منقول بقلم: Khawla Dhahri

#إميل_دوركايم و المقاربة الوظيفية في علم الاجتماع التربوي"
⬅1- مقدمة:
ولد إميل دوركايم بإبينال سنة 1858 و توفي بباريس سنة 1917، و يعتبر وريثا للنظرية الوضعية و من رواد الحركة العلمية في عصره. و لعل شغفه بعلم الاجتماع، هو الذي جعله يسافر إلى ألمانيا حيث تتلمذ على أقطاب مفكريها أمثال “شمولر” و“فونت”، و شغل كرسي علم الاجتماع و التربيةبجامعة بوردو و السوربون. و قد ترك دوركايم مؤلفات و بحوث كثيرة، نشر بعضها في حياته، و نشر أتباعه البعض الآخر بعد وفاته. 1
تبنى إميل دوركايم الطرق و الغايات، فبالنسبة إليه: الطرق هي التي تأخذ العلوم الطبيعية نموذجها، و الملاحظة للتعرف على قوانين و وظيفة و تحول المجتمعات، و اعتبار الأحداث الاجتماعية كأشياء تكشف من خلال الرموز الموضوعية المتجسدة في الإحصاء. أما الغاية فتتمثل في التعرف على الاضطرابات و الاختلالات الوظيفية المحتملة، كما هو الأمر بالنسبة للتشخيص الطبي.
2- التربية من منظور دوركايم :
يعرف دوركايم التربية بقوله:
« هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ذلك ناضجة للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة و تنمية عدد من الاستعدادات الجسدية و الفكرية و الأخلاقية عند الطفل، و التي يتطلبها المجتمع السياسي في مجمله والوسط الخاص الذي يوجه إليه».2
من خلال هذا التعريف يمكن أن نقول أن دوركايم يرى أن التربية تقتصر على الأجيال التي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية و أنه جعل العلاقة تحدث بين شخصية الراشد و الطفل، و أقر كذلك بأن غاية التربية في نظره ليست تكوين الفرد من أجل ذاته بل من أجل المجتمع في الدرجة الأولى، و اعتباره التربية عملية حفظ التراث الثقافي و نقله من جيل إلى آخر.
يقول دوركايم:
« والإنسان الذي يجب أن تحققه التربية فينا، ليس هو الإنسان كما خلقته الطبيعة، ولكن كما يريد المجتمع أن يكونه، ويريده كما تقتضي ذلك نيته الداخلية».3
إن تصور دوركايم للتربية كظاهرة سوسيولوجية لا ينفصل عن تصوره العام للظاهرة الاجتماعية، وهي أن التربية تتميز باستقلالها عن الفرد و بأسبقيتها عليه و عموما فهي تتسم بخاصيتي الخارجية و القهر، لأن النظام الاجتماعي يفرض معايير أخلاقية و عادات تربوية يلزم الأفراد و الجماعات بالامتثال لها و التكيف معها و إلا تعرضوا بفعل ذلك للعقاب. وفي اختلاف التربية حسب المستويات الاجتماعية يقول دوركايم:
« وحتى اليوم ألسنا نرى أن التربية تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، وحتى باختلاف الجهات الجغرافية؟ فتربية المدينة ليست كتربية البادية، و تربية البرجوازية ليست كتربية العامة، يمكن القول إن هذا النظام لا تقره الأخلاق، وأنه من البقايا التي لن تلبث أن تزول، ومن السهل الدفاع عن هذه الفكرة. واضح أن تربية أطفالنا يجب ألا تكون رهنا بالمصادفات التي تجعل مساقط رؤوسهم هنا و هناك، وتجعلهم يولدون في هذه الأسرة أو تلك، لكن حتى لو وجد الضمير الخلقي المعاصر الإرضاء الذي ينتظره في جعل التربية متشابهة… فإن تنوع المهن المعنوي يكون سببا في تنوع بيداغوجي كبير».4
وفي دراسته للمواقف التي ينبغي اتخاذها لتربية أخلاق التلاميذ، انطلاقا من تعليم موافق لعقلياتهم يقول:
« الواجب هو الخلق في أمره وفي نهيه، إنه المستودع الذي ينبغي الخضوع له، فالخير هو الخلق باعتباره يظهر لنا كشيء جيد و كمثل أعلى مرغوب فيه، و الذي نتطلع إليه بمحض إرادتنا. و وحدهما فكرة الواجب و فكرة الخير كونهما مفهومين مجردين، عندما نربطهما بواقع حي، يحتاجان إلى كل ما يمكن أن نخاطب به العقول و القلوب، وخصوصا عند الأطفال. ولا شك أن كل فرد له شعور حي اتجاه الأشياء الخلقية، و يمكن أن يتحدث عنها بكل حماس».5
و يمكننا تلخيص الأفكار التربوية لدوركايم في أربع نقط رئيسية:
كل نظام تربوي عبارة عن مؤسسة اجتماعية، فمن خلال التحليل التاريخي لهذا النظام يتبين أن البنية الاجتماعية هي المحددة و المسؤولة عن تأسيسه و استمراريته و تغيره و مسؤولة عن مضامينه و أشكاله.إن الغاية التي يهدف إليها النظام التربوي هي التنشئة و التي تتحدد تخصصاتها من خلال البنية الاجتماعية كذلك.إن هذا التلازم بين البنية الاجتماعية و النظام التربوي ليس مطلقا، لوجود نوع من الاستقلالية النسبية الذاتية لهذا النظام.يعتبر هذا النظام التربوي أداة في الصراع الإيديولوجي و التي تختلف فعاليته تبعا للفترات و اللحظات التاريخية. 6
وفيما يلي خطاطة تمثل تعريفا لكلمة تربية كما وردت عند دوركايم في كتابه ” تربية و سوسيولوجيا” : (الخطاطة في الصورة)
3- الضمير الجمعي أو الوعي الجماعي عند دوركايم:
يعد المجتمع في تصور دوركايم، ذلك “الوعي الجماعي” الذي يعتبر من الألفاظ المعروفة في سوسيولوجيا دوركايم، فهي عبارة عن كينونات عادية، قبل أن يكون لها وجود ملموس أو مألوف. و الأحداث الاجتماعية هي عبارة عن أشياء أو أمور أخلاقية، إذ ليس هناك مجتمع مجرد من جسم القوانين و الممنوعات و المقدسات. إن هذه الأشياء الأخلاقية، هي التي تكَوٍّن فيه الجوهر، لأن التفوق الأخلاقي للمجتمع على الفرد هو الذي يقدم خاصية كاملة سليمة و مقبولة.
