----------------------------------
يا ليل الصب .. للشاعر ( علي الحصري القيرواني )
============================
هذا قصيد أشهر من نار على علم ، فقد سار ذكره في الخافقين ، و ردده المنشدون في العالم العربي من عصره إلى يوم الناس هذا ، شغل به الحصري الناس ، و كم شغلهم بروائعه ، و حرك عواطفهم ببدائعه ، فتلقفه الشعراء شرقا و غربا يقلدون بحره و موضوعه و يحاولون تزيين قصائدهم بروائع معانيه ، و رقة ألفاظه و مبانيه ، فلم يدركوا شأوه ، و لا وصلوا إلى نغمه المرقص و عذوبته المعدومة النظير و معانيه التي حلق فيها إلى أقصى ما يصل إليه شاعر موهوب .
و قد أعان على ذيوع هذا القصيد زيادة عن رقة نسيبه و إشراق معانيه و عذوبة ألفاظه ، هذا النغم الحلو المرقص الذي اشتهر به ميزان ( الخبب ) مضافا إليه هذه القافية العذبة المتركبة من ( دال ) تعقبه ( هاء ) مضمومة ينطلق فيها النغم حرا مرحا لعوبا ، يأخذ بمجامع اللب ، و يحلق بالنفس في جو من السعادة و الإشراق .
و هذا القصيد مدح به الحصري الأمير ( أبا عبد الرحمن محمد بن طاهر ) صاحب مرسية ، و يظهر أن السبب في نظمه لهذا القصيد أن وشاية بلغت إلى الأمير تتهم الحصري بشتمه إياه في مجالسه ، و قد كان الحصري إذ ذاك منتصبا للتدريس بأحد مساجد مرسية ، فرفع إليه الحصري هذا القصيد يفند فيه الوشاية و يتملص من التهمة
* * * * * * * * * *
يا ليلُ الصبُّ متى غدُه = أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
رقدَ السُّمَّارُ فأَرَّقه = أسفٌ للبيْنِ يردِّدهُ
فبكاهُ النجمُ ورقَّ له = ممّا يرعاه ويرْصُدهُ
كلِفٌ بغزالٍ ذِي هَيَفٍ = خوفُ الواشين يشرّدهُ
نصَبتْ عينايَ له شرَكاً = في النّومِ فعزَّ تصيُّدهُ
وكفى عجباً أَنِّي قنصٌ = للسِّرب سبانِي أغْيَدهُ
صنمٌ للفتنةٍ منتصبٌ = أهواهُ ولا أتعبَّدُهُ
صاحٍ والخمرُ جَنَى فمِهِ = سكرانُ اللحظ مُعرْبدُهُ
ينضُو مِنْ مُقْلتِه سيْفاً = وكأَنَّ نُعاساً يُغْمدُهُ
فيُريقُ دمَ العشّاقِ به = والويلُ لمن يتقلّدهُ
كلّا لا ذنْبَ لمن قَتَلَتْ = عيناه ولم تَقتُلْ يدهُ
يا من جَحَدتْ عيناه دمِي = وعلى خدَّيْه توَرُّدهُ
خدّاكَ قد اِعْتَرَفا بدمِي = فعلامَ جفونُك تجْحَدهُ
إنّي لأُعيذُكَ من قَتْلِي = وأظُنُّك لا تَتَعمَّدهُ
باللّه هَبِ المشتاق كَرَى = فلعَلَّ خيالَكَ يِسْعِدهُ
ما ضَرَّك لو داوَيْتَ ضَنَى = صَبٍّ يُدْنيكَ وتُبْعِدهُ
لم يُبْقِ هواك له رَمَقا = فلْيَبْكِ عليه عُوَّدُهُ
وغداً يَقْضِي أو بَعْدَ غَدٍ = هل مِنْ نَظَرٍ يتَزَوَّدهُ
يا أهْلَ الشوقِ لنا شَرَقٌ = بالدّمعِ يَفيضُ مَوْرِدُهُ
