الأنا والآخر في خطاب
رواية (ميلانين) للروائية التونسية "فتحيّة دبش" الحائزة على جائزة كتارا لعام 2020‪‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

بقلم الروائي- محمد فتحي المقداد

المقدمة:
السرديّاتُ عُمومًا تنطلق من واقع ما؛ فهو أساس صالح للبناء الروائيّ، وتأتي موهبة الكاتب للسير قُدُمًا في مزاوجة إبداعيّة بين الواقع والخيال؛ لنسج عالم روائيّ مُقنع بحدثه، وممتع لمتابعة القراءة بتشويق بمجاراة للكاتب.
والكاتب جزء من الواقع، وسيرته خيط من نسيج اجتماعي، والعمل الروائيّ وعاء يستوعب مثلا تذويت سيرة الكاتب من خلال سرديّة أدبيّة ترتقي إلى عوالم الحداثة، على مدارج اللغة، وتصاعد الحدث، بصنعة أدبيّة ترتفي عن الحكاية بمسافات ماهرة خبيرة، عارفة إلى أين هي ذاهبة، وأمينة على أخذ القارئ معها إلى عوالمها بأمان، وهو ما قامت به الروائيّة "فتحيّة دبش".

العنوان:
أقوى العناوين ما جاء بكلمة واحد، وهو على الأغلب يكون مُحكَم الدلالة؛ ليقودَ القارئ إلى عتبة النصِّ، ومن ثمّ الوُلوج إلى دهاليزه، وزواياه المُضيئة والمُعتِمة.
ميلانين: مصطلح عِلميّ، وهو المادّة الصِّبغيَّة المسؤولة عن تلوُّنِ البشرة والشَّعر؛ كلّما حضرت كان اللَّونُ غامقًا كثيفًا، وكلما قلّتْ كان اللّونُ فاتحًا.
وحسب موقع ويكيبيديا: (يبدأ إنتاج الميلانين في الجلد بعد التعرّض للأشعَّة فوق البنفسجيّة، مما يُسبِّب اِسْمرار الجلد بشكل واضح. يُعتبَر الميلانين مُمتَصٌّ فعَّالٌ للضوء، والصّبغة قادرة على تبديد أكثر من 99.9٪ من الأشعة فوق البنفسجية الممتصة).
وفي مزاوجة لكلمة ميلانين، مع اختيار الكاتبة لمقولة عالم النفس "كان بول سارتر": (أنا أستطيعُ أن أختار دائمًا، وحتّى إذا رفضتُ الاختيار، فإن عدم الاختيار؛ هو اختيار في حدّ ذاته). يتبيّن أنّها اختارت السّفر للدِّراسة في فرنسا، واختارت أنْ تروي لنا تجربتها على لسان بطلتها المُوازية "أنيسة عزّوز"، لكنّها لم تختر، بل كانت عاجزة تمامًا باختيار لونها الأسمر المعجون بأديم أفريقيا؛ ولتحكي لنا برمزيّة مؤشّرة للتمييز العنصريِّ، وقضيّة المُلوّنين على مستوى العالم.
فهل كانت واعية لسبب اختيارها لهذه العبارة، ونحن نستقرئ فلسفتها المُتوارية خلف ظاهر المعنى، أجزمُ بقولي: "نعم"، في مثل هذه الحالات لا يأتي الاختيار عَبثًا، للاتِّكاء على اسم سارتر في بداية الرواية لخداع القارئ، أو لفرد عضلات الكاتب لإيهام القارئ.

الأنا والآخر:
الأنا والذّاكرة خاصّة في السّفر، هواجس الضّجر، قلق المسافات والانتظار، والاستجواب، قلق الخوف من المجهول بتضاديّة الإقدام عليه، متزاوج مع قلق الوصول، فالمحطّات تُسلم نفسها للعابرين بمتوالية ارتباطيّة كلّ محطّة تُفضي إلى أخرى، وبوّابات للخروج تُقابلها أخرى للدخول.
(أشعر بالبهجة نفسها، والنّوستالوجيا التي صاحبتني عند أوّل سفرة بعيدًا عن شجر التّين والزّيتون) ص10. لم يطُل بنا الأمر لاكتشاف سبب القلق المشوب بالخوف؛ سببه الحنين المؤرّق للوطن، هي لم تُعبّر بكلمة وطن أو قرية، بل أوّل سفرة بعيدًا، حيث اختصرت الوطن بشجرة، ولماذا الشّجر.. التّين والزّيتون؟، أعتقدُ جازمًا أنّها تحسدُ هاتين الشّجرتيْن لتجذرهما، وتعميرهما سنوات طِوالًا، وها هي تركت جذورها وقدمت إلى باريس، كما أنّ رمزيّتهما كبيرة؛ فيهما الحياة الدّائمة المُستمرّة في أفريقيا، بمقاومة الجفاف والظّروف القاسية، والإصرار على الحياة بعناد، كما أنّ دلالتهما القرآنيّة في ضمائرنا، فيهما إشارة اِتّكائيّة لتعود بنا لتلاوة هذه السّورة، وكأنّها تقول: مهما ابتعدتُ لن أتخلّى عن مُعتقدي وأصولي وجذوري. كما أنّ رمزيّة شجرة الزيتون المُباركة كرمز للسّلام والسِّلم العالمي المفقود، أحملها بقلبي وعقلي.

وتقول: (كبيرةٌ جدًّا باريس، وأنا القادمة من قرية بعيدة بين بحر وصّحراء، عندما غادرتُ "مارث" إلى تونس العاصمة، كنتُ أشعرُ بالتّيه لفرط اتّساعها، واكتظاظها، هو الشّعور نفسه الذي تلبّسني، وأنا أحطّ بطموحاتي في معهد الصّحافة هنا قبل سنوات من اليوم، باريس الشّرسة أكبر بكثير ، والتّيه فيها بلا حدود)ص10. ومن الذي دفع فاتورة السّفر والدّراسة: (باع أبي شُوَيْهاتها وأمّي حِلِيّها القليل، وعزمتُ على العوْم، إمّا النّجاة، وإمّا الغرق) ص11. الرّيف الفقر، والتضحية بأساسيّات العيش من أجل العلم، ومجازفة لتجربة مجهولة الطّريق، محفوفة بالفشل على كثير من الاحتمالات، والنّجاح بالأخرى.
هنا يتبيّن أنّ الحدث الروائيّ جاء على محمل الذّاكرة، وما جادت به بعد اتّضاح الرّؤية، بالنسبة للقرويّ الريفيّ ونظرته إلى المدينة الصّارخة بكلّ شيء مختلف تمامًا عن القرية الهادئة، الناس يعرفون بعضهم بعضًا، والمُدنُ تُرحّب بكل غريب، تحاول ابتلاعه واحتواءه بكلّ تفاصيله، وإغراقه في أُتُونها، وهو ما تنبّهت له "فتحيّة دبش"، بقولها: "باريس الشّرسة أكبر بكثير ، والتّيه فيها بلا حدود". والغُرباء يجمعهم ليل الفُندق النّزُل، يحاولن التخلّص من أحمال همومهم المُتشابهة حدّ التّطابق. لكنّ ضرورة المدينة محطّة في حياة البشر جميعًا، يقصدوها لقضاء شؤونهم المختلفة.
الغُرباء يلفت انتباههم كلّ صغيرة وكبيرة، وتُعبّر عن ذلك: ( كنتُ فيها أسير - بباريس- بين أبنائها بلا ظلّ ولا امرأة، وحده الحنين يجُرّني إلى جوْلة بالمغرب الصّغير ببارباس - حيّ باريسيّ -، أملأ حواسّي بالأصوات باللّغة وبالروائح، يُبادرني أحيانًا بعض الباعة، بلغة فرنسيّة بلكنة مغاربيّة، أجيبُه بالعربيّة؛ فيفغر فاه) ص11. شعور الغرباء مُتشابه بالحنين والأشواق لرائحة الأوطان وعلى متنها يغادرون باريس سفرًا بأرواحهم إلى ديارهم. هذه الازدواجيّة، وانقسام المشاعر والحنين الدّائم، في حقيقته قلق الذّات بين الرّفاه في الشّمال، والعودة إلى مواطن الفقر في الجنوب، وهي قضيّة شائكة بكل مستوياتها.

الآخر العنصري:
وبتتبّع هذا الموضوع في سياق الرّواية، فلا بدّ من إماطة اللّثام عن الوجه الآخر لبلاد النّور، لا أدري كيف أطلقوا عليها بلاد النّور، وهي الدّولة الاستعماريّة قديمًا أيّام الاستعمار الكولونيالي، وما زالت تُدير كلّ خُيوط اللّعبة في أفريقيا ودول عديدة في العالم، من خلال غطاء الفرانكوفونيّة، وتقوم بنهب ثرواتها، وتثبيت رجالها كزعماء تُشغّلهم لمصالحها من خلال تنصيبهم كرؤساء ووزراء وحكّمًا إداريّين على دولهم.
-(هناك دائمًا حدث ما أو عبارة ما يذكّرك به الآخرون من خلالها بأنك مُختلف، لا بدّ لك من تبعيّة ما؛ حتّى يستأنسوا إليك، إن استطاعوا) ص12.
-(ألملمُ شظاياي، أستعيد اختلافي، وأختفي من هرج الأسئلة بين الدّفاتر.. هناك فقط تكمن النّجاة) ص12. الغُربة تفرض قيودًا جديدة في نفس أيّ مُغترب لأيّ سبب كان. كثيرٌ من المخاوف.. كثير من التّحفّظات، صراع الهويّة والانتماء، وخلع القيم والمبادئ حتّى يكون مُدمجًا في مجتمع مختلف تمامًا، لا يرضى من المهاجر إلّا بخلع جلده ورميه في مزبلة بلاده، والقدوم إليهم جاهز لقولبته على طريقتهم التي يريدونها.
-(على مشارف الحزام السّريع المُفضي إلى الطّريق السيّارة رقم 86، تظهر المُخيّمات العشوائيّة مُتراصّة، بعضها فرديّ، وبعضها جماعيّ . أسألُ السّائق: إنّ كانت مُخيّمات الغجر؟، ولكنّه يُجيب بنبرة حياديّة: لا، هي تجمّعات للمُتسلّلين الجُدُد) ص12. في هذا المقطع يتبيّن لنا أن الزّمن الروائيّ للحدث هو جديد، ابتدأ بعد موجة الرّبيع العربيّ ، وهو ما عادت لتؤكّده الروائيّة: (بعد الرّبيع العربيّ بدأت إفريقيا تتقيّأ أطفالها بلا مُواربة، ولا خجل، ومن صمت جرائمها في بيع أطفالها قديمًا للقواف العربيّة، ثمّ للبواخر الغربيّة، واليوم على ظهور قوارب الموت تتقيّؤهم دون استثناء) ص12.
وترسم بمهارتها الأدبية المشهد بحروف تقطر ألمًا إنسانيًّا: (وتحوّلت البضاعة السّوداء إلى بضاعة مُلوّنة، تملأ بطن المُتوسّط الذي لا يشبع) ص12. وهنا تتجلّى فلسفة اختيارها المُوفّق لكلمة ميلانين؛ لتجعلها عُنوانًا للرواية، فبكلمة واحدة غطّت على أسِّ الحدث بشكل معقول، ومُقنع لتوجّهات رساليّة الرواية.
وفي جملة مثيرة: (فرنسا شقراء، وستظلّ..!!)ص13. كذا قال لي نيكولا – طالب في نفس دفعتي – ونحن نتقاسم وجبة غداء في المطعم الجامعيّ. قلتُ له: (لكنّ الشّوارع تثبتُ أن سمرة صحراويّة تجتاحها ببطء) ص13. وضع ملعقته وشوكته جانبًا واعتدل في جلسته قُبالتي، وقال: (من الصّعب جدًّا أن تُنجِب أنثى بلا حُبٍّ، ولكنّه يحدُث كثيرًا أن تحمل جنينًا بلا حبٍّ أو بعد اغتصاب، وأن يتحوّل الجنين إلى طفل مُشاغب يُخلخل قلق البراءة، يُفجّره بحثًا عن هويّة، أخيرًا ستجعل منه طفلًا شرعيًّا دون أن يكونه، ويحدث أيضّا أن يتحوّل جنين اللّاحب إلى طفل نزق مُنفلت يهدّدها ويقتصّ منها) ص13.
-(انظُري ماذا فعل المُهاجرون القُدامى بفرنسا..!! عليك رُبّما بالخروج في جولة إل بارباس في يوم الجمعة، يسجدون في الشّوارع يكتبون بالعربيّة على واجهات مغازاتهم، لم يحدث أن خلخلت أقليّة مُهاجرة فرسا مثلما خلخلتها الجاليات العربيّة المُسلمة) ص13+14.
-(إنّه زحفٌ ممنهج، مُتمرّد، اندمج الجميع حتّى السّود، أمّا المُسلمون فقد كشفوا عن عجزهم عن التأقلم فيها، ظلوا مُتمسّكين بعاداتهم القبليّة، وبأفكارهم الخُرافيّة، ساقهم إليها الفقر، حتّى إذا شبعوا تنكّروا لبلد آمنهم من جوع) ص14.
-(نيكولا دُوران، يُردّدُ كثيرًا تاريخ جدّه اذي مات في حرب تحرير فرنسا، ويرى في نفسه وريثه الشّرعيّ في النّضال، يحلمُ بفرنسا البيضاء الكاثوليكيّة، ولا يتردّدُ مُطلقًا في التّصريح) ص14. ثمّ أعاد القوْل: (لا يُمكن إدماجهم أبدًا، وكلّ عرق يجب أن يحافظ على نقائه) وسألته: (ماذا يعني كلّ ذلك، العرق والإدماج؟) لم يرتبك نيكولا من سؤالي، ولكنّه اضطرّ للشرح والتّعليل، وهو يؤكّد أنّه ليس عُنصريًّا، بل قوميًّا ليس إلّا) ص14.
في الحقيقة أنّ أجمل الكلام هو ما قلّ ودلّ، بضع صفحات وهي الأولى من رواية ميلانين، فقد أفصحت بجلاء عن المشاعر العنصريّة بالطبع ليس الفرنسيّون وحدهم، بل معظم الدّول الأوربيّة، تتجلّى بالوجه القبيح المُغاير للبروباغندا الإعلاميّة التي انكشفت، ولكنّها مع ذلك لا تزال مطمح كلّ فقير ومُضطهد في وطنه.

