إيميل دوركايم
مقدمة:
تعتبر السوسيولوجيا “علما نقديا يتخذ كهدف له تفسير وفهم الميكانيزمات الاجتماعية الخفية” ، وقد ظهر هذا العلم في القرن 19 نتيجة للتراكم الكمي والكيفي الحاصل في الدراسات القانونية والسياسية والاقتصادية وبرزت ضرورة قيام علم يهتم بالظواهر الاجتماعية بما هي اجتماعية خصوصا بعد ظهور مبدأ التخصص في العلوم، بحيث لم تعد الفلسفة أما للعلوم، وهذا الانفصال ساعد على انطلاق التأسيس لعلم الاجتماع على يد الآباء المؤسسين : سان سيمون، أوغست كونت، إميل دوركايم، كار ل ماركس، وماكس فيبر. ليصبح بذلك علما قائما بذاته له مناهجه ونظرياته المتنوعة التي تسعى إلى مقاربة الظواهر الاجتماعية فأساس السوسيولوجيا –حسب مارسيل موس- هو ملاحظة المجموعة الاجتماعية وسلوكاتها ملاحظة شمولية والفاعلون الاجتماعيون –حسب بيير بوريو- لا يعرفون حقيقة ما يفعلون ولماذا؟ والنظرية الاجتماعية تعتبر أن الفاعلين الاجتماعيين لا يعرفون الأسباب الموضوعية التي تقودهم.
يسعى السوسيولوجي إلى فهم الظواهر الاجتماعية وسلوكات الأفراد لتفسير دلالاتها معتمدا على الملاحظة والمعاينة المباشرة للوقائع الاجتماعية لشرح لماذا توجد على نحو ما وليس على نحو آخر. لتأتي مرحلة التأويل والربط بين واقعة/سلوك وبين العلاقة الجدلية بين ما هو فردي وما هو جماعي. فالملاحظة حسب دوركايم هي بداية الممارسة السوسيولوجية ،أن تلاحظ محاولا التخلص من كل حكم قيمة .
وسنحاول في هذا العرض ان نتطرق الى سوسيولوجية إميل دوركايم واهم المواضيع الذي تناولها في دراساته السوسيولوجية.
أولا : لمحة عن حيا ة إميل دوركايم :
عاش إميل دوركايم في الفترة ما بين 1858 – 1917م. وهو يعد من أوائل الفرنسيين في علم الاجتماع الذين ساروا في طريق العمل الأكاديمي، أثر تطلعه هذا في نشطه وأفكاره، فقدر له أن يواجه ظروفا مرتبطة بالعمل الجامعي عكس سابقيه، ابن خلدون وأوجست كونت، وماركس، الذين كانوا رجال فكر، ورجال حياة عامة. ولد دروكايم في إبينال باللورين، المقاطعة الفرنسية الشرقية. وأتى ميلاده لأب من الحاخامات اليهود، الذي أراد لابنه أن يسير على نهج الأسرة، بأن يصبح رجل دين. وقد أراد الابن لنفسه هذا أيضا، ومن ثم درس العبرية وقرأ كتاب العهد القديم، والتلمود الذي يحوي تعاليم الأحبار الربانيين الموسويين. وفي الوقت نفسه درس العلوم العلمانية وسار في التعليم الحكومي. وبعد محاولتين فاشلتين تم قبوله بالمدرسة العليا سنة 1879م. وفيها التقى بعدد من الرجال الذين تركوا آثارا واضحة على الحياة الفكرية في فرنسا، من أمثال هنري برجسون الفيلسوف الشهير، وبيير جانيت الباحث في علم النفس، وكان من أكثر أساتذة المدرسة تأثيرا فيه فوستل دي كولانج مؤلف كتاب (المدينة القديمة) والذي أصبح بعد ذلك مديرا للمدرسة.
وبعد تخرجه من هذه المدرسة سنة 1882م اشتغل دوركايم بالتدريس في المدارس الثانوية حتى سنة 1887م، ثم أتيح له أن يذهب إلى ألمانيا في إجازة علمية، وهناك تعرف على فكر (فاجنر) و(شمولر) و(فونت) وتأثر بهم وانعكس هذا على موقفه الفلسفي، سواء من الفكر أو من الواقع، هذا بالطبع بجانب تأثره البالغ بفلاسفة عصر التنوير من أمثال (جان جاك روسو) ومرنتسكيو، كما تأثر بالطبع بفكر (سان سيمون ) الذي عده دركايم أستاذه في علم الاجتماع . (1)
وأما عن أبرز الملامح البنائية للمجتمع الذي عاش فيه، فمع أن فرنسا كانت تنؤ في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر بالثورات، إلا أن المسرح السياسي في تسعينات هذا القرن عايش هدوءا نسبيا. وأما عن مجتمعه الذي قضى فيه سنوات الطفولة والتنشئة الاجتماعية الأولى، فقد كان مجتمعا يهوديا محافظا ومتضامنا تسوده علاقات مباشرة، ومع أنه انتقل إلى
(1)محمود قاسم، تقديمه لترجمة دور كايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، مكتبة النهضة المصرية، 1961م، ص4 .
العاصمة (باريس) حيث المجتمع المتباين فلم ينس ارتباطاته الأولى حتى أن يخيل للمرء أن تصوره للمجتمع لم يخرج عن هذين النمطين، مجتمع الطفولة البسيط، ومجتمع العاصمة المعقد، كما اتضح من تصوراته للتضامن الآلي والتضامن العضوي. على أن فهمنا لتصوره لدور علم الاجتماع يقتضي تفحص علاقته بالفكر الاشتراكي. حيث بدأ ... يهتم ومبكرا بهذا الفكر، سواء ما قدمه (سان سيمون) أو (ماركس). ففي الوقت الذي كان يطلع فيه على أنماط هذا الفكر، بدأ يخط التصور الأول لدراسته الشهيرة حول (تقسيم العمل)، وكانت النتيجة أن صاغ أفكارا ونظريات متأثرة حينا بالمقولات الاجتماعية للاشتراكية ومناهضة لها أحيانا أخرى ولكن تصوراته كانت تؤكد التضامن الاجتماعي بدلا من الصراع الاجتماعي.
اهم النظريات التي عالجها دوركايم :
لدى دوركايم إسهامات عديدة في النظريات الاجتماعية والسياسية, ومن خلال قراءتي سوف اقسم إسهاماته النظرية إلى الآتي :
1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي .
2. قواعد المنهج في علم الاجتماع .
3. الانتحار .
4. التفسير الاجتماعي للدين والأخلاق والمعرفة .
5. تطور المجتمعات وأشكالها .
وسوف أتحدث عن كل قسم على حدة :
- 1تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي :
في أول دراسة هامه لدوركايم حدد لنفسه مهمة أساسية تتلخص في التدليل على نمو تقسيم العمل بوصفة يمثل عملية تاريخية ضرورية ويؤدي بالتالي إلى تزايد التضامن الاجتماعي بين الناس .
فهذه( الوظائف ) يؤديها الناس وقد انتظموا في ترتيب طبقي محدد تتباين فيه درجات الثروة والقوة والهيبة الاجتماعية وأيضا إن تطور الصناعة وتقسيم العمل الحاصل به لن يؤدي إلى صراع المصالح والتفكك, لذا على الدولة الاستمرار دعم النسق الأخلاقي العام في المجتمع لكي لايحدث خلاف ذلك .
يعتقد دوركايم إن هناك بعض الإصلاحات الاجتماعية الضرورية التي يتعذر بدونها إقامة عدالة حقيقية وإيجاد تضامن اجتماعي قوي . (3)
يرى دور كايم انه لا يتعين فصل الأخلاق عن العلم وإنما يجب إن نحاول إقامة علم أخلاقي مختلف تماما عن تلك الفلسفة الأخلاقية ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى إن القواعد
(3) تقسيم العمل الاجتماعي. إميل دوركايم
الأخلاقية إنما ترتبط ارتباطا وثيقا بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان وهكذا يسعى علم الظواهر الأخلاقية إلى تحليل اثر الصور المتغيرة للمجتمع في تغير طابع المعايير الأخلاقية محاولا ملاحظة ووصف وتصنيف هذه المعايير .
يعتقد دور كايم إن تقسيم العمل ظاهرة ليست حديثة النشأة ولكن الجانب الاجتماعي لها أخذ يظهر بوضوح منذ وآخر القرن الثامن عشر .
دوركيم يؤيد وجهة نظر العالم أوجست كونت الذي يقول إن تقسيم العمل ليس مجرد ظاهرة اقتصادية وإنما شرط أساسي للحياة .
انتقل دور كايم بعد ذلك الى البحث عما إذا كانت هناك نماذج متعددة للتضامن الاجتماعي , وانتهى إلى وجود نموذجين أساسيين للتضامن هما التضامن الالى والتضامن العضوي .
فالتضامن الآلي يسود في المجتمعات البدائية أو التقليدية حيث يسود في المجتمع شعور قوي بينما يرتبط التضامن العضوي بالمجتمعات الحديثة التي يزداد فيها تقسيم العمل, فكان المجتمع الذي ينتشر فيه التضامن الالى هو المجتمع الانقسامي, ويتميز هذا المجتمع بسمات اجتماعية خاصة, إذ يغلب على السلوك الإنساني فيه التجانس الاجتماعي, والذي تكون فيه الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء , وطرائق السلوك الفردي ولجماعي, أما من حيث القانون والأخلاق والضبط الاجتماعي فهناك ولاء ملحوظ للضمير الجمعي الذي يعني مجموعة المعتقدات والعواطف العامة بين أعضاء المجتمع
والتي تكون نسقا خاصا ومثل هذا الضمير العام له وجوده الخاص المتميز فهو يدوم عبر الزمن , ويعمل على توحيد الأجيال , والضمير الجمعي يعيش بين الأفراد لكنه يتميز بالقوة والاستقلال وبخاصة حينما تزداد رجة التشابه بين الأفراد وهذا من وجهة نظر دوركايم .
ما الذي يؤدي إلى زيادة تقسيم العمل ؟ يجيب دوركايم إن تقسيم العمل يختلف باختلاف حجم المجتمع وكثافة السكان, وشدة التفاعل الاجتماعي, فازدياد عدد السكان هو العامل الأساسي لتقسيم العمل فقد ترتب على ذلك شدة الصراع من اجل البقاء والاستمرار فكثرة العدد تفرض على الناس ضرورة التخصص المهني, مما يقلل من حدة الصراع, ويتيح فرصة أوسع للحصول على وسائل الحياة .
- 2 قواعد المنهج في علم الاجتماع :
ينظر دور كايم إلى علم الاجتماع من حيث كونه يهتم بدراسة المجتمع وما ينبعث عنه من ظواهر دراسة علمية وصفية تحليلية ولكي يحقق العلم هذه الغاية فانه لابد من منهج علمي يستطيع بفضله إلى الوصول إلى قوانين الظواهر ولقد وضع دوركايم الخصائص التي يجب إن تتميز بها دراسات علم الاجتماع والتي يمكن إيجازها في الآتي :
1. يجب دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء بمعنى إن تخضع للملاحظة والتجربة .
2. يجب على الباحث إن يتحرر من كل فكرة سابقة يعرفها عن الظاهرة حتى لا يقع أسير الأفكار الشخصية .
3. يجب على الباحث إن يبتدا بتعريف الظاهرة التي يتخذها مادة للدراسة .
4. يجب على الباحث عند دراسة طائفة خاصة من الظواهر الاجتماعية إن يبذل قصارى جهده في ملاحظة هذه الظواهر من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية .
أما فيما يتعلق بقواعد أو خطوات المهج فتتلخص في الآتي :
1. دراسة نشأة الظاهرة والوقوف على عناصرها لان الظاهرة شئ معقد وتتألف من أجزاء كثيرة .
2. دراسة تطور الظواهر والوقوف على مختلف أشكالها .
3. دراسة علاقات التي تربط الظاهرة بما عداها من الظواهر التي تنتمي إلى شعبتها .
4. الانتفاع بمطلق المقارنة في دراسة الظواهر .
5. الكشف عن الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها الظاهرة وما خضعت له هذه الوظيفة من تطور وذك في ضوء دراسة تاريخ الظاهرة .
6. تحديد القوانين التي يصل إليها الباحث من دراساته ويجب صياغة هذه القوانين بدقة لأنها هي التي تكون مادة العلم . (4)
- 3 الانتحار :
ظهرت دراسة دوركايم الهامة عن الانتحار وذلك بعد مضي عامين على نشر مؤلفه قواعد

(4) ايمل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم
المنهج في الاجتماع وأول خطوة بدئها دوركايم بأنه عرف الانتحار حيث واجه صعوبة في ذلك إلى إن خلص إلى إن الانتحار هو كل حالات الموت التي يكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفعل سلبي أو ايجابي قام به المنتحر نفسه, وهو يعلم انه سيؤدي إلى هذه النتيجة .
وبعد إن يحدد دوركايم تعريف الانتحار ينتقل إلى مناقشة نقطة أخرى ذات أهمية وهي المجموع الكلي لحالات الانتحار في بلد معين يسمح لنا إن بحسب معل الانتحار وهذا المعدل هو(الظاهرة الاجتماعية)
بعد ذلك حلل الانتحار من ناحية غير اجتماعية مثل ربط الانتحار بالمرض العقلي وأيضا ربط الانتحار بالعوامل الكونية وأخيرا ربط الانتحار بالتقليد والمحاكاة وبعد ذلك يعتقد دوركايم بعد إن فرغ من دراسته لجميع هذه الأمور انه قد نجح في استبعاد العوامل الغير اجتماعية وبذلك ينتقل مباشرة إلى معالجة الأسباب الاجتماعية والمواقف الاجتماعية التي تحدد هذه الأسباب .
حاول دوركايم جمع حالات الانتحار في ثلاثة نماذج حيث يتضمن كل نموذج مجموعة من الأسباب الاجتماعية والنماذج الثلاثة للانتحار هي :
1. الانتحار الأناني .
2. الانتحار الغيري أو الايثاري .
3. الانتحار الانومي .
- 4 التفسير الاجتماعي للدين عند دوركايم :
حاول دوركايم في كتابه عن ( الصور الأولية للحياة الدينية ) إن يقدم لنا تحليلا دقيقا لصور ومصادر وطبيعة وأثار الدين من نفس ديانته السوسيولوجية. وحاول أيضا دو كايم إن يبحث عن أصل الدين وذلك بتحليل الدين في أكثر المجتمعات البدائية, يعتقد دو كايم إن التغيرات في الشكل تؤدي إلى تغيرات جوهرية في الطبيعة, ويرى إن الوقوف على تطور المجتمع من البسيط إلى المركب سوف يحدد لنا مجرى التطور الاجتماعي .
يؤكد دو كايم على إن علم الاجتماع له منهجا مخالفا لدراسة الظاهرة الدينية, الدين بالنسبة لدوركايم يجب إن يدرس كحقيقة اجتماعية .
دوركايم يرفض تفسير الدين على انه نتاج تقسيمات عقلية زائفة أو توهم ناجما عن ضغط مشاعر معينة .
حاول دوركايم معرفة أصل الديانات من خلال إحدى القبائل الاسترالية التي تسمى الارونتا والتي كانت في نظرة تمثل مرحلة أولى في النمو التطورية فوجد إن أصل الديانات ديانة تعرف باسم التوتمية وهي أكثر صور الدين بساطة وتشير الطوطميةإلى اعتقاد داخلي في قوة غيبية أو مقدسة أو في مبدأ يحدد مجموعة من الجزاءات يتعين تطبيقها على كل من يحاول انتهاك المحرمات ويعمل في الوقت ذاته على دعم المسئوليات الأخلاقية في الجماعة .
- 5 نمط المجتمع عند دوركايم :
إن نمط المجتمع عند دوركايم يقوم على صورة التماسك الاجتماعي السائدة في مجتمع ما فثمة مجتمع يسوده التماسك الالى وانخفاض في تقسيم العمل وثمة مجتمع آخر يسوده التماسك العضوي ويتميز بتعقد تقسيم العمل ويصور الجدول التالي أنماط التماسك الاجتماعي عند دوركايم :
م العوامل التضامن الآلي التضامن العضوي
1 السلوك تسيطر عليه التقاليد ومعتقدات وآراء متماثلة تزايد الفردية وينمي التخصص في العمل الفردي .
2 القوانين والأخلاق والضوابط الاجتماعية يتحكم فيه العقاب القهري التأكيد على الصواب والعقاب
3 البناء السياسي الاجتماعات العامة قيام علاقات التعاقد بين الحكومة والمواطنين
4 الاقتصاد المشاركة والملكية المشاعة الملكية التعاقدية والخاصة
5 الدين الطوطمية*النزعة القبلية والتعصب لموطن الإقامة وحدانية الله
6 الانتحار الغيري في سبيل المجاعة الأناني* والانتحار بالا مبرر نتيجة الانحراف عن المعايير .

ثالثا : إميل دوركايم و علم الاجتماع .
1. أشار (دوركايم) أكثر من مرة إلى ما أطلق عليه (الفروع الخاصة) لعلم الاجتماع وكان يحبذ صراحة ازدهار هذه الفروع ونموها على نطاق واسع . وقال في هذا: إن علم الاجتماع لا يستطيع أن يصبح علما إلا إذا تخلى عن دعواه الأولى في الدراسة الشاملة للواقع الاجتماعي برمته، وإلا إذا ميز بين مزيد من الأجزاء والعناصر، والجوانب التي يمكن أن تتخذ موضوعات لمشكلات محددة .
وقد أيد دوركايم البدء في علم الاجتماع بالمرحلة التي أسماها (كونت) مرحلة التخصص. وقبل دوركايم صراحة فكرة أن علم الاجتماع يجب أن يختص بطائفة واسعة من النظم والعمليات الاجتماعية. وكتب على سبيل المثال في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع) أن علم الاجتماع – شأنه شأن الكثير من العلوم الاجتماعية – له من الفروع بقدر التنوعات الموجودة في الظاهرات الاجتماعية. ومع هذا الإلحاح في التقسيمات الفرعية للعلم، كان يصف علم الاجتماع بأنه (علم دراسة المجتمعات).
2. . نسجت الفلسفة الوضعية التي عبر عنها (كونت) عن تصوره لعلم الاجتماع خيوط فكر دوركايم، ويتبدى هذا بوضوح في تأكيده على ضرورة تناول الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وهو التأكيد الذي يعني صراحة أو ضمنا محاكاة العلوم الطبيعية وتطبيق نظرتها وتصوراتها للظاهرات الطبيعية على الظاهرات المجتمعية.(5) ويتأكد هذا التوجه لدى (دوركايم) من أخذه بالفكر العضوي الذي أقام مماثلة بين الظاهرة الاجتماعية، والظاهرة البيولوجية. وفي هذا يقرر ( رادكليف براون) أحد مؤسسي الاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع، أن دوركايم هو أول من أقام المماثلة بين المجتمع والحياة العضوية على أساس وظيفي. فكما أن حياة الكائن العضوي تعبير عن البناء العضوي ووظائفه. فإن الحياة الاجتماعية تعبير وظيفي عن البناء الاجتماعي.
(5) محمد عاطف غيث، علم الاجتماع، -ط – النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة ص 46 .
3. من بين أهم ما اهتم به (دوركايم) محاولته تحديد الظاهرة الاجتماعية وتشخيصها، بوصفها الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. وفي هذا حدد لها من الخصائص التي يفيد التركيز فيها في معرفة موقفه من المسألة السوسيولوجية والمسألة المجتمعية فالظاهرة الاجتماعية أولا تلقائية بمعنى أن الفرد ليس بصانعها لأنها موجودة قبل أن يوجد الأفراد. فنحن نولد ونجد أمامنا مجتمعا كاملا معدا من قبل لا نستطيع أن نغيره إذا أردنا، وعلينا أن نخضع له. وهي ثانيا جبرية وملزمة فليس الفرد حرا في إتباع النظام الاجتماعي أو الخروج عليه .. فالمجتمع وضع الجزاء لكل من ينحرف بسلوكه عما اقتضته الحياة الاجتماعية ونظر المجتمع الذي يعيش فيه. وهي ثالثا عامة بمعنى أنها لا توجد في مكان دون آخر. ورابعا فالظاهرة الاجتماعية وهي ثالثا عامة بمعنى أنها لا توجد في مكان دون أخر. ورابعا فالظاهرة الاجتماعية خارجية بمعنى أن لها سابقة على الأفراد ومستقلة عنهم، بحيث يمكن ملاحظتها منفصلة عن الحياة الفردية، بما يمكن من دراستها موضوعية على أنها أشياء.(6)
محمد عاطف غيث : نفس المرجع (5)
4. فيما يتعلق بتطور المجتمع عنده يذكر نصا في كتابه (قواعد المنهج) – الذي يعد تلخيصا للكثير من تصوراته لعلم الاجتماع، وللمجتمع – يذكر أن العامل الفعال الوحيد الذي يؤثر في المجتمع هو البيئة الاجتماعية بمعنى الكلمة ونعني بها البيئة الإنسانية. وحينئذ فيجب على عالم الاجتماع أن يبذل مجهوده الرئيسي في الكشف عن مختلف خواص هذه البيئة الإنسانية التي تستطيع التأثير في تطور الظاهرات الاجتماعية . ولقد اهتدينا حتى الآن إلى نوعين من الخواص التي يتحقق فيها الشرط السابق بصفة شديدة الوضوح. أما النوع الأول فهو (عدد الوحدات الاجتماعية ) أو ما سبق أن أطلقنا عليه اسم حجم المجتمع. وأما النوع الثاني فهو درجة تركز (الكتلة الاجتماعية) أو ما سبق أن أطلقنا عليه اسم (الكثافة الديناميكية). ويجب ألا يفهم هذا المصطلح الأخير على أنه يعبر فحسب عن درجة التركز المادي التي لا تؤثر تأثيرا واضحا مادامت هناك بعض الفجوات الروحية التي تفصل بين الأفراد، أو تفصل بالأحرى بين مجموعات الأفراد، بل يجب أن يفهم هذا المصطلح أيضا على أنه يعبر عن الصلات الروحية الوثيقة التي لا يعد التركيز المادي إلا تابعا لها، أو بصفة عامة إحدى نتائجها .. وبهذا يمكن تحديد الكثافة بعدد الأفراد الذين يعيشون حياة مشتركة إلى جانب ما يتبادلونه من خدمات وما يوجد بينهم من تنافس وليس من الممكن أن تتأثر الحياة الاجتماعية إلا بعدد الأفراد الذين يشتركون اشتراكا فعليا في هذه الحياة. ولهذا السبب كانت درجة الالتئام بين الأجزاء الاجتماعية التي يتكون منها أي شعب من الشعوب هي خير وسيلة تعبر عن كثافته الديناميكية ..(6) والحالة التي توجد عليها هذه البيئة – في كل لحظة تخضع هي نفسها لبعض الأسباب الاجتماعية، وهذه الأسباب على نوعين: فمنها ما هو جزء لا يتجزأ من بقية المجتمع، ومنها ما يرجع إلى التأثير المتبادل بين هذا المجتمع وبين المجتمعات الني تجاوره.
والمدقق في هذا النص يستطيع أن يتبين أولا أن كثافة المجتمع، وتقسيم العمل والاتصال بمجتمعات أخرى عوامل بارزة في التطور والتغير الاجتماعي .. ويستطيع أن يتبين ثانيا أنه يعتبر الواقع المادي الموضوعي – ليس فقط الواقع الاقتصادي – تابعا للأفكار والتصورات، أو بصفة عامة لمظاهر الوعي الجمعي المتمثل في وجود قيم مشتركة بين الأفراد.
(6) ايمل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم مصدر مذكور، ص 229 – 233.
5. يمثل كتابه تقسيم العمل الاجتماعي أهمية كبرى في التعرف على الفكر الدوركايمي، لأنه كان موضوع أطروحته للحصول على الدكتوراه، ولأنه العمل الرئيسي الذي قد يلي (قواعد المنهج) في الأهمية، من وجهة نظر دارسي نظرية علم الاجتماع، لأنه من خلال قضاياه وأفكاره يبين لنا تأثره الواضح بفكر (أوجيست كونت) بل وبالمماثلات البيولوجية التي عقدها صراحة وضمنا مع المجتمع الإنساني. وإذا أردنا اختصار الوقت والصفحات لعرض الفكرة المحورية لهذا الكتاب فلن نجد خيرا من (ريمون آرون) عالم الاجتماع الفرنسي الذي ألم بكتابات (دوركايم) سياقا ولغة وتحليلا. يذهب (ريمون آرون) في كتاب (التيارات الأساسية في الفكر السوسيولوجي ) إلى أن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها كتاب (تقسيم العمل) تتركز في التصور الدوركايمي لتحديد العلاقة بين الفرد والمجموع. ويعرض (آرون) المسألة من خلال التساؤل التالي: كيف يقيم جمع من الأفراد مجتمعا؟ وكيف ينجزون الشرط الضروري – الوعي – لوجودهم الاجتماعي؟ لكي يجيب دوركايم على هذا السؤال أقام تمييزا واضحا بين نمطين من التضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي. تتحدد أهم خصائص مجتمع التضامن الآلي بضيق الاختلاف والفوارق بين الأفراد وانحسارها إلى أقل درجة ممكنة. فالأفراد في هذا المجتمع متشابهون، لهم نفس المشاعر والأحاسيس، ويتمسكون بنفس القيم ويتفقون على نفس الأشياء المقدسة. وبعبارة موجزة أفراد هذا الجمع متجانسون لأنهم لم يتباينوا ولم يتغيروا بعد. وعلى النقيض من هذا النمط يكون التضامن العضوي، الذي يأتي تضامن الأفراد وتماسكهم فيه نتاجا لتباينهم، وتعبيرا عن هذا التباين في الوقت نفسه. ولأن الأفراد يتغايرون ويتبادلون فهم يتفقون ويحدث بينهم الالتقاء. وهنا يطرح(آرون) التساؤل التالي: لماذا عن لـ (دوركايم) أن ينطلق على التضامن القائم على التباين تضامنا عضويا؟ هنا تدخل المسألة البيولوجية للتبرير والتوضيح. فمكونات الكائن الحي لا تتشابه، أليس المسألة البيولوجية للتبرير والتوضيح. فمكونات الكائن الحي لا تتشابه، أليس العقل مختلفا عن القلب وعن الرئتين؟ بلى، فهذه الأعضاء متغايرة لكنها ضرورية ولا غنى عنها للجسم بالتساوي، فكل يؤدي وظيفته.(7)
(7) إميل دوركايم : قواعد المنهج في علم الاجتماع، مصدر مذكور، ص 70 – 74 .
