منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    كيف يتأثر ويؤثر ابن الصحراء بالمدينة؟



    كيف يتأثر ويؤثر ابن الصحراء بالمدينة؟




    قيل: الفرد والمجتمع توأمان، تنصهر صفات المجتمع كلها في شخصية الفرد، فيصبح مشهد الفرد وكأنه عينة صادقة لمجتمعه، ومن يتفحص نكات الشعوب يجدها تبدأ في معظم الأحيان ب (اسكتلندي عمل كذا.. صعيدي عمل كذا.. جنوب إيطالي عمل كذا، كردي عمل كذا، حمصي عمل كذا، وفي المغرب سوسي عمل كذا، وفي الأردن طفيلي عمل كذا الخ). من المؤكد أن ليس كل الاسكتلنديين يتصفون بنفس الصفة التي تحددها النكتة (البخل) وليس كل أهل الصعيد أو أي شعب يتصف بنفس الصفة التي غمزت بها النكتة، ولكن السمات العامة للمجتمع جعلت من مؤلفي النكات يسوقون نكاتهم لتبدو وكأنها مقبولة..

    قبل كل شيء لا بُد من ذِكر بعض الصفات الإيجابية والسلبية التي يتصف بها الأعرابي ويختلف بها عن ابن المدينة الأصلي الذي ولد وتربى وترعرع وتمرن على قوانين المدينة وعاش وتفاعل مع أهلها وِفق ضوابط سلوك ليس بالضرورة أن تكون مكتوبة في لوائح.

    كون الأعرابي القديم كان ساكناً للصحراء بخيامٍ يسهل اقتحامها أو حرقها فهو يدرب نفسه وأهله على العِفّة فلا يتلصص على غيره ولا يهتك لهم عرض. ويعتبر الدفاع عن جاره أمراً واجباً له ضرورة ووظيفة في آنٍ معاً. كما أنه يكرم ضيفه الذي يأتي فجأة ودون إخطار مسبق، ودون أن يطرق باباً (غير موجود أصلاً) بما يستطيع خصوصا عابر السبيل، لأنه سيمر بتلك المرحلة ويكون ضيفاً أو عابراً للسبيل عند غيره. ويجير من يستجير به ويدافع عنه حتى لو استجار من يستجير بامرأة، لأن بيئته تلك هي من تحدد كيفية سلوكه تجاه الآخرين*1. وقد يستطيع من يقرأ أشعار العرب في العصر الجاهلي أن يتعرف بسهولة على مقومات الشخصية البدوية.

    عندما كان الأعرابي يحس أن محيطه لم يعد يمده بما يلزمه من شعور بالأمن والكرامة والعيش الكافي، كأن تقل المراعي أو يتطاول أبناء الأسياد على إرغامه في تزويج ابنته لمن لا تحب أو لا يحب هو، ولم يكن يلقى من ينصفه فإنه يترك المكان ويستجير بمن يخلصه مما هو فيه فيرحل ويهجر مضارب قبيلته، ومن هنا فإننا لا نجد قبيلة واحدة لم تتشظى وتتفتت ويغادرها أبناؤها إلا في ثلاث حالات (ضمرة، وعبس وذبيان). وكانت القبيلة التي تذود عن نفسها الغزوات دون مساعدة أحد تسمى (جمرة) وقد حدد العلامة جواد علي أعداد المقاتلين فيها ب أربعمائة مقاتل، وما غيرها كانت أحلاف تتخذ من طوطم لها شعار فيكون أحيانا بشكل ثور أو أسد أو جحش فيكونوا بنو ثور أو أسد أو جحش الخ*2

    أما المدن العربية القديمة، ومن بينها ما مر على تأسيسها أكثر من عدة آلاف من السنين كدمشق وأريحا ونابلس وغيرها من المدن، توارثت طرائق الحرف والتصنيع والتجارة، وابتكرت لها منظومات من اللوائح الشفهية والمكتوبة، ومن الطبيعي أن يكون لتلك المهن شيوخ ومراجع يرجعون إليها لفض الخلافات، ومن الطبيعي أن تكون لغة التعامل من اللطف والدماثة لكسب الزبائن وتنمية التجارة والصناعة، ومن الطبيعي أن تكون الأعمال الأدبية المرافقة لتلك الأعمال والمهن تختلف عما هي عليه عند الأعراب.

    أما الأعراب فكانوا ينظرون الى أهل المدن نظرة احتقار واستصغار، رغم أنهم يترددون عليهم لشراء بعض الأسلحة واللوازم التي يحتاجونها. وقيل أن أعرابياً وقف أمام محل وراق (لبيع الكتب) فقال: أنا أعرف كل ما موجود بتلك الكتب: إنها كلها تقول (يا ابن آدم كن خَيِّراً: أو بلهجة أهل العراق: يا قارئي صير خوش آدمي). وقد عبر ابن خلدون عن تلك الفوارق بقوله ( أن طلب العلم والبراعة الصناعية صفة الأمة المغلوبة الخانعة ذلك لأنها صفة تستدعي الخضوع و الصبر والعمل الكادح وهذه صفات لا تتفق مع مزايا الإباء والبطولة والنجدة التي اتصف بها البدوي) (فالإنسان في نظر ابن خلدون لا يستطيع أن يكون محارباً باسلاً وطالباً للعلم في نفس الوقت، وكذلك لا يقدر أن يكون بطلاً أبياً وصانعاً ماهراً في آن واحد)*3

