يرتع الشاعر كل مرتع، من نفسه وممن حوله وما حوله؛ فلا يربأ بنفسه عن شيء، ولا يربأ بنفسه عنه شيءٌ، حتى إنه ليتعرض أحيانا لتهمة التكسب (الانتفاع المادي)، ويوشك أن يُنفى بها من مجتمع الشعراء، لولا نباهة بعض من وقف من نقاده على أنه إنما يمدح من يحب أن يكونه ويهجو من يكره أن يكونه ويذكر أو يتذاكر وينسى أو يتناسى؛ وهذا أبو تمام -231=845- أحد كبار الشعراء النقاد، يقول:
"ولولا خلالٌ سنَّها الشعرُ ما دَرى بُناة العُلا مِن أين تُؤتى المكارمُ"!

إن إخلاصنا الشيءَ هو أن نُخْليه مما ليس منه، وإن إخلاص الشعراء الشعرَ هو أن يُخلوه مما ليس شعرا. ومهما افترقنا في تعريف الشعر اجتمعنا على أنه كلام فني! ولن يكون الشعر فنا حتى يَختصَّ من التفكير والتعبير بما ليس لغيره من أنواع الكلام، ولن يكون كلاما حتى يَعمّه من التفكير والتعبير ما يَعمُّ غيره من أنواع الكلام؛ ومن ثم ينبغي أن تختلط في الشعر أخلاطُ التفكير والتعبير الخاصة بأخلاط التفكير والتعبير العامة!

وإنما أهلك بعضَ الشعراء أنهم اقتصروا في شعرهم على الأخلاط العامة -فجعلوه كلاما فقط- أو على الأخلاط الخاصة؛ فجعلوه فنا فقط. ولم يخل شاعر، لا كبير ولا صغير، منذ هلهَلَ الشعر العربي عديٌّ إلى أن هلهلَه صلاح- من أن يهفو هذه الهفوة، حتى إن بعضهم ليخفيها من ديوانه! وإنما يمتاز كبار الشعراء من صغارهم، بغلبة هفوات هؤلاء ونَدرة هفوات أولئك!



--