الطبقات والحياة السياسية


عاب (بيرك Burke) في كتابه (خواطر عن الثورة الفرنسية ) على الدستور الذي أنشأه رجال الثورة عام 1789، أنه نظم العلاقات بين الناس، دون أن يشير الى مسألة الطبقات، وهذه المسألة هي التي ميزت الفكر السياسي الحديث عن الفكر السياسي القديم، فالقديم كان يشير الى الطبقات بوضوح ويضع نصوصه واضحة بما يتلاءم مع كل طبقة، في حين تجاهل الفكر السياسي الحديث موضوع الفواصل الطبقية، بينما يكرسها رجال الحكم بوضوح.
كان اليونانيون القدماء وبعد أن يستثنوا العبيد والأجانب، يقومون بتصنيف المجتمع حسب الدخل، فكان من يملك 500 (مديمنوس)*1 من القمح أو الحبوب، وهو ما يعادل 26 طن وكانوا يُسمون طبقة (أصحاب الخمسمائة مديمنوسLes penetacosiommedines)، يصنف كطبقة عليا يكون منها القادة والنبلاء، ومن يملك 300 (مديمنوس) يخدم في الفرسان وقد أطلق عليها طبقة الفرسان (Les chevaliers)، أما الطبقة الثالثة من الأحرار فهم من كان أحدهم يستطيع إطعام زوج من الماشية! ولذلك أُطلق عليهم اسم (أصحاب الزوج Les Zeugites) وكان هؤلاء يكونون سلاح المشاة، أما الطبقة الرابعة وهم من المعدمين، فهؤلاء كانوا معفيين من دفع الضرائب، ولكن لا يحق لهم الترشيح أو الانتخاب، وكانوا يستخدموا في تجذيف السفن في القتال..


أما في روما، فكان التقسيم يتم الى قسمين الأول من يتمتعون بالحقوق الكاملة (Cives Optimo jure) كالتملك والزواج ممن يريدون والترشيح والانتخاب، والحصول على الألقاب والمهام السياسية والإدارية والعسكرية العليا؛ والقسم الثاني ينقسم الى طائفتين، الأولى: أصحاب الحقوق المحدودة (Cives minuto ) الذين كانوا يتمتعون بحقوق الملكية، ولا يتمتعون بحق الزواج ممن هم في الطبقة الأولى، ويكون لهم حق التصويت دون حق الترشيح، ولم يكن لهم الحق في تسلم مناصب عالية في الدولة كالقضاء، أو مناصب دينية. أما الطائفة الثانية: فكانت تشمل المواطنين الذين لهم حقوق المواطنة لكن دون الحقوق السياسية (Cives Sine suffragio) .


يعني، قبل الثورة الفرنسية، كانت الدساتير والأعراف السياسية تراعي وضع الطبقات ليس في فرنسا وحدها بل في معظم دول أوروبا الكبرى والتي كانت تخطو خطوات واسعة لتحديث بناء الدولة. فكان لفئة النبلاء قانونها الخاص، فإذا مات الرجل النبيل، خلفه بالاسم ابنه الأكبر وحصل على ثلثي التركة، وإشارة النبيل والأوسمة وقصر الوالد، دون أخوته الصغار أو أخواته، ويتقسم ثلث التركة بين أفراد الورثة بالتساوي.
وكان النبلاء يعفون من بعض الضرائب، عدا ضريبة الحرب، وبالمقابل فكان بإمكانهم جباية الضرائب ممن حولهم من الرعايا. ولم يكن النبيل ليعاقب بالضرب بالسوط، في المخالفات العادية، كبقية أبناء المجتمع، وإذا حكم عليه بالإعدام نتيجة خيانة عظمى، فلا يموت بالشنق كبقية أبناء المجتمع المخالفين، بل بالمقصلة (قطع الرأس).


ورغم ندرة عقوبات النبلاء بالتاريخ الأوروبي، سواء بالإعدام أو بالغرامة، فكانت العقوبات التي توضع عليهم مضاعفة جداً، فغرامة النبيل 60 جنيها ذهبياً في حين غرامة المخالف العادي 60(صولدي: وهو 5% من الجنيه) أي أن عقوبة النبيل عشرون ضعف عقوبة المخالف العادي.
كان النبيل يفقد مكانته كرجل نبيل وإشارته وحقوقه، إذا عمل في التجارة أو الحرف اليدوية (عدا صناعة الزجاج)، وإذا قبل العمل عند أحد أو أراد التطوع في سلك الشرطة، فإنه يفقدها أيضاً.