بالنسبة لدوركايم، فإن المراقبة الاجتماعية للأفراد تعتبر أمرا ضروريا حتى لا ينهار هذا الأخير من جراء وفرة الحرية، لأن المجتمع السليم، لا يمكن أن يتحقق تفتحه و نموه إلا بالاندماج ضمن بيئة تتفوق و تعلو عليه.
والمجتمع السليم، هو الذي يخيم عليه نوع من الإجماع، كما أن الحالة العادية لمجتمع ما، هي التي يتوفر فيها نمو التلاحم بين أعضائها، أما نمط الضبط العادي للتلاحم فإنه يختلف باختلاف درجة تحضر ذلك المجتمع و بدرجة الاختلاف القائمة داخله. كما يعتبر تبادل خدمات المشاركين في العمل الجماعي من أهم عوامل التلاحم العضوي و الوظيفي لكل مجتمع من المجتمعات. و القول بالتغيير الاجتماعي عامل أساسي لتجاوز الأزمات و الاضطرابات المختلفة، و يحيل على عملية عزل متغيرات هذه الاضطرابات التي تدخل في المهام التي يقوم بها السوسيولوجي.7
4- التنشئة الاجتماعية:
يعتبر دوركايم أول من استعمل مفهوم التنشئة الاجتماعية في إطار نظري و منهجي من خلال أعماله السوسيولوجية الخاصة بالتربية، فقد حاول تجاوز الأطروحات الفلسفية المثالية و المجردة التي كانت سائدة فيما قبل عند كل من “كانط Kant” و“هربرت سبنسر Herbert Spencer “.
وبالنسبة لتوجهه السوسيولوجي، فإن عملية التنشئة الاجتماعية الموجهة أو المفروضة، تعتبر من الأمور الضرورية لاستمرار النمو و التطور الاجتماعي، لأن الفرد في انعزال عن المجتمع، يكون عاجزا على تحقيق ذلك التطور و النمو. إذ ليس هناك مجتمع مجرد من جسم القوانين و الممنوعات و المقدسات، فهذه الأمور الاجتماعية، هي التي تكون فيه الجوهر. كما أن للمجتمع تفوق أخلاقي على الفرد، باعتباره يمتلك خاصية كاملة سليمة مقبولة. أما حرية الأفراد، فإنها إذا توفرت لديهم فإنها تساهم في تدميرهم. ولذلك يرى دوركايم بضرورة المراقبة الاجتماعية للأفراد، حتى يتمكنوا من تحقيق تفتحهم و نموهم عن طريق الاندماج ضمن بيئة اجتماعية تتفوق و تعلو عليهم.
بتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي على الأجيال الصاعدة، نكون قد وفرنا مناخا سليما لظهور مجتمع يخيم عليه نوع من الإجماع، ذلك أن الحالة العادية هي التي يتوفر فيها نمو التلاحم بين أعضاء المجتمع. أما أنماط الضبط، فإنها تختلف باختلاف درجة تحضر المجتمع و بدرجة تلاحمه.8
5- خلاصة:
لقد أتت المرجعية السوسيولوجية الوظيفية لدوركايم بمفاهيم و تصورات حول التربية، لعل من أهمها تعريفه لهذه الأخيرة وأفكاره المتعلقة بالنظام التربوي، كما تطرق للتنشئة الاجتماعية و أهمية الوعي الجماعي في تكوين شخصية الفرد عن طريق نقل الإرث الثقافي الجماعي مع تأكيده على خاصيتي القهر و الخارجية ولذلك فالفرد حسب دوركايم ليس إلا ذلك الامتداد المنطقي للمجتمع.
مراجع:
1- مصطفى الخشاب، تاريخ التفكير الاجتماعي و تطوره، ص 269
2- E. Durkheim, éducation et sociologie, p 41
3- J. Leif et Rustin, Philosophie de l’éducation, T.I ed, Delagrave, 1970, p 115-116
4- Emile Durkheim, éducation et sociologie, 4éme ed de la nouvelle ed, 1982, Puf, p 47.
5- Emile Durkheim, éducation morale, ed. nouvelle Alcan, 1938, p 107
6- Mohamed Cherkaoui, socialisation et conflit, les système éducatifs et leur histoire selon Durkheim, Revus Française de sociologie, 1976, page 198.
7- عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا التربية، منشورات عالم التربية، 2000، ص 36-37.
8- عبد الكريم غريب ،نفس المرجع السابق، ص 111-112.