاقة أو أي سبب آخر. لا يدلي بصوته في الانتخابات العامة وليس عضوا في منظمة مشاركة في الحملات السياسية (حزب سياسي، أو نقابة عمالية، أو جمعية معينة).

    ويصف الباحثون تفاعل المستبعد اجتماعيا فيقولون: إنه لا يصغي إليك، ولا يشجعك ولا يساعدك في الأزمات، ولا ترتاح إليه، ولا يبدي أي تقدير لك.

    إن هذا النوع من الناس قد نجده يفوق 50% من المجتمع العربي وفي أي بلد، وقد تبين نسب المقترعين في الانتخابات والاستفتاءات العامة مدى سعة هذه الشريحة في المجتمعات العربية.

    ومن المفارق، أن تجار الأصوات الانتخابية قد وجدوا في تلك الشريحة الواسعة منجماً ضخما للأصوات حيث يبنون شبكات السماسرة لشراء أصوات هؤلاء.

    الاستبعاد الإرادي


    إذا جاز لنا أن نطلق على الصنف السابق من المستبعدين اسم الاستبعاد القهري، حيث يبعد الفرد بفعل قوى خارجية وظروف اقتصادية، فإن هناك صنف يعتبر هو الأخطر بين المستبعدين، فقد يستبعد الفرد نفسه إرادياً، فلا يشارك من حوله أي نشاط، ولا يدرس أبناءه في مدارس المجتمع العامة بل في مدارس وجامعات خاصة ولا يعالج نفسه أو أسرته في مصحات المجتمع، بل يختار مستشفيات خاصة الخ.

    إن هذا النوع من المواطنين يتدخل بطرف خفي لاختيار النواب والحكومات من أجل حماية مصالحه، ولكنه لا يشارك فيها مباشرة، ولا يريد أن يجعل المجتمع المحيط به (أقاربه، جيرانه إن وجدوا) يمنون عليه في دعم معين، حتى لا يصبح عرضة لابتزازهم!

    إن هذا النوع من المستبعدين إرادياً هو ما فتح شهية الحكومات العربية للخصخصة، فلم تعد الخدمات المدرسية مثلما كانت ولم تعد المصحات كما كانت، كما أن استفحال ظواهر الغلاء وانتشار النزعة الاستهلاكية العالية التي تأكل مدخرات المواطنين (إن وجدت) تذهب لمحاكاة ما تبثه أجهزة الدعاية والإعلام التي تخاطب أصلاً ذوي القدرة الشرائية العالية.

    يتبع

    هوامش
    *1ـ شريعة حمورابي/ عباس عبودي/ جامعة الموصل 1990 صفحة266
    *2ـ أرسطو: كتاب السياسة، أنظر الموسوعة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي/ بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر1984 الجزء الأول الصفحات من 98ـ 131
    *3ـ الجرسيفي: ضمن ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة. تحقيق: ليفي بروفنسال القاهرة 1955 صفحة 121. وجرسيف: منطقة تقع بين فاس وتلمسان.
    *4ـ الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم/ تحرير: جون هيلز وجوليان لوغران و دافيد بياشو/ ترجمة وتقديم: محمد الجوهري.. بالأصل الكتاب صدر عن أكسفورد عام 2002 وصدرت الترجمة العربية بالكويت عام 2007 عن عالم المعرفة. صفحة 70 وما بعدها.

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •