اسماعيل ياسين.... لقاء القلب والروح في فيينا..
بعد سنوات طويلة...أيام الزمن الجميل.... Ismail Yasin
كنت قد تخرجت للتو من جامعة دمشق كلية الشريعة وكنت واحداً من أقراني في الجامعة الذين لا يعرفون في الانكليزية الخمسة من الطمسة ولا الواي من الوير..
التقاني صدفة وهو خارج من المعهد السوري للغات حيث كان يدرس، اقبل على الفور علي بوجه ودود... أهلا شيخ محمد.. نحن نصلي عندك في جامع الزهراء .. ونحبك.. ونخشع في الصلاة معك... وفجأة توقف عن الغزل وقال: لكن يا شيخ.. هل تعرف تتحدث بالانكليزية؟ هل تستطيع أن تلقي الخطبة بالانكليزي!!
كان سؤالاً غريباً لم أتعود عليه..... ولكن الشاب الكردي القادم من قامشلو لم ينتظر جوابي ولم يتوقف عن الكلام وراح يركز نظارته على أنفه ويتحدث مباشرة باللغة الانكليزية: It is very important to speak English !!! يا شيخ!
يجب أن تتحدث الانكليزية.. أنت رجل موهوب وتدعو إلى الله وتحمل رسالة نبيلة يجب أن يسمعها الغرب قبل الشرق....
وألقى علي سلسلة من الأسئلة بالانكليزية، حاولت كأي سوري أن أثبت قدرتي في اللغة ولم أعترف ببؤس حالتي اللغوية ولكنه اكتشف على الفور قدرتي المتواضعة.. وهز برأسه.. ولم يعطني الفرصة لأبرر وقال لي وهو يخرج قلماً من جيبه ... أعلم أنك مشغول ولديك دروس كثيرة!! يجب أن تتعلم الإنكليزية ... أنا مستعد لأتفرغ لك.. ودق على صدره وأشار بالقلم: أينما تريد وكيفما تريد...!!
تابعنا المشي، وحين كنت أحاول التبرير كان يقاطعني على الفور ويقول لي : يا شيخ لازم تحكي انكليزي.. ما راح يفهموك هون.. رسالتك هناك.... ومشينا معاً إلى الشيخ خاشع حقي في فندق البستان بفكتوريا...
وأمام الشيخ خاشع انبحت مرة أخرى!!... وقال يا شيخ .. هذا محمد حبش، متقن للقرآن وللدعوة وللخطابة ولكن لا يعرف الانكليزية!! ابتسم الشيخ خاشع وقال: نحن راحت علينا ولكن يا شيخ محمد لا تروح عليك.. اسماعيل ينصحك!!
لم يوفر اسماعيل منذ تلك اللحظة يوماً واحداً .. لقد نصب نفسه على الفور استاذاً علي!! ولم ينتظر إذناً من أحد، كان يأتيني إلى الدار أو آتيه إلى داره في المزة خلف الرازي يومياً ....
وكانت أسماء تفرح لنا وتعد أشهى الفطور الشامي، وكذلك كانت تفعل أم معاذ.. رضي الله عنهما وأرضاهما...
لم يكن لدي وقت لدراسة القواعد ولكن كنا فقط نتحدث الانكليزية كل الوقت.. لم يسمح لي ان أتكلم حرفاً واحداً بالعربية... وحين كان النهار ينقضي ولا نلتقي.. كان يرن الهاتف الساعة العاشرة ليلاً وتعلم زوجتي أن ساعة من الحوار اليومي بالانكليزية ستتم على الهاتف كل ليلة، وعلى الرغم من تفهمها ولكن المكالمة كانت تعقبها عادة علقة ساخنة، وعلمت أن أم معاذ كانت تكرر الشيء نفسه هناك!!... .......
اصطحبنا في كل مكان .. في المسجد في السيران في الولائم.. ربما كنا عشرين أو ثلاثين شخصاً... ولكنه كان يرفض أن يتحدث إلا بالإنكليزية!!
قال لي أبو ياسر حين رآه.. حيرتنا بهذا الأستاذ... شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر... لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد!! لسانه من واشنطن ولكن وجهه من دير الزور!!
بعد شهور.. بذلت فيها جهداً كبيراً... وجدت نفسي قادراً على فهم الانكليزية والتعبير عنها... وتحسنت لغتي بشكل لافت، وبعد سنتين 1997م وصلتني أول دعوة لجامعة أوربية وهي جامعة هلسنكي في فنلندا.. قلت للسيد أرنيه تويفانن أريد أن يصحبني زميلي وأستاذي اسماعيل ياسين، وعلى الفور أرسلوا بطاقتين اثنتين وذهبنا معاً إلى هلسنكي وكانت عشرة أيام من أحلى أيام العمر، حيث أقمنا في فندق أرثور وسط هلسنكي وتعرفنا على فنلندا البيضاء في شهر كانون الأول... ولا أذكر صلاة أكثر خشوعاً وجلالاً من صلاتنا بفنلندا.. حيث سطوة الطبيعة وسلطان الله...