يهْوى المُشْتاقُ لقاءَكُمُ = وظروفُ الدَّهْرِ تُبَعِّدهُ
ما أحلى الوَصْلَ وأَعْذَبهُ = لولا الأيّامُ تُنَكِّدهُ
بالبَينِ وبالهجرانِ فيا = لِفُؤَادِي كيف تَجَلُّدهُ
الحُبُّ أعَفُّ ذَويهِ أنا = غيرِي بالباطِلِ يُفْسِدهُ
كالدَّهْر أَجلُّ بَنِيهِ أبو = عَبْدِ الرَّحْمنِ مُحَمَّدهُ
العفُّ الطاهِرُ مِئْزرُهُ = والحرُّ الطَّيَّبُ مَوْلِدُهُ
شفَعَتْ في الأَصْلِ وزارَتُه = وزكا فتفَوَّقَ سُؤْددُهُ
كَسَبَ الشَّرَفَ السامِي فغدا = فوْقَ الجوزاءِ يُشَيِّدُهُ
وكفاه غلامٌ أَوْرَثَهُ = إِسْحَاق المَجْدِ وأَحْمَدهُ
ما زالَ يجولُ مَدىً فَمَدىً = ويحلُّ الأَمْرَ وَيَعْقِدهُ
حتّى أَعطَتهُ رئاسَتُه = وسياسَتُه ومهُنَّدهُ
فاليومَ هو الملِكُ الأَعْلَى = مولَى مَنْ شَاءَ وسَيّدُهُ
ميمونُ العُمْرِ مبارَكُهُ = منصورُ المُلكِ مُؤيَّدهُ
هَيْنٌ لَيْنٌ في عِزَّتِهِ = لكن في الحرْبِ تَشَدُّدُهُ
يطوِي الأيّامَ وَينْشُرُها = ويُقيمُ الدهرَ ويُقْعِدهُ
شُهِرَتْ كالشّمسِ فضائِلُهُ = فأقرّ عداهُ وحُسَّدهُ
لا يُطرِبُهُ التَّغْريدُ ولَوْ = غَنَّى بالأَرْغُنِ مَعْبَدهُ
والخَمْرُ فلَيْسَتْ مِنْهُ ولا = لعبُ الشَّيْطانِ ولا دَدُهُ
تركَ اللَّذَّاتِ فهِمَّتُهُ = عِلْمٌ يَرْويهِ ويُسْنِدهُ
وبداً في المُلْكِ تُرَغِّبُه = وبُقىً في المالِ تُزهّدهُ
وذكاءٌ مثل النَّارِ جَلا = ظُلَمَ الشُّبُهاتِ تَوقُّدهُ
وهُدَىً في الخيرِ يُرَغِّبُه = وتُقىً في المُلك يزهّدهُ
وحَواشٍ رقَّتْ مِنْ أَدَبِ = حتّى فَضَحت من يِنشدهُ
لا عُذرَ لمادِحِهِ إن لَمْ = يدفق بغرِيبٍ يَنْقُدهُ
غَيْلانُ الشِّعْر قُدَامَتُه = جَرْمِيُّ النَّحْو مُبَرّدُهُ
وخَليلُ لُغاتِ الْعُرْبِ يق = فِي كتابَ الْعَيْنِ وَيَسْرُدهُ
لما خاطبتُ وخاطَبَنِي = لم يخفَ عَلَيَّ تَعَبُّدهُ
فنزلتُ له عن طرف السَّبْ = قِ وقلتُ بكَفِّكَ مِقْوَدهُ
لو يعدَم عِلْمٌ أو كَرَم = أيقنتُ بِأَنَّكَ تُوجِدهُ
من ذَمَّ الدهْرَ وزاركَ يا = مَلِكَ الدُّنْيا فَسَيَحْمَدهُ
إن ذَلَّ فجيْشُك ينْصرُهُ = أو ضَلَّ فرأْيُكَ يُرْشِدهُ
أو راحَ إلى أُمنيتِهِ = ظمآن فحَوْضُكَ يُورِدُهُ
أنتَ الدنيا والدينُ لنا = وكريمُ العَصر وأَوحَدُهُ
لو أنَّ الصَّخْرَ سقاهُ نَدَى = كَفَّيْكَ لأَوْرَقَ جَلْمَدهُ
والرُّكْنُ لو اِنّك لامِسُهُ = لاِبيَضّ بكفّكَ أَسْوَدُهُ
يَطوي السُّفّارُ إليكَ مَدىً = باللَّيْلِ فَيسْهَرُ أَرمدُهُ
ويهونُ عَلَيهِم شَحطُ نَوىً = يُطْوَى بِحَديثكَ فَدْفَدُهُ
والمَشرِقُ أنبأَ مُتْهِمُهُ = بالفضلِ عليكَ وَمُنْجِدُهُ
والعينُ تراك فيُسْتَشْفَى = مطروفُ الجَفْنِ وَأَرْمَدُهُ