النزعات السياسية للطبقات


مهما كانت درجة التنظيم السياسي للطبقات، وحتى لو كانت تلك الطبقات غير مُنَظمة سياسياً، فإنه لا يمنع من أن تكون لها أنواع من الطموح السياسي والاجتماعي.


وهذا ما يُستخلص من ملاحظة الحركات الدينية الكبرى، فالمسيحية التي بشّر بها القديس بولس في حوض البحر الأبيض المتوسط (جهة أوروبا) انتشرت بين أوساط العبيد والفقراء والمعدمين، في حين لم يرتح لها كبار الملاك والإقطاعيين ولا حتى سادة المجتمع من مختلف الأصناف.. وبعد أن اعتنق سادة المجتمع الديانة المسيحية حولوها لخدمتهم في البداية، وما أن انتشرت البروتستانتية حتى اعتنقها الفقراء دون الأغنياء مما جعل (باكل Buckle) يكتب أن الكاثوليكية هي دين الأغنياء والبروتستانتية دين الفقراء.


ولا تختلف العقائد السياسية عن الدينية، فالمحافظون يكرهون الأفكار الثورية والشيوعية ويكرهون الانقلابات، لأنها تهدد مصالحهم، والأقليات الدينية والعرقية تنضوي وتؤيد العقائد التي تدعو للأممية وترتفع عن الحواجز الضيقة كالعرق والطائفة، حيث لا يكون لهم نصيب فيها.
التصارع والنزاع بين الطبقات


إذا كانت الطبقات وليدة تقسيم العمل الاجتماعي الى حد كبير، فإن المنطق يفرض أن تتعايش تلك الطبقات فيما بينها بسلام وهدوء، ولكن الواقع يقول غير ذلك، فالطبقات تتصارع فيما بينها، ووراء ذلك الصراع الاختلاف بالعقائد أو أرضية التفكير والحكم المُسبق الذي تكون تجاه الطبقة الأخرى في مراحل سابقة.


فسكان القرى والأرياف، يكرهون سكان المدن وينظرون تجاههم بشك وعدم ارتياح، وطبعاً هذا له جذوره في أوروبا، فقادة البلاد يعيشون في المدن، وفي حالات الحرب يحشدون أبناء الريف للدفاع عن العرش والنظام السياسي، دون اعتبار لتعطيل مصالح أبناء الريف عندما يذهبون للجبهات..
ولم يكن الصراع في المدن بين النبلاء وبقية أبناء الشعب أقل وطأة، ففي فرنسا وقبيل الثورة الفرنسية ارتفعت الضرائب على الشعب من 1.2 مليون جنيه الى 80 مليون جنيه، لم يتحمل النبلاء جنيه واحد منها، إذ صدر مرسوم بإعفائهم.


وعموما، فإن الصراع بين الطبقات وراءه عاملين: الأول الظلم والضغط من قبل طبقة ضد أخرى، والثاني تيقظ شعور الطبقة المظلومة..
ويصف في حالة أخرى (فوستيل دي كولانج Fustel de coulanges ):


(حيثما وجدت التجارة فإن أرباحها تعود على الأغنياء بسبب المغالاة الفادحة في الأثمان، أما حيثما وجدت الصناعة فإن الصناع غالبيتهم من المسحوقين). وهذه المقولة تفسر لنا كيف تم رصف الناس في أوروبا منذ قرنين حول العقائد الماركسية وغيرها من العقائد التي قسمت المجتمعات طبقياً، ولا زالت آثارها حتى اليوم.


وقد مرت الصراعات بمحطات كُبرى رسمت في النهاية شكل الدولة، ففي بريطانيا بدأ الصراع من أجل إنهاء الملكية منذ 1640 وانتهى عام 1649 ليكون الملك يملك ولا يحكم، وسميت تلك الفترة بالنضال البرلماني..


وفي القرن العشرين انتشرت الخطابات السياسية التي أدخلت في نصوصها مسألة صراع الطبقات، ففي الصين وروسيا ظهر اسم العمال والفلاحين، [وفي منطقتنا العربية ظهرت الجماهير الكادحة تدليلا على العمال والفلاحين وهناك من ضم إليهم الجنود والطلبة].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا هو عرض للجزء الرابع من كتاب (طبقات المجتمع) للعالم الفرنسي (أندريه جوسان) ترجمة الدكتور محمد سيد بدوي