الأدب وتقمص الشخصيات... (رؤية نفسية) !
أن تصوير الكاتب أو الكاتبة لشخصية بمثل جنسه أو جنسها ممكن أن تكون عملية "تقمص" وهي عملية يؤدي من خلالها الكاتب "لا شعوريا" دور البطل وكأنه هو بكل معنى الكلمة عندما يمر بمثل موقف البطل…
أما أن يرسم كاتب ما، شخصية مخالفة لجنسه، فيبدوا لي أنها عملية "إسقاط" وهي لا شعورية أيضا في جزء كبير منها … إذ يقوم الكاتب بإسقاط مشاعره الخاصة وأمنياته وما يريده ان يكون للجنس الآخر بدون ان يعي انه يريد ذلك! ... ويوظف في ذلك المعرفة الناتجة عن التجربة أو التعليم الأكاديمي أو امتلاكه لأدوات الكتابة وقدرته في توظيف تلك الأدوات.
ولتوضيح ذلك أكثر؛
رجل يتمنى ان يقول شيئا ما، أو يتبنى سلوكا معينا بشأن امرأة كأن تكون زوجته مثلا، غير أن اعتبارا أو أكثر يمنعه لفعل ذلك على ارض الواقع، فيقوم باختراع شخصيات تفي بغرضه، فيضع شخصية الزوج، ثم يتقمص تلك الشخصية فيقول على لسانها كل ما يريد أن يقوله، وربما يطور الحوار بالاتجاه الذي يجعل البطل يمارس السلوك الذي يتمنى، كأن يكون ذلك السلوك عدوانيا أو عتابا أو يطلب منها ما لا يستطيع ان يطلبه هناك في الواقع!
ثم يرسم شخصية الزوجة وقد يُسقط على لسان تلك الشخصية ما يتمنى أن تقوله زوجته له، او ما يتمنى أن تبرر له، أو ما يتمنى ان تقوم به من استجابات إزاءه، أو مع شخص معين او جماعة معينة او دور تقوم به او مهمة يحب ان تؤديها هي وهكذا ... وكأنه يقول هكذا قولي يا زوجتي وهكذا تصرفي معي أو مع الآخرين او مع أولادك أو داخل الحرم الزوجي وما الى ذلك …أو قد تكون المرأة حبيبة، فسيخترع البطلة التي تجسد دور حبيبته ، فيقول لها ما يريد براحته لا لوم ولا عتب ولا خوف ولا حرج، وسيقول على لسانها كل ما يتمناه منها لنفسه او لها او كل ما يتعلق بذلك ، وكأنه يقول هكذا قولي او تصرفي يا حبيبتي أو يا أمي أو يا معلمة اطفالي أو يا مربية ابني أو أي شخصية تهمه في ارض الواقع.
مثال آخر؛ كأن يشعر الكاتب بالشك إزاء شخص معين، كأن يكون الشك مثلا بإخلاص صديق، أو بأخوّة أخ، أو بإخلاص جماعة من المواطنين لوطنهم، أو قد يشك بحب زوجته له، وقد يتطور هذا الشك إلى أنها قد تكون لها علاقة بشخص آخر -وان كان ينكر هو على مستوى الوعي كل ذلك – إلا أنه سيحول اعترافه بما يشك من خلال إسقاط شكوكه على شخصية يرسمها بقلمه لتجسد من يريد ان يصب عليه حميم شكه! ولا أحد سيلومه على ذلك وأولهم نفسه!!! فيرسم شخصية الصديق غير المخلص كما تمُلي عليه الفكرة المكبوته في عقله إزاء صديق غير مخلص من وجهة نظره، وسيعطيه حوارا يجعله أهلا لهذه الشكوك ! وستزيد من قناعته هو بشكه على انه في محله ، وقد ينهي استمتاعه باللعبة فيقوم باختراع شخصية تؤخذ له ثأره من ذلك الصديق! بان يعطيه دورا يحب الكاتب ان يؤديه هو، فينطلق هنا بما يريد ان يقوله لذلك الصديق من عتاب ولوم وربما من سب وشتائم وكل مايجثوا على صدره من كلام، وقد يرسم بقلمه شخصية اخرى تأخذ له بثأره عمليا! لينال الصديق بذلك النهاية التي يستحق، حتى وان كانت الموت ... وكل ذلك طبعا سيحصل ويحقق الراحة للكاتب في انه قال ما يريد، وحصل ما تمناه، وبدون أي إحساس بالذنب او الحرج أو الخوف من عاقبة او لومٍ من احد او كل ما يتحمله الموقف من عواقب على ارض الواقع .... !