سعِدَتْ أيَّامُ الشَّرْقِ وما = طَلَعَتْ إِلّا بِكَ أَسْعُدُهُ
وأَضَاءَ الحَقُّ لِمُرسِيةٍ = لَمَّا أَورَت بك أَزْنُدُهُ
بالعدْلِ قمعتَ مظالِمَها = وَبِحُسنِ الرأَيِ تُسَدِّدهُ
وجلبتَ لها العُلَمَاءَ فلمْ = تَترُك عِلما تَتَزَيَّدُهُ
وزرعتَ من المعروف لها = ما عند اللّه ستَحْصُدهُ
واِهتَزَّ لإسْمِكَ مِنبَرُها = فليدعُ به من يَصْعَدهُ
قد كان الشيخُ أخا كرم = ينهلُّ عَلَى من يَقْصِدهُ
فمضى وبقِيتَ لنا خَلَفاً = من كُلِّ كريم نَفْقِدهُ
فاللّه يقيكَ السّوءَ لنا = وبرحمتِهِ يتَغَمَّدهُ
ولقد ذَهَبَتْ نُعْمَى عَيْشِي = وطريفُ المالِ ومُتْلَدهُ
أمُحِبُّكَ يدخُلُ مَجْلسه = فيقال أهَذَا مَسْجدُهُ
لا بُسْط به إلا حُصرٌ = فعسى نعماكَ تمَهِّدهُ
فاِبعَث لمُصَلٍّ أَبْسِطَةً = في الصَّفِّ لِيحْسُن مَقْعَدُهُ
وَعساك إذا أنعَمْتَ به = من صاحِبِهِ لا تُفْرِدُهُ
باِثنين يُغَطّى البَيتُ ولا = يُكْسَي بالفرْدِ مُجَرَّدُهُ
صلني بهما واِغنَم شُكرِي = فثنائِي عليكَ أُخَلِّدهُ
أَتُراكَ غَضِبتَ لما زَعموا = وطمَى من بحركَ مُزْبدهُ
وَبَدا من سيفِكَ مُبرِقُه = وَعلا من صوتك مُرْعِدهُ
هَل تأتِي الرّيحُ على رَضْوَى = فتقوّيه وتُصَعِّدهُ
أَنتَ المولى والعبدُ أنا = فبأَيِّ وَعيدِك تُوعِدهُ
ما لِي ذنبٌ فتعاقبُنِي = كذب الواشِي تَبَّتْ يدهُ
ولو اِستَحقَقتُ مُعاقَبَةً = لأبى كرمٌ تَتَعَوَّدهُ
عَن غير رضايَ جَرَتْ أشيا = ءُ تُغيضُ سواكَ وتُجْمِدهُ
واللّهُ بذاك قضى لا أنْ = تَ فلَسْتُ عليكَ أعدِّدهُ
لا تغد عليَّ بمُجْتَرِمٍ = لم يثْبُتْ عندك شُهَّدهُ
فوزيرُ العَصرِ وَكاتِبُه = ومرسِّلُه ومُقَصِّدهُ
يُبْدِي ما قلتُ بمجلِسِهِ = أَيضاً ولسوفَ يُفَنِّدُهُ
إِن كنتُ سببتكُ فُضَّ فمِي = وَكفرتُ برَبٍّ أَعْبُدهُ
حاشا أدبي وسنا حسبِي = من ذَمِّ كريم أَحْمَدهُ
سَتجودُ لعبدِكَ بالعفو = فيذيبُ الغَيْظَ ويطردُهُ
وقديمُ الوُدِّ ستذكرُهُ = وتجدِّدُهُ وتؤَكِّدُهُ
أوَ ليسَ قديمُ فخارِكَ ين = شينِي وَعُلاكَ يُشَيِّدهُ
يا بدرَ التّمِّ نكحتَ الشَّمْ = سَ فذاك بُنيّك فَرْقَدهُ
فَاِسلَم للدين تُمَهِّدُهُ = ولِشَمْلِ الكفْرِ تُبدِّدهُ
واِقبل غَيْداءَ محبَّرَةً = لفظاً كالدُّرِّ مُنَضّدُهُ
لو أَنّ جميلاً أَنشَدَها = في الحيَّ لذابتْ خُرَّدُهُ
أهديتُ الشِّعْرَ على شَحَطٍ = ونداك قريبٌ مَوْلِدهُ
ما أَجوَدَ شِعرِي في خَبَبٍ = والشعرُ قليلٌ جَيِّدهُ
لولاك تساوَى بَهْرَجُهُ = في سُوقِ الصَّرْفِ وعسْجَدهُ
وَلَضاع الشعرُ لذِي أدَبٍ = أو ينفقهُ من يَنْقُدهُ
فَعَليك سلامُ اللَّهِ مَتى = غنَّى بالأيك مُغَرِّدهُ