جريمة .. لا يعاقب عليها القانون
بقلم: شامل سفر

«سيدي القاضي .. أشكو إليكم ألمي وأنا الآن تحت سكين المجرم .. أرفعُ إليكم قضيتي والجريمة ما تزال مستمرة .. هل سمعتم بجريمة مستمرة منذ عشرين سنة حتى الآن؟! .. إنها حقيقة .. والضحيةُ أمامكم في هذه اللحظات؛ تخاطب عدالتكم ... أخاطبكم، مع كل الاحترام، وأعلمُ أن عدالة الأرض لا تحاسب على جريمةٍ مثل التي ارتُكِبَت بحقي وما تزال .. فقد بحثتُ طويلاً في كتب القانون، ولم أعثر على شيء .. لكن ثقتي بعدالة السماء ـ مِثلُ السماء ـ لا حدود لها .. وإنما أتكلم على أمل أن يسمعَ ضميرٌ، أو يعي قلبٌ، أو يستجيب عقل، فينصح أحدُهم الناسَ كي لا يُوقِعوا بناتِهم في مثل ما أوقعني فيه أهلي، والمجتمعُ، وعاداتٌ لا أصل لها، وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان .. فاشتركوا جميعاً في جَعلي ضحيةً تموت ببطء منذ عشرين سنة، وما تزال .. سيدي القاضي .. أرجو أن يتّسع صدركُم لسماع الكلمات التي قد تكون الأخيرة، لامرأةٍ تحتضر.
عندما تزوجته .. أو بالأحرى عندما زوّجوني منه .. لم يَقُل لي أحدٌ أنه قد تختفي وراء المظاهر والشكليات المستكملة حتى آخر تفصيل، قسوةُ قلبٍ خالٍ من الرحمة .. الرحمة التي إذا عامل الناسُ بعضهم بها على الأرض، رحمهم مَن في السماء .. وأما الودُّ فإني أرجو من المحكمة الموقّرة أن تُثبِت في محضر الجلسة أني لم أرَ وجهه أو أسمع صوته منذ زمنٍ بعيد، حتى كدتُ أنسى أنه موجود .. كل ما أعرفه عنه هو أني أُعامِلُ به زوجي ما استطعت .. أَصمتُ .. أُقِرُّ .. أوافقُ .. أُنَفِّذُ .. أستجيبُ .. أُطيع .. و ـ عذراً ـ أرسمُ ابتسامتي رسماً ... وأحاول .. أُقسِمُ أني أحاول .. أن أبحث بين آكامِ المشكلات، والنَّهْر، والزجر، وجمود عضلات الوجه، وقسوة عضلات باقي الجسم .. عن فرصةٍ ما لتوليد الود .. لاختلاقه .. لاختراعه .. لكن دون جدوى ... وأما السَّكَن، فلكم يا سيدي أن تسألوه، فإني أجهل إنْ نجحتُ في جَعْلِهِ يشعر به أم فشلت .. لأنه لم يُشعِرني يوماً بأني نجحتُ في ذلك .. ولا حتى بلفتة .. يا سيدي القاضي .. يا مَن استعملكم الله جلَّ وعلا في أن تحكموا بين الناس بالعدل .. لقد قتلَ فِـيَّ زوجي أجملَ ما فِـيَّ .. إنسانيتي .. مشاعري .. ثم حتى أحاسيسي .. أحاسيسي التي لم يأبه لبرودتها التي تشكّلت مع الأيام والسنين، أو شكّلها هو بيديه .. بقسوته .. بمعاملتي على أني مجرد خادمةِ مطبخٍ وجاريةِ فراش .. لا أكثر ولا أقل .. سَخِرَ من ثقافتي .. سَخَّفَ آرائي .. استمتع بمقاطعة مبادراتي .. واستعجل في كل شيء .. كل شيء .. إلا في ذبحي ذبحاً بطيئاً منذ عشرين سنة وحتى الآن .. فهذا ما تمهَّلَ وهو ينفّذه .. بل تَفَنَّنَ واخترع ... ولئن كان هنالك من شيءٍ يجعلني أستبعد ممارسة حقي الطبيعي في طلب الطلاق .. فإنما هم الضحايا الفرعيون .. أولئك الذين لا ذنبَ لهم .. أولادي .. فلذات كبدي .. تلك النقاط المضيئة في آخر النفق المظلم .. التي سَعَيتُ وأسعى، بل أبذل كل ما في طاقتي .. كي لا أجعلهم يحقدون .. أو يكرهون .. أو تتعقَّد الأمورُ أمام عيونهم البريئة، فتتعقّد في دواخلهم أشياء .. ثم تتحوّل دواخلُهم بالكامل إلى عُقَدٍ مستحكمة ... لم أُغَنِّ أمامهم موشَّحَ: أنا المظلومة .. أبداً .. ولم أُشِرْ بإصبعي نحو زوجي وأترك دموعي تُغَنّي ذاك الموشّح .. فتلك النار إذا اشتعلت، أحرقت كل شيء .. وما أنا بمجرمة ... أما بعدُ، فهذه شكوايَ بين يدي عدالتكم التي لن تملك حِيالها شيئاً .. وتفضّلوا، خِتاماً يا سيدي القاضي، بقبول أن أدعو لكم أن لا يرزقَ اللهُ بناتِكم إلا الطيبين».
رنَّ جرسُ التنبيه في جوّالها .. استفاقت على عَجَل ... تعوّذت بالله .. تذكرتْ أجزاء من حلمها في قاعة المحكمة .. اتّجهت نحو غرفة نوم الأولاد، وعلى وجهها المُتعَب .. ابتسامة.
#Shamel_Safar