أدركت حينها (حرارة الظلم)
كنت تلميذا نجيبا مجتهدا نشطا في الصف الثاني بمدرسة الظهرة ، عندما عاتب الأستاذ بعض التلاميذ وقال موبخا (الحمار يقرأ خير منك) وأخذناها من باب المزاح حتى قال أحدهم (الحمار يقرأ خير من الأستاذ)
صرخ الأستاذ : من قالها؟
فأشار أحدهم إليّ . لم يمهلني الأستاذ وانهال عليّ ضربا بالعصا وأوقفني على الحائط ، ولم يشفع لي اجتهادي ولا نجابتي
أنا لم أقلها ، ولم أسمعها أساسا .. ولم أدر حتى لماذا يضربني الأستاذ ، فرجعت يومها حزينا مريضا مكلوما .. سألني أبي في السيارة : خيرك؟
لم أجبه . فاختلق لي جوابا عندما قال : شن تحس في راسك يوجع فيك؟
قلت : نعم . لأنه جواب سيكف عني أسئلة كثيرة ستطرح في البيت
يومها لم أتناول غذاءي ، ونمت وقد ذرفت دموعا كثيرة تحت اللحاف ؛ يظنون بي مرضا ، وما بي من مرض غير مرارة الظلم !!
وبت مفكرا : كيف سألقى معلمي غدا
كانت نظراته غير التي عهدتها ، ربما نسي زملائي ما حدث بالأمس ، لكني لم أنس كما لم ينس الأستاذ .. فترت العلاقة بيننا ، لم أعد مشاركا مجتهدا ، ولم أقو على مواجهته .. فهو المعلم وحتما هو على الصواب ..
ومن يجرؤ أن يخطئ المعلم ؟!!
كنت أجلس في المقعد الأول ، فانتقلت إلى الثاني ومنه إلى الثالث (وكانت العادة عندنا المقاعد الأولى للشطار)
بدأ ينمو بداخلي كره المدرسة ، وكره الأستاذ ، وكره الكتاب ..
بعد أربعة أو خمسة أيام وعندما دق جرس الاستراحة ، طلب الأستاذ مني البقاء في الفصل ، حتى إذا خرج جميع التلاميذ ، اقترب مني وسألني عن سر عدم اجتهادي؟
لازلت أذكر تسارع دقات قلبي ، وحرارة تنبعث من وجهي ، خوفا من صفعة قد تباغثني ..
جذبني إليه وهو جالس على كرسيه حتى صرت بين ركبتيه ، وكرر السؤال . فقلت بصوت رقيق خائف : لأنك ضربتني
فقال : لأنك أخطأت وقلت كلاما عيبا
قلت : والله لم أقل شيئا منه .. ولم أسمع حتى من قاله
سكت هنيهة ، ثم وضع كفه الممتلئة الدافئة على رأسي ومسح بها حتى بلغ ذقني وربت على كتفي قائلا : معليش (لم يزد عليها شيئا)
لكن كانت تلك المسحة كفيلة أن تمسح كل آثار الظلم والكراهية من قلبي ، وكأنها مسحة ربانية تركت خلفها الحب والصفاء ..
لقد سامحني الأستاذ .. خرجت للاستراحة ، ولم أملك دموعي فرحا وسعادة ..
يسألني الزميل عندما رأى دموعي : علاش ضربك الأستاذ ؟
وأنا في غمرة السعادة أتيه هنا وهناك !!!
وعادت همتي للدرس وعاودت نشاطي واجتهدت في دروسي وعدت لأنتزع المقعد الأول من زملائي ..
الحادثة –والله – حقيقية ، واستفدت منها الآن أيما استفادة ، يأتون بالتلميذ المشاغب فأخلو به في الإدارة وأدنيه مني فيتوقع مني كل عقاب ، غير أنه يفاجئ بي وأنا أحنو عليه وأخاطبه بأرق أسلوب وأمسح على رأسه ، بل وأقبل جبينه ..
فوالله الذي لا إله غيره بعضهم تنهمر عيناه بالدمع ، وبعضهم يلقي بنفسه إلى صدري يعانقني ويبكي .. وفي الغالب ينصلح حاله أويعاهدني على خير
في الغد تقع عيني على عينه في طابور الصباح فيبتسم لي ممتنا محبا شاكرا ، فلا أملك نفسي حتى أقترب منه وأمسح منه الرأس والوجه ..
منقول