وفيما كنت أعد المحاضرة الرئيسية وأفسر الآية الكريمة ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً....
والراهب في الانكليزية مونك... ولكنني قرأتها مونكي!!!.... وجن جنون إسماعيل ووضع يده على رأسه.. فضحتنا يا شيخ.. خلنا نرجع ع الشام فوراً.. بلا مصايب!! وضحكنا ضحك طفلين معاً....
بعد شهور تلقيت دعوة لإلقاء محاضرات في عدد من المراكز والجامعات الأمريكية وقلت للعزيز فيصل برهان أريد أن أكون مع صديقي اسماعيل وبالفعل سافرنا معاً إلى بوسطن ثم واشنطن ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو ثم ألباما وفلوريدا... وكانت حواراتنا كلها باللغة الانكليزية.. وكان اسماعيل لا يفارقني لحظة وهو يحدثني الانكليزية كل وقت.. إلا إذا التقى بمغترب كردي فإنه يتحول فوراً إلى الحديث بالكردية... ويترك صديقه الحائر بين كلام الانكليز والعجم!!
بعد سنة تلقيت دعوة من الفيدرالية العالمية للسلام في كوريا وقلت لهم أريد أن أكون مع العزيز اسماعيل وبالفعل أرسلوا بطافتين وسافرنا معاًإلى كوريا واليابان وألقيت سلسلة محاضرات في جامعة الحب والسلام في أيابي التي تتبع لديانة الأوموتو.
في عام 2003 كنت رئيس وفد سوريا البرلماني للتواصل مع العالم الإسلامي واخترت اسماعيل مترجماً وذهبنا معاً إلى أندنوسيا وماليزيا وباكستان وقابلنا رؤساء الوزارات في تلك البلدان ومعنا الشيخ عبد القادر الكتاني والشيخ محمود كفتارو والأستاذ الرائع عبد العزيز الشامي والشيخ منذر الدقر رحمهما الله...
كانت زيارة أطراف العالم الأربعة كافية بالنسبة لي للتمكن في الانكليزية مع الحبيب النقي اسماعيل، وصار مركز الدراسات الإسلامية في دمشق مركز حوار حقيقي مع وفود العالم المتحضر التي تأتي إلى سوريا وكانت حواراتنا كلها باللغة الانكليزية.. وكنت أتلقى بعد كل محاضرة سيلاً من الملاحظات من أستاذي اسماعيل ... ولكنه يقول بعد ذلك كله: Go Ahead - non stop
وبالفعل فقد أجريت مئات اللقاءات الصحفية مع صحفيين أجانب..
في عام 2006 التقاني مايك سليغمان مندوب صحيفة نيويورك تايمز أكبر صحيفة في العالم، وبعد حوار دام أكثر من ساعة... نشر على صحيفة نيويورك تايمز مقالاً طويلاً وأرسل لي اللقاء وهو يقول فيه: لقد التقيت الدكتور محمد حبش‘ إنه شاب مدهش برلماني وأكاديمي ورسالته واضحة وصريحة في إخاء الأديان وكرامة الإنسان وهو يتحدث الانكليزية بطلاقة!
على الفور اتصلت بأستاذي اسماعيل... قلت له .. أبو معاذ .. وصلنا .. لقد تخرجت!!
What do you mean????
هكذا سألني باستغراب!! قلت له اقرأ ما ذكرته أكبر صحيفة في العالم.... إن تلميذك محمد حبش يتحدث الانكليزية بطلاقة!!!
ضحكنا معاً.. ولم يصدق أستاذي الصحيفة العالمية، وقال بمرح: لا لا تصدقهم عمرهم الاميركان ما حكو صح..!! وأصر انني يجب ان أستمر في التعلم!...
اليوم مضى على لقائنا 25 سنة أنا مدين فيها بالكامل لهذا الإنسان النبيل، وقد تم تعييني في جامعات محترمة بناء على قدرتي اللغوية إلى جانب شهادتي الاختصاصية في الشريعة... ولا زلت إلى اليوم أعتبر فضل هذا الرجل علي أكبر من ان يبلغه شكري.....
أنا مدين لهذاالرجل وزوجته الرائعة أم معاذ وقد أكرمهما الله بأروع أبناء معاذ وملاذ ومحمد ونور... وقد صاروا اليوم في المجتمع النمساوي نموذجاً للأسرة السعيدة الناجحة .. وافتتح اسماعيل مدرسة ومسجداً (صغيراً) في قلب فيينا وبات معاذ يملك شركة للعطور في شارع رئيسي في فيينا، ويبارك الله له في رزقه وقلبه وروحه...
نعم با أبا معاذ... البر لا يبلى .. والخير لا ينسى.. والمعروف رحم بين أهله.... ولا أبلغ وفاء حقك إلا ان أروي هذه القصة للحبايب.. وأذكرك في حبي ودعائي وموعدنا على الحوض المورود يوم نلقى الله!!