الخاتمة:
للمطالع لرواية "ميلانين"، سيجد نفسه في معمعة الصّراع بين الفقر والغنى، بين الجنوب والشّمال، بين الأسود والأبيض، بين المُضطهد والتهجير القسري، بين الموت والحياة، بين الموت ولُقمة الخبز، بين الدكتاتوريّة والحرية.
الرواية لوحة سورياليّة جمعت المُتناقصات، مليئة بالقلق والخوف، والشعور المُتأجّج بالهواجس المُتعلقة بالحياة داخل الأوطان وخارجها، ونشوء تعالقات جديدة بنتائجها الحتميّة، بين الجذب والشدٍ، على محامل الحبّ المفقود والكراهيّة، في أوطان مُلئت بدماء أبنائها، لما أرادوا أن يكونوا بشرًا، بفعل ارتدادات الثورة المُضادّة من الأنظمة، حفاظًا على مصالح مجاميعها الحاكمة.
وليس عبثًا ولا مُفاجئًا أن تفوز رواية "ميلانين" للروائية التونسيّة "فتحيّة دبش"، بجائزة كتارا للرواية العربيّة في موسمها ٢٠٢٠، لولا أنّها تستحقّ ذلك عن جدارة، لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال، اللّغة الرّشيقة المُقتَصَدة، سلامة البناء الدّرامي بكافّة مُستوياته السرديّة، ملامسة قضايا مُعاصرة شائكة، بمحاولة تسليط الضّوء عليها، والإشارة إليها بعين أديبة، استطاعت اقتناص اللّحظة بحرفيّة خبيرة. وألف مُبارك للقُرّاء والكُتّاب العرب ولفتحيّة دبش.
عمّان – الأردنّ
١٩/ ٤/ ٢٠٢١