    ويقول ابن خلدون ( إن العلوم لا تنشأ إلا في المجتمع المتفكك الذي ينشأ فيه بنفس الوقت الميل الى الإجرام والسفه والخلاعة. فهو يرى أن المجتمع البدوي الخالي من العلم والصناعة خالٍ أيضاً من مقتضيات التفسخ الشخصي وأسباب الرذيلة. فالبدوي بنظره أسلم فطرةً وأقرب الى روح التدين والفضيلة من المدني. وكأن المجتمع المدني الذي يُشجع النوابغ وأصحاب الفنون والعلوم يشجع أيضاً أصحاب الجريمة والتهتك وسوء الأخلاق)*4

    هل ينسى الأعرابي سجاياه الصحراوية؟

    في عام 1992 وفي خضم نشاط لانتخابات البلدية في إحدى المدن الأردنية، استوقفتني عبارة أطلقها أحد أبناء تجمع انتخابي ضد آخرين وبحضورهم، عندما قال لهم: جدكم كان صانعاً! فثارت ثائرتهم وحاولوا الدفاع أن جدهم لم يكن صانعاً بل جدكم أنتم! وحدث شجار كان ممكن أن يؤدي الى زهق أرواح.

    ذكرتني تلك الحالة بمشهد أن أحد أبناء حيفا افتتح في بداية السبعينات من القرن الماضي مطعماً في شارع السعدون ببغداد، وكان يبيع فيه الفلافل والحمص و(الطحالات)، وعندما كنا نحن الطلاب العرب غير العراقيين نتشوق لمثل تلك الأطعمة، كنا نسمع تعليقات ساخرة من زملاءنا العراقيين تنتقص من هذا النوع من الطعام، فكان الطحال والكبد وغيره بنظر العراقيين هو من (سقط) الأطعمة التي لا يجوز تناولها، أما سحق الفول وإضافة (الطحينة) عليه فهي خلط كريه! وجر الحديث حتى كان هناك من يحتقر زراعة الخضراوات ويطلقون على من يزرعها اسم (حساوي) فلا يتزوجون ممن يمتهن تلك المهنة ولا حتى يقبلوه في حزمة الصداقة والزمالة!

    وقد تكون البلدان العربية تختلف من بلدٍ لآخر، وتكون طبائع التعامل مع فكرة الدولة وإطاعتها أو معاداتها والتمرد عليها تختلف من مكان لآخر في البلدان العربية، في اجتماع للشيخ محمد رضا الشبيبي مع الأديب طه حسين (في مجمع اللغة العربية) قال له طه حسين: إنه قرأ تاريخ العراق منذ العهد السابق للفتح الإسلامي حتى الوقت الحاضر فوجده بلداً ثائراً هائجاً لا يكاد يخضع لحكم حاكم ولا ينصاع لقوة قاهرة. فقال له الشبيبي: وأنا، أيها الدكتور، قد طالعت تاريخ مصر منذ أقدم عهودها حتى الآن فوجدتها بلداً خانعاً مستنيماً لكل تسلط لم يأنف أن يخضع حتى لحكم شجرة الدر! وقد اغتاظ طه حسين لجواب الشيخ، لكن أعضاء المجمع الحاضرين هدأوا من حدته وقالوا: إن الشيخ أعطاك الجواب اللائق بسؤالك.*5

    إذا كان النمر الذي يتم تدريبه على الأعمال البهلوانية في السيرك، قد اكتسب صفاته نتيجة البيئة الاصطناعية التي وُجد فيها، فإنه إن انتهت تلك البيئة فإنه سيعاود ممارسة (نموريته) الطبيعية في الغابة، إذا أعيد إليها. كذلك ابن البادية الذي يعيش سنوات طويلة في أوروبا مستخدماً للشوكة والسكين ومنضبطاً في الالتزام بالاصطفاف لإتمام معاملته، فإنه ما أن يعود للبادية فإنه سينزع نعليه قبل الولوج للديوان ويقبل يد والده ويأكل دون ملعقة أو شوكة..

    هوامش
    *1ـ محمد عماد الدين إسماعيل/ المنهج العلمي وتفسير السلوك ط4 الكويت1989، والطبعة الأولى في القاهرة عام 1961.. يشير في كتابه عن كيفية تأثير البيئة في تحديد شكل سلوك الإنسان [كان خبيراً تابعاً للأمم المتحدة] وأستاذًا لعلم النفس في جامعة عين شمس والكويت.
    *2ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ دار العلم للملايين
    *3ـ مقدمة ابن خلدون ص544
    *4ـ مقدمة ابن خلدون ص 121
    *5ـ كتاب أعلام الوطنية والقومية العربية ـ مير بصري ـ لندن ـ دار الحكمة 1990 ط1/ صفحة 33.

  2. #2
    ربما هو أمر نسبي فالبشرية عرفت كل شيء لكن لم تكن بفداحة مانرى ونسمع الآن...
    شكرا لهدير جهدكم

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •