هلّ هلالك...
سامي مروان مبيّض

"اللهم اني صائِم"...عِبارة جميلة كانت تتردد في شوارع الشّام خلال شهر رمضان المُبارك، يقولها الناس للجم أنفُسهم وتهذيب كلامِهم أثناء الصّيِام.

تغيّرت دِمَشق كثيراً في السنوات القليلة الماضية، ومن جملة التغيرات تلاشي بعض عاداتنا القديمة في رمضان، منها الصّيِام بحد ذاته والتكريزة التي كانت تسبقه في آخر يوم من شهر شعبان، والتي كانت تجمع أفراد الأسرة، إما في جمعة منزلية أو "سيران،" اعتاد الدمشقيون على اقامتِه قبل استقبال "شهر التوبة."

ما زلتُ أذكر مدفع رمضان، الذي غاب عن عالمنا منذ عشرِ سنوات، ليتم استبداله بأصوات مدافعٍ أخرى، حُفِرت في ذاكرتنا الجماعية وشوّهتها.
ما زلتُ اذكر الاتصالات الهاتفية عند صدور بيان القاضي الشرعي، لتهنئة كلّ كبير في عائلتنا، والذي تم استبداله اليوم بمعايدة سمجة، وهي المعايدة عبر الواتساب، لا روح فيها ولا قيمة عاطفية، ولا حتى أي مجهود.

ما زلتُ أذكر كيف كانت دِمَشق في رمضان، تلبس ابهى حُلّتها، وهي تُغني بصوت واحد: "هلّ هلالك، شهر مبارك". كانت دِمَشق تحترم هذا الشهر كثيراً، لما فيه من تقوى وبرّ واحسان. كانت لا تفتح فيه إلّا مطاعم الفنادق الفخمة المُخصّصة للأجانب فقط والتي ولا يجرؤ أن يدخلها أحد قبل المغيب، حتى لو لم يكن صائماً، احتراماً لمشاعر الناس وعبادتهم.

ما زلتُ أذكر أن الكثير من مطاعم المدينة، حتى في القصّاع وباب توما، كانت تتوقف عن تقديم المشروبات الروحية في رمضان، احتراماً للمسلمين والمسلمات، وكيف تغيّر هذا الأمر كلياً اليوم، من منطلق "الحريّة الشخصيّة". فزجاجات الويسكي والفودكا متواجدة بكثرة اليوم حتى في حارات الشّام القديمة، لكلّ من يشتهي، مُسلمين كانوا أم مسيحييّن، صغاراً كانوا ام كباراً، نساء كانوا ام رجالاً. لقد نُسِف عُرف منع تقديم الكحول بأي مكان قريب من دور العبادة، وصار النبيذ متواجداً على مسافة أمتار من قبّة النسر ومِحراب الجامع الأموي، حتى خلال "الأيام الفضيلة".

سقا الله أيام التمرهندي وعرق السوس، والماورد والتوت الشّامي فحتى تلك المشروبات استُبدلت اليوم بالبيبسي كولا والسفن أبّ وغيرها من المشروبات الغازية. قبل عشر سنوات فقط كان يصعب عليك أن ترى شخصاً يُدخن في الشارع أو حتى داخل سيارته طوال شهر رمضان، ولكن السجائر متوفرة بشدّة هذا الرمضان، ومعها الأركيلة.

لازلتُ أذكر الأسواق المُكتظّة في رمضان، تجول فيها عائلات بأكملها، عائلات لم تُفرقها الحرب، وفي جيب رب الأسرة ما يكفي من المال لإرضاء شهوة طفلته أو طلبات زوجته. كانت شوارع الشّام تخلوا تماماً من الناس قبل موعد الافطار وخلاله، ولكنها كانت تضج بالحركة والحياة الملوّنة من خلف جدران المنازل، يسمعها كل شخص ويشتهيها، من روائح مأكولات شهيّة
تفوح من خلف النوافذ المشرّعة، على خلفية اصوات الصحون والمعالق.

"بيت فلان عاملين ملوخية..."

"بيت فلان طابخين يبرق..."

وكان اهلنا يُرسلون ما تيسّر من طعامهم
في "سكبة" للجيران. حتى هذا العرف بدأ يندثر، إمّا بسبب تغيّر الجيران أو نظراً لضيق ذاتِ اليد.

حتى "أبو شادي" حكواتي مقهى النوفرة الشهير لم يعد موجوداً. كنا نزور النوفرة من أجله في زمن مضى، لسماع قصصاً من التراث العربي القديم، عن المروؤة والشهامة، قبل أن يُغادر سورية عام 2012، هرباً من الحرب. توفي أبو شادي منذ سنوات وبقيت صورته معلقة على جدران المقهى، جنباً إلى جنب مع رسم "عنترة بن شداد." استبدل "أبو شادي" بشاشات البلازما الضخمة، وبدلاً من عنترة، صار الناس يتابعون قصص حارة الضبع ومغامرات "جبل شيخ الجبل."

وباتت قصصُنا وذكرياتُنا شيء من الماضي البعيد، لا تشبه الحاضر بالمُطلق.

هلّ هلالك عمّي...وشهر مبارك.

كل عام وأنتم بخير.

تصوير الصديق محمود النويلاتي.