من أين يأتي الإلهام؟
فادي عمروش
لو تبقّى ستون دقيقة حتى ينتهي وقت امتحانك، عليك خلالها أن تملأ عشرين سطراً حول موضوع معين أو تبدع تحفةً فنية في كراسة الرسم أمامك، ستحاول جاهداً أن تنجز مالا يمكنك إنجازه حتّى في يوم كامل من العمل، وبالفعل يمكن أن تبدع الكثير خلال تلك الدقائق. طبعاً من المستحيل أن يراودك هذا الإبداع دون ساعات من التعلم والتدريب حتى لو عشت نفس هذه الحالة من الضغط، لأنك وببساطة لا تملك المادة الخام للإبداع…. نعم يسمَّى إبداعاً لا إلهاماًَ

لكن ماذا عن الإلهام؟
إنَّ اللحظة التي نكون فيها بأمس الحاجة إلى الإلهام، هي لحظة التنوير التي تعقُب بحثك الدؤوب، وسعيك المستمر، للبحث عن إجابة لسؤال أو حل لمعضلة ملموسة كانت أو ذهنية. يمكن تعريف الإلهام بأنَّه الفكرة العبقرية التي تأتيك لحل مشكلة تواجهك أو تبحث عن حلول لها وعادة ما تكون في وقتٍ غير مناسب، وما أقصده بالوقت الغير مناسب هو أنَّك في ذلك الوقت لم تكن تفكر في إيجاد حلٍ لها، ولذلك يُسمى إلهاماً.

يختلف الناس في استقبالهم لتلك اللحظة وتفاعلهم معها، وهكذا هو الحال مع القادة والعظماء والفنانين الذين يقتاتون على الإلهام لتحقيق أهدافهم، ونثر إبداعاتهم وتخليد أفكارهم في صفحات التاريخ، فمن أين كانوا يستوحون إلهامهم؟

تروي لُبنى الخميس لنا في حلقة عبر بودكاست أبجورة الرائع تحت عنوان ” من أين يأتي الإلهام” حديثاً مفصلاً عن مصادر الإلهام ورجالاته مستوحيةً كلماتها من تجارب وأمثلة واقعية.

تحكي لنا لُبنى حكاية المصمم الفلورنسي غوتشي الذي قضى بدايات حياته المهنية كبواب مصعد في فندق سافوي في العاصمة لندن، حيث اعتاد أن يحمل حقائب مشاهير وفنانين أمثال مارلين مونرو، وفرانك سيناترا، ووينستون تشرشل، ثمَّ من المصعد قفز حلمه في تصميم حقائب تفوق تلك الحقائب الجلدية التي كانوا يحملونها جمالاً وأناقة، فبدأت حكاية إمبراطورية غوتشي التي غزت العالم. أي إن إلهام غوتشي لم يغذِّه سوى حاجته وطموحه.

وقبل أن يكتب نجيب محفوظ عشرات الروايات التي تناولت عمق حكايات الشارع المصري التي كانت تخرج من شوارعها وأزقتها الضيقة ويحاور أهلها ويستنشق عبق عراقتها، كان قد أتخذ من أحد مقاهي خان الخليلي مقراً لإبداعه «مقهى الفيشاوي»، حيث لا تزال جدران وكراسي وصور وديكورات هذا المقهى شاهدة على المسودات الأولية لهذه الروايات، التي ظفر على إثرها بجائزة نوبل للأدب عام 1989. نعم قد يكون إلهامك أحياناً “مقهى”.

وكما تشير لبنى ربما تجد إلهامك في مدينة بعيدة عن موطنك، كما أعظم كتاب وأدباء القرن الماضي ممن حظي بإلهامه في مدينة النور باريس، حيث كتبوا فيها أجمل أعمالهم، مثل الكاتب الأمريكي أرنست هيمنجواي الذي أقام فيها فترة من شبابه وكتب أجمل أعماله، وفيكتور هوغو الذي نسج فيها أجمل روائعه كالبؤساء وأحدب نوتردام، أمَّا أوسكار وايلد فوقع في غرامها وطلب أن يُدفن فيها بدلاً من وطنه الأم اسكتلندا، وبالمناسبة فرنسا هي أكثر دولة حاصلة على جائزة نوبل عن فئة الأدب بين دول العالم، هنا كان الإلهام “مدينة”.

مصادر الإلهام
هل استعصى عليك في يومٍ ما اختيار هدية جميلة لصديقك؟ أو كتابة جملة مُعبِّرة في بطاقة معايدة؟ أو الخروج بحل مُبتكر في اجتماع عمل أو جلسة عصف ذهني؟ تستعرض لبنى لنا بعض الطرق والوصايا التي من الممكن أن تُشعل شرارة الإلهام في ذهنك:

1. أولاً ينبغي أن تكون أمام الإلهام كلاعب سلة محترف جاهز لالتقاط الفكرة في أي لحظة، وتحويلها لهدف خطير تضج لروعته الجماهير.

2. إنَّ الإلهام هو الابن البار للفضول، والصديق الوفي للفضوليين والشغوفين بالمعرفة، فإذا سمعت بيت شعر مؤثراً ابحث عن الشاعر والقصيدة، وإن عبرت بجانب مبنى لفت انتباهك استفسر عن هوية المعماري، وإذا قابلت شخصاً ناجحاً اسأله عن أسرار تميزه، هذه الأسئلة بمثابة تدريب لعقلك على التفكير والتقاط الإشارات وربط الحقائق وبالتالي الخروج بأفكار عظيمة.

3. إن قراءة الكتب، ومشاهدة الأفلام ليست فقط عاملاً مساعداً لاستجلاب الإلهام، ولكنَّها أيضاً ترفع من معدل ذكائك.

4. امشِ دون هدف؛ كان الإغريقيون القدامى يسمون المشي رياضة الفلاسفة لما يمنحه من سكينة وحكمة وصفاء ذهني، حتى أنَّ كثير من كتّاب العصر الحديث مثل تشارلز ديكنز وهنري ميلر كان يتعمدون أن يضيعوا في شوارع المدن الأوروبية بأقدامهم التائهة وعقولهم المفتوحة للالتقاط خيوط الإلهام.

5. قفْ في أعلى نقطة من المدينة، قد تبدو فكرة غير مألوفة لاستحضار الإلهام، لكن جرّبها! فرصة أن ترى كل ما تعودت أن تشاهده في مدينتك، شوارعها الطويلة، وبناياتها المتراصة، والحي الذي تسكن فيه، ومقر عملك، من زاوية جديدة شعور غريب ومُلهم فعلاً، يمكن أن يمنحك الفرصة لرؤية الشيء نفسه ولكن بصورة مختلفة، وبجرعة جمال ودهشة.

ختاماً

جمال الإلهام يكمن في نُدرته، والوصول له يكون عادةً وأنت على حافة فقدان الأمل، وأنت تُحاول إغلاق الدفتر ورمي الأوراق وإنهاء جلسة العصف الذهني، في هذه الحالة لا تحاول السيطرة عليه بل اسمح له بأن يتغلغل في أعماقك، ويُحلِّق بك بجناحيه في فضاء الإبداع وسماء الدهشة.



هذه المقالة اقتباس حرفي من التدوينة الصوتية ويعود كل نسب الفضل إلى لبنى الخميس فيها بشكل كامل.