التساؤلات على مدارج رواية
(إلقاء القبض عليّ حاسر الرأس)
للروائي السّوري (صبري يوسف)

بقلم الرّوائي – محمد فتحي المقداد

*المقدمة:
من جماليّات أيّ عمل أدبي عُمومًا، بقدر ما يثير من زوابع التّساؤلات في ذهن القارئ، وهو ما يُحتسَب في رصيد المُكتنزة بالوقفات التأمليّة التي تتفتّق عنها أفكارًا، بحاجة إلى إجابات مُلحّة بأحقيّتها في الاستقرار على برِّ من جَوابٍ شافٍ.
والتساؤلات كانت تتدفّق على ذهن الروائيّ "صبري يوسف"، وهو أمام حدث مفصليّ في حياته العسكريّة، أثناء تأدية الخدمة الإلزاميّة في الجيش العربيّ السّوريّ، فالانضباط والالتزام الشّديد بالأوامر العسكريّة هو قانون الجيوش قاطبة في العالم. الجنديّ لا يكون جُنديًّا إلّا بلباسة العسكريّ الأنيق مُتكاملًا من أعلى رأسه باعتمار قُبّعته، إلى أخمص قدمه بلبس البوط (البُسطار) نظيفًا مُلمَّعًا، والأهم أن يكون حليق الوجه بشكل دائم.

عنوان الرواية:
جاء العنوان مُكوّنًا من خمس كلمات (إلقاء القبض عليّ حاسر الرأس)، يبدو أنّه طويل نسبيًا، كان من الممكن بدل هذه الجملة، بانتقاء عنوانٍ مختصر بدلالته على الحدث.
أرى أن الكاتب أراد أن يكون الحدث الأساسيّ هو محور الرّواية بشكل عامٍّ، خرق القوانين العسكريّة بعدم وضع القُبّعة (السّيدارة) على رأسه، لم يكُن مُتقصِّدًا ذلك، بل بطريق الخطأ.
لكنّ المُخالفة البسيطة؛ تبقى مُخالفة في نظر القائمين على تنفيذ وتطبيق القانون، وهم أفراد الشّرطة العسكريّة الأشدّاء بفظاظة وجلافة، من خلال دوريّاتها الثابتة والمُتحرّكة في المُدن عامّة، وعلى الأخصّ في العاصمة.
عسكريٌّ مُجنّدٌ أو عامل، فردًا أو صف ضباط أو ضابط، فهو هدف شهيٌّ لدوريّات الشّرطة العسكريّة، إذا ضبطوه بمخالفة مهما كانت صغيرة وتافهة، من الممكن أن تؤدّي به إلى السّجن، وحلق شعره على الزّيرو (الصّفُر)، وما يترتّب على ذلك من تأخير تسريح المجنديّن عند نهاية خدمتهم عن موعدها.

تساؤلا ت على الرّواية:
وبالاستدلال من الرواية بمقطع: (سأتدلَّى يوماً بالحبالِ في حفرةِ تحومُ حولها شهقات البكاء، وقبل أن أتدلَّى، لابدَّ أن أضرب ضربتي القصوى في رحابِ العطاء، لابدَّ أن أؤدّبني تأديباً لا يخطر على بال، لابدَّ أن أضع نفسي على المحكِّ الأخير، لابدَّ أن أطهِّرَ نفسي من ترّهات هذا الزّمان؛ كي أتدلَّى بطريقةٍ تليقُ بالسّماءِ وثباتِ الحبال!).
بمزاوجة هذا المقطع مع العنوان: (إلقاء القبض عليّ حاسر الرأس)، نخرج بنتيجة أنّ الرّواية جزء من سيرة ذاتيّة للكاتب "صبري يوسف"، والأعمال الروائيّة تستوعب هذا النّوع من الأدب بتذويت السّيرة من خلال نسيج سرديٍّ أدبيٍّ فيه مُتعة القارئ، وتظهر فيه مهارات الكاتب، وجرأته في كشف جوانب من تجربته الحياتيّة؛ لاعتقاده أنّ فيها النّفع لتشابهها أو اختلافها عن حياة الآخرين. وفي رأي "صبري يوسف" أنّ ما فعله هو نوع من الخلاص التطهيري الداخليّ، وهو ما يليق بالسّماء، وللتخلّص أيضًا من أوظار الواقع العالقة بالرّوح؛ وصولًا به إلى مرحلة النِّيرفانا.
كما أنّ العامل التأديبيّ بنظر القائمين هو تربية على الانضباط، بتقويم المسلك غير النظاميّ، للاعتياد على الالتزام الذاتيّ مُظهِرًا التزامًا يليق بالهيبة العسكريّة.
-(هل تستهين يا عزيزي القارئ، ويا عزيزتي القارئة، أن ينسى العسكريّ، ارتداء طاقيّته على رأسه)، وبلسانه يُجيب على تساؤله الاستنكاريّ: (منظر العسكريّ غير لائق، وسيدارته مُعلّقة على كتفه أو في جيبه، نعم هندامه من دون ارتداء سيدارته؛ يُشوّه الشّارع، ويعكسُ صورة غير مُنضبطة للنظام العسكريّ العتيد). سُخرية الجواب بكلمة: "يُشوّه الشّارع"، وكلمة: "العتيد"، لكن الجيش يريد فرض هيبته بالقوّة على مُنتسبيه، ولإنزال الرّعب في قلوب الشّعب.
-(قلتُ للذيْن قبضا عليّ، هي ذي سيّارة مبيتي، ولا بُدّ أن ألتحق بقطعتي الآن، لأنّ لديّ أعمال هامّة لا بُدّ أن أنجزها اليوم) أجابني أحدهما: (لا تستطيع اللّحاق بقطعتِكَ، ولا بُدّ من أن تُرافقنا، ونأخذ إجراءاتنا بحقّكَ؛ لأنّك ستُعاقب) والسّبب على رأيه: (لأنّنا ألقينا عليكَ القبض، وأنت حاسرَ الرّاس، وهذا مُخالف للانضباط العسكريّ، ، وكان من المفروض عليك أن ترتدي سيدارتك منذ خروجكَ من المنزل، كي تكون مُهَيَّأً لهكذا موقف)، لم يتركنا الروائيّ "صبري يوسف" في حيرة أمام تساؤلاته، بحواريّاته مع دوريّة الشّرطة العسكريّة، لنتلقّى الإجابة، ونتعرّف على السّبب الحقيقيّ للقبض عليه.
- (وما هذه الجريمة الكبرى الّتي ترتّبت عليّ من خلال سيري أو وقوفي في الشّارع حاسر الرَّأس؟!). و(ماذا سيستفيد الجيش والنِّظام العسكري عندما تلقيان القبض عليّ في هذا الصَّباح الباكر وأنا حاسر الرَّأس؟!)، الشّرطي العسكريّ بحدّة الآمر الذي بيده مقاليد الأمور: (أجابني بكلِّ عنجهيّة: لا تتفزلك ولا تطوِّل لسانك، كُنْ مؤدَّبَاً ونفّذ الأوامر العسكريّة بدون أيِّ نقاش).
-(ماذا ستقدِّم للوطن لو عاقبتني؟، إنّك عندما تعاقبني تعيق عملي، وبالتَّالي تحرِم الجيش من خدمتي له، وهذا ينعكس على الجيش سلباً، وهل كلّ عناصر الجيش منضبطين على التّمام والكمال، وبقيت قضيّة عدم الانضباط متوقِّفة عليّ أو على من يسيرون في المدينة حاسريِّ الرّأس؟ الجيش يحتاجني في قضايا أهم من كوني أسيرُ حاسِرَ الرَّأس). نظرتان متعاكستان تمامًا برؤية القضيّة، وتداولها بطريقة واقعيّة كلٌّ من وجهة نظره، فالقائم على تنفيذ القانون يرى في عدم ارتداء السّيدارة قضيّة خرق قانون، وإخلال بهيبة الجيش، والعسكريّ المُجنّد يراها أشياء تافهة لا تستحقّ كلّ هذه الإجراءات المُجحفة بحقّه وأمثاله المُخالفين مثله، وبالتّالي لا خيار له إلّا الامتثال لإرادة القانون طوعًا أو كرهًا، وتنفيذ العُقوبة المسلكيّة المنصوص عليها بحقّه. وتأتي إجابة الرّقيب: (نعم بقيت القضيّة متوقّفة عليك وعلى كلِّ واحد من أمثالك يخالف القانون)، القائم ضمن مُهمّته الوظيفيّة مراقبة أيّ خرق للقانون، لقمعه بالقوّة إن تطلّب الأمر.
-(لكنّي فقط أناقش معك عن الفائدة الّتي سيجنيها الجيش من مُعاقبتي لا أكثر!)، احتجاج منطقيّ لو كان للمنطق أن يتحدّث في وضع غير خارق للقانون. لكن لا فائدة تُرتجي، لأن القاعدة العسكريّة، تقول: (نفّذ، ثُمّ اِعتَرِضْ)، وبمرارة المغبون ظُلمًا، المجنّد بمحاكاته الدّاخليّة: (صعدتُ معهم بالسَّيارة، وكأنّني مُجرمٌ فارٌّ من الجَّيش، أو كأنّي ارتكبتُ خطأً جسيماً في حقِّ النَّظام العسكريّ). وبمرارة أكثر يتابع: (شعرتُ بالتَّضاؤل والمهانة، أن يُقبَضَ عليّ لأمرٍ تافه كهذا).
- وبطريقته السّاخرة قريبًا من الكوميديا السّوداء، يحكي صبري يوسف: (أنا العسكري الرّقيب المجنّد المدنيّ، أخدمُ خدمتي بكلِّ اِحترامٍ وشرفٍ، وأشتغلُ ليلَ نهار في قسم التّوجيه السِّياسي، ماذا قلتُ: التَّوجيه السِّياسي، ما هذه السِّياسة "الرّشيدة" في معاملة عناصر الجيش بهذه العنجهيّة والمهانة الفاقعة؟!) في هذا المقطع تتجلّى المفارقة الكُبرى بين الواقع والنّظري، بين الشّعارات وبين الإدارة، احتجاج بلغ ذروته قهرًا به، لانقطاعه عن تأدية مُهمّته، التي يقوم بها على أكمل وجه، ليحدث شرخًا غير مُتوقّع أن يحدث له بهذه البساطة، ولأمر برأيه بسيط لا يستحقّ كلّ ما حصل له.
- وعلى الطّرف الآخر هناك عريف قبضوا عليه، وساقوهما معّا إلى المقر: (كان في السِّيارة عسكريَّاً آخر برتبة عريف، تهمته أيضاً شُوهِدَ هو الآخر حاسر الرّأس، نظر إليَّ ببسمة مثقلة بالأسى، وهو يهزُّ رأسه بنوع من الذُّل، كأنّه يقول لي: حرّرنا الأراضي المحتلّة)، ما أقساه من شعور مهين، يستشعره العسكريّ الذي نذر جزءًا عزيزًا وغاليًا من عمره؛ لتأدية الخدمة الإلزاميّة وفاء والتزامًا للوطن؛ الذي رضع حبّه مع حليب أمّه، وتعلّم منذ نعومة أظافره: (حبّ الوطن من الإيمان)، بسخرية يقول: "حرّرنا الأراضي المُحتلّة.!!".
- ويتابع بلهجته الغاضبة السّاخرة: (ما هذه القرارات الخنفشاريّة الّتي يسنُّونها على رقاب العساكر، الجنود وصف الضبّاط والضّباط، فيما يخصُّ ارتداء الطَّاقيّة، وما هو موقف أي عنصر ممكن أن يُزجَّ في السّجن ويُحلق شعره، لمجرّد أنّه نسى سهواً، أو إهمالاً أن يرتدي طاقيّته لدقائق معدودات).