ودعونا نعُطي مثالا إضافيا؛ كأن تريد كاتبة أن تبرر خيانتها الزوجية ، فهي لا تريد ان تعترف أمام نفسها بالخيانة لان ذلك سيسبب لها صراعات كثيرة قد تؤدي بها الى احتمالات تتراوح ما بين النبذ لنفسها او الإصابة بالاضطراب النفسي ... خاصة وانها امرأة ترفض عل مستوى الشعور حالة الخيانة ...
فستلجأ لأسلوب التبرير في كتاباتها، وكلنا يعرف ان التبرير عبارة عن كذبات يخترعها من يريد ان يُطمْئِن نفسه، ومحاولة لا شعورية لتهدئة الصراع الملتهب في داخل منظومته النفسية لكي يرتاح هو وليس سواه ... خاصة إذا كانت ممن ينصت لصوت الضمير واذا كان صوته قاسي عليها! وبالوقت ذاته تعيش
حالة استسلام لحاجة معينة تلح عليها ! هنا سيكون الصراع قائما وسيحتاج الى حل عاجل منها ... وستحله بالكتابة المناسِبة لحالتها، كأن تكتب قصة تدور حول زوج مقصر نحو زوجته، وتنسج الدور المناسب لذلك الزوج مما يجعله مرفوض ومنبوذ وغير مقبول من أي انسان يقرأ القصة، وهي بذلك تمهد "لا شعوريا طبعا" لدخول الشخص البديل في الصورة بحيث يكون دخوله مقبولا من القارئ أو بالحقيقة من قبل ضميرها !!! فتعطيه الحوار او السلوك المناسب بحيث تجعل الرافضين للخيانة جملة وتفصيلا يصفقون لها، بل وقد يقول لها البعض بالفم المليان إنه هو، وهو، وهو زوجك، هو كل أسباب خيانتك ثم يصفق لها ... ! سواء أكان ذلك عن طريق التعليقات اذا كانت تكتب على شبكة الانترنيت او من خلال أساليب اخرى ان كانت تنشر عن طريق اخر ... فسيكون هذا الاسلوب قد برر لها وساعدها في تجاوز محنة الصراع وستستمر بحبها الجميل الذي زينه لها ذلك التبرير.
وبهذا تعد الكتابة تنفيس لكل الصراعات المكبوتة في العقل الباطن للكاتب ليحرر عقله منها وبالتالي سينجوا من احتمال اصابته باي اضطراب نفسي قد ينتج من تلك الصراعات.
على ان الكثير من الادباء يستخدمون "التخيل" كعملية عقلية شعورية في رسم شخصياتهم في القصة. ولا تخلوا من تدخلات اللاشعور التي تتخلل ذلك التخيل وعملية الاسقاط بالتحديد ... كأن يتخيل مشكلة معينة بين زوج وزوجته ... يتمنى الكاتب ان تتصرف المرأة إزاءها بهكذا أسلوب لحل المشكلة من خلال سلوكها في القصة… وهو نوع من الوعظ غير المباشر والتوجيه مستند على التفكير والتجربة! أكثر ما أدهشني في هذه النقطة بالتحديد فكر الروائي العالمي "ارنست همنغواي " في روايته "جريمة البيت المهجور … حيث تخيل كيف على المرأة تتصرف بحكمة وبتعقل عندما تكتشف أن زوجها يعرف امرأة أخرى غيرها… وجسد ذلك الخيال بأروع ما يمكن بشخص البطلة التي استطاعت أخيرا أن تعيد زوجها محبا لا عنوة….
* استخدام الأدب القصصي والتمثيل في العلاج النفسي
الاستاذه نوريه العبيدي