ولكن ما الذي ينقل المجتمع من الحالة الآلية إلى العضوية؟ يحدد (دوركايم) هذا كما هو مبين في الفقرة السابقة مباشرة في الكثافة الاجتماعية، والتقسيم الاجتماعي للعمل، وأنماط الاتصال التي تيسر التلاحم بين الأفراد وبالتالي الاتفاق والاشتراك القيميين وبين البيئة الاجتماعية وما يحيط بها من عوالم .
6. تتلخص الأبعاد المنهجية لبحثه للظاهرات الاجتماعية في ضرورة دراسة هذه الظاهرات كأشياء، وتحرر الباحث من كل فكرة يعرفها عن الظاهرة موضوع دراسته. وأما عن أساليبه البحثية فتتمثل في الملاحظة والمقارنة، وتتبع تطور الظاهرة، وتفسيرها تفسيرا وظيفيا من خلال إنجازاتها وأدوارها في السياق البنائي الكلي.
7. وأخيرا يتحدد المسعى العلمي لديه في الكشف عن القوانين التي تحكم الظاهرات الاجتماعية، وذلك لهدف مجتمعي هو علاج المشكلات الاجتماعية، حتى نصل بالمجتمع إلى التضامن الاجتماعي المنشود وتقسيم العمل الوظيفي الفعال. فكأن الغايات العلمية الأقرب إلى البرجماتية هي المخرج النهائي ( ولا يستحق علم الاجتماع لحظة عناء واحدة إن لم تكن له فوائد علمية، لكنها فوائد تسير صوب تدعيم الأوضاع القائمة .
رابعا : بعض الانتقادات التي وجهت الى دوركايم:
لقد تثمل جهد دوركايم في محاولته المنهجية وإبرازه بعض الخصائص النوعية للظاهرة الاجتماعية. أما مخرج دراساته وآرائه فيعوزه الكثير من الصدق العلمي. فما عده عاما (كتقسيم العمل) عده آخرون من أمثال (ريمون آرون) ثانويا وسطحيا، لأنه لم يفسر لماذا يحدث تقسيم العمل .
لقد حاول دوركايم أن يصنع شيئا، وأن يفهم المجتمع، لكنه لم يكن أصيلا في مسعاه: فقد أخذ من سان سيمون، وأوجست كونت، وحاكى ماركس. و‘ليك الأدلة التي تدعم الرأي القائل إن أهم ما يراه البعض أنه من إبداعاته، كان ردود أفعال متفاوتة في الدقة والإتقان في المحاكاة والتأليف :
أ‌- يؤكد (رادكليف براون) أنه أول من دعم استخدم المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، وبالتالي أجهض محاولته لإبراز الطابع النوعي لعلم الاجتماع .
ب‌- يوضح كليفورد فوجان وزميلاه سكوتفورد ونورثون من خلال تحليلهما ومتابعتهما لأعمال دوركايم أنه أراد أن يبدأ وضعيا بدراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وبالتركيز على أبعادها الخارجية، القابلة للملاحظة، لكنه في مسلكه سقط في المثالية لأنه علق كل شيء تقريبا على (التصورات الجمعية) والمشاعر والقيم المشتركة، ونظرا لصعوبة دراسة هذه الأبعاد وضعيا كأشياء فقد استبدل التحليل السوسيولوجي بالتوجيه السيكولوجي الاستنباطي. قد كان في صراع بين إقدام وإحجام موزعين بين الوضعية، والوقوف ضد النزعة الفردية، وبالتالي عندما أراد إنكار(الفردية) أضحى مثاليا، وعندما أراد أن يحافظ على الوضعية أضحى سيكولوجيا مما جعله ينتهي إلى عكس ما بدأ، ويصل إلى ما هو مخالف لما أراده لعلم الاجتماع . (8)
ج‌- يتفق (رايت ميلز) و(ارفينج زايتلن) و(ألفن جولدنار) على التوالي على. تأثر دوركايم بماركس، خاصة فيما يتعلق بقضية الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي .

(8) عبد الباسط عبد المعطى : اتجاهات نظرية في علم الاجتماع:سلسلة عالم المعرفة 1981
فرايت ملز يرى أن (دوركايم) قرأ (ماركس) وأراد أن يثبت عكس ما وصل إليه بشأن أسبقية الوجود على الوعي .
- أما زايتلن فيرى أن (ماركس) كان شبحا ظل يحاكيه ويناوره كانت أتى بعده وفي مقدمتهم (دوركايم .
- وجولدنر، فيذهب إلى أن دوركايم أراد أن يخالف(ماركس) لكنه لم يستطع إلا أن يلتقي معه، ولو على هوامش الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي. فهو يرى أن وجود المجتمع سابق لوجود الفرد، والوعي الجمعي سابق للوعي الفردي، والوجود الاجتماعي ليس متحددا لديه بمتغيرات مستقلة أكثر أهمية من غيرها، إنما اعتبر كل المجتمع وجودا اجتماعيا، بمعنى أنه وسع من نطاق الوجود الاجتماعي ولم يحدده بالعلاقات الإنتاجية، كنقطة بدء مهمة. ويدلل (جولدنار) على التأثر الدوركايمي بالفكر الماركسي بإشارته إلى أن الأول كان واعيا بقوة لفكر الثاني، وكان ملاحظا لتطور الاشتراكية الأوربية، وترحك الصراع الذي أفضى إلى إضرابات ديكازيفيل سنة 1886 م وهي السنة نفسها التي أنهى فيها دوركايم (مسودة) كتاب (تقسيم العمل الاجتماعي) وقد كانت هذه الظروف – بجانب قيم ومصالح غير معلنة – داعية لندائه بأفكار التضامن خوفا من الشقاق والتفكك في المجتمع الفرنسي .
خاتمة:
ويُعدّ دوركايم المؤسس الرئيسي لعلم الاجتماع بالمعنى الأكاديمي والجامعي ، إذ بفضل جهوده وإصراره على أن الدراسات الاجتماعية تختلف نوعياً عن الدراسات الفلسفية والنفسية ، وعمله على تأسيس كرسي أكاديمي لعلم الاجتماع في الأكاديمية الفرنسية ، ظهر علم الاجتماع في شكل مؤسسي . ولقد سعى دوركايم من البداية للتنظير للظاهرة الاجتماعية ، مؤكداً على أنها شيء ملموس ومستقل عن ما حولها ومن ثم يمكن قياسها ، وهي تفرض تأثيرها وحضورها فيما حولها . وفي كتابه "قواعد المنهج" سعى لإبراز "المنهجية العلمية" في دراسة الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من فهمه للفلسفة الوضعية . ولعل دراسته لظاهرة "الانتحار" والتي نحى فيها منحى "اجتماعي" بعيداً عن الجوانب النفسية ، إنما تشكل مثالاً نموذجياً لكيفية الدراسات التي سعى دوركايم للتأكيد عليها . لكن تبقى دراسته "عن تقسيم العمل الاجتماعي" والتي نظر فيها لفكرته عن تحولات المجتمع الحديث من مجتمع التكافل والعلاقات الحميمة إلى المجتمع الصناعي الحديث التي تفرض ألواناً جديدة من المفاهيم والقيم الأخلاقية ، بعد الإسهام الأبرز له . ويعد نقده لأطروحة ليفي بروهل حول ما عرف "بالأديان والعقليات البدائية" في كتابه "الأشكال الدولية للممارسات الدينية" من أهم الأطروحات الاجتماعية حول مسألة الدين والمجتمع في الفكر الاجتماعي الحديث ، ولا تزال أطروحات وأفكار دوركايم موضع عناية ، وإن كانت الدراسات الاجتماعية تجاوزت العديد من نتائجه .
صحيح أن مفاهيم من أمثال "تقسيم العمل الاجتماعي" و "التضامن الآلي والعضوي" و "العقل أو الضمير الجمعي" و "الأنومي" وغيرها لا تزال رائجة ومؤثرة في الكتابات الاجتماعية الحديثة والمعاصرة ، لكن المدرسـة ( المذهب العلمي ) التي صدرت عن مفاهيم ونظريات دوركايم وتسمى " الوظيفية " موضع نقد واستهجان لدى غالبية علماء الاجتماع اليوم ، وذلك لسعيها على التأكيد على أهميه استمرارية الحالة القائمة وفرض نوع من التوازن بحجة ضرورة توحيد واستقرار المجتمع ، مما جعلها تسعى إلى الوصف والغائية أكثر منها إلى الشرح والتفسير لما يجري في المجتمع .
البيبليوغرافيا :
1 – إميل دوركايم : تقسيم العمل الاجتماعي. 1989
2 - إميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم.
3 - محمد عاطف غيث، علم الاجتماع، -ط – النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة .
4 - عبد الباسط عبد المعطى : اتجاهات نظرية في علم الاجتماع:سلسلة عالم المعرفة 1981