- ولم يتركنا الكاتب إلّا ليُسلمنا إلى استنتاجات، نابعة من قناعاته الحقيقيّة، عندما اتّضحت الرؤّية بعد سنوات على الحدث، ووقت الكتابة جاء على محمل الذّاكرة، وإبداء بوضوح تامّ؛ وإصدار حكمه الخاصّ، الذي ربّما يُخالفه فيه البعض، هي تقاطعات ذكيّة؛ لإعطاء صورة واضحة ببساطة المواطن العادي، بلا رتوشات ولا تزويقات كلاميّة، وهو المُبرّر المنطقيّ، للاصطفاف والانحياز للحقيقة: (برأيي: إنّ إلغاء هذا الأمر من قانون العقوبات في الجيش، مهم جدّاً، لأنّه يخلق نوع من العداوة والنُّفور بين المعاقَبين والجهة المعاقِبة، لأنَّ هذا الأمر يحصل خارج الدّوام وليس له أيّة علاقة بالانضباط بالمفهوم الدَّقيق لكلمة انضباط، وأرى أنَّ الجندي بدون سيدارة أجمل، لأنّ شكله بالسِّيدارة يوحي كأنّه في جبهات القتال، لا حرّيّة حتّى في وقت فراغه).
- وبمرارة حفرت ساربها في أعماق نفسه، ما زال يُردّد ألمه النفسيّ: (ضاقَت بي الدُّنيا، انتابتني أسئلة عديدة، وراودني عدّة أفكار غريبة ولا تخطر على بال أحد في تلك اللّحظات الرّهيبة، جمح خيالي بعيداً، وسرحتُ في أفكاري وتوقّفتُ عند سؤال يتعلّق بكيفيّة الخروج من المأزق الّذي أنا فيه دون أن أظهر ضعيفاً أمام زملائي في العمل، خاصّة أنّني كنتُ أعمل في موقع حسّاس، ويتطّلب أن أكون قدوةً في كلِّ شيء من حيث الاِلتزام بالقوانين والاِنضباط، مع أنّني ما أزال أعتبر هذه الجزئيّة في القانون العسكري لا معنى لها ومعاقبة العناصر بهذه الطَّريقة غير مجدية بقدر ما تخلق حساسيّة والكثير من رِدّات الفعل من قبل المعاقَبين).
- وبتعميق التّساؤلات لتطال القيادات في ذاك الوقت، والتي لم تختلف كثيرًا عن حاضرها: (لماذا لا تفكِّر القيادة في حلِّ مشاكل العناصر والجنود وصف الضّباط والضّباط بكلِّ ما يتعلّق بمسائل المعيشة والسّكن والمشرب والخدمات الأخرى والمشاكل الَّتي تعترضهم أثناء تأدية خدمة العلم، لا أن تتربّص بهم وهم في أعماق عاصمتهم وحيّهم وأزقّتهم وتنقضُّ عليهم كأنّهم في حالة صراع أو حالة عداء). هذا التوصيف وهذه الحالة الفصاميّة التباعديّة بين القائد ومرؤوسيه، القائد في وادٍ بعيد عن هُموم ومشاكل العساكر، اهتماماته خاصّة به.

الخاتمة:
الرواية من منظور أدبيّ تُصنّف في عداد المدرسة الواقعيّة، حيث انتقلت بالواقع في جُزئيّة من حياة أي شابٍّ سوريّ في مُقتبل عمره، موضوع الخدمة الإلزاميّة، وما يترتّب عليه من التزامات عليه على أهله.
ولغة الرّواية السلسة المرنة ببساطتها بدون تعقيدات، وجاءت ببنائيّة دراميّة مُتكاملة، بطريقة سرديّة شيّقة ومتماسكة، وظهرت فيها جليّة تقنيّة المونولوجات والديالوجات بإظهار التعدديّة الصوتيّة الظاهرة والخفيّة، كما لحظت فيها ظاهرة المشاهد الخفيّة، المُستخلصة بذكاء القارئ.
الرواية فيها الكثير من الجوانب التي تحتاج للدّراسة والتحليل، وقد أخذتُ جُزئيّة من جانب منها لعلّني أكون، قد أوفيتُ الموضوع حقّة، وأظهرت شيئًا من مكنونات الرّواية. ومعلوم أنّ هناك ما من عمل مُتكامل أبدًا، إنّما الأمر إضاءة هذا الجانب بما كتبتُ.

عمّان – الأردنّ
ـــــــــا 20\ 4\ 2021