في طريق الوصول
قصة قصيرة
د. ريمه عبد الإله الخاني
اتصلت كثيرا جدا، لم يرد أبدا، اتصلت بالمسؤول عن مكتبه، فقال أنه خرج باكرا جدا ولم يعد تذكرت أن لديه مهمة في مدينة أخرى من البلاد، تحتاج ثلاث ساعات للوصول مستمرة، وبلا محطات استراحة، كان خرج دون أن يتناول فطوره، وليس من عادته ألا يتناوله، فهو حريص جدا عليه، حيث يكرر كثيرا:
- مضى اثنتا عشرة ساعة على عشائنا في الليلة الماضية، المعدة خاوية تستنجد.اتصلت بوالدته فتعجبت! قائلة:
-أذكر أنه ذكر طبيبا للعيون، فهو يعاني من احمرار في العين اليسرة لاسبب له، لذا فهو سيخرج من عمله فورا للطبيب..ولن يتناول غداءه إلا في المساء.فمازالت الساعة السادسة تعد موعد الغداء لبعضهم..
عاودت الاتصال به بلا فائدة لايرد، بدأت شياطين الجن تتراقص أمام ناظريها، تغيظها وتتفوه بكلمات لامعنى لها...ضوضاء في رأسها منعتها من الرد على اتصال جاءها قبل قليل، نظرت لهاتفها النقال، فظهر لها اسم ابنها فارس ردت اتصاله باتصال تسأله عن والده:
-فارس والدك منذ الصباح لم نره، غدت الساعة الثامنة الآن؟ أين أنتم جميعا؟ ماهذا الاستهتار بالوقت؟الغداء سوف يبرد يا للفوضى.أخبروني بظروفكم حتى لاأنتظر كثيرا..
-والدي لديه مهمة سريعة لكن، أتذكر أنه قال ، لديه قائمة مشتريات قد كلفته بها اليوم، لذا سوف يتأخر، وإن حضرت قريبا جدا سوف أساعده بها.
دارت المنزل أكثر من عشرين مرة، وهي تضع يدها على رأسها، حيرة وصداع..لماذا يغيبون طويلا ولايخبرونني بأمورهم التي طرأت؟لاحول ولاقوة إلا بالله..
-أين ياترى سأجده الآن؟ ماهذا التضارب في الأخبار؟ كل يخمن ويتوقع!..
-وأنت أيضا لاتدري أين ذهبوا؟.
كتب علينا الانتظار دوما في هذه الحياة..الصغير حتى يكبر..والطائش حتى يعقل..والمستهتر حتى يهدأ..
لاأتذكر شيئا مما قالوه، لاأظن أنهم ذكروا شيئا عن غيابهم الطارئ هذا.. هل أصبت بالزهايمر فجأة؟.لا مستحيل، فأنا أحاول أن أقرأ الصحف اليومية لمزيد من تمرينات الذاكرة.وأعيد ماقرأته عليهم كعناوين عريضة لما يحصل في هذا العالم بالمقارنة مع عالمي الصغير المزعج أكثر!.
غدت تصلي بدل الصلاة عشرة، وتذكر الله بدل المرة ألف، وتقرأ القرآن بدل الصفحة مئة، ولم يحضرأحد وقد غربت الشمس، أين تجدهم ؟؟.لقد أضاعنا جميعا هذا الهاتف الصغير!.
وبدأ الليل يخيم بسدوله المظلمة الكئيبة، حتى رن جرس الباب، ركضت هائمة على لهفتها لتفتح الباب دون أن تنظر بالعين السحرية، وهب الأولاد من غرفهم ينظرون، وسط تعجبها!.
-متى عدتم؟؟؟.وظهر مبتسما!:
-يا للبرود ..ونحن جميعا درنا العالم لنجدك...واتصالات ومحاولات..
-كان هاتفي النقال قد انتهت طاقته ، ولم أجد قابسا مناسبا له..سامحيني هذا كل شيئ
-ومالذي أخرك؟
لقد فاجأني حضوره بسيارته الفخمة، وأنا أسير على قدمي..فتح الباب وأقلني، دعاني على الغداء. تناولت مالم أتناوله في حياتي، وجلبت معي لكم زادا منه، وأعطاني مكافأة متأخرة عمرها خمسة عشرة عاما...
-ماهي يارجل؟ أتحكى الحكايات بالمقلوب؟
-هكذا يبدوالقصة ومافيها، أنه ومنذ خمسة عشرة سنة لم يكن لدي تلك الدكان التي نعتاش منها الآن، كنت موظفا في السينما كما تعلمين عزيزتي، والتدخين ممنوع في تلك الأماكن، فقام أحدهم بالتدخين نكاية، فهب أحدهم يؤنبه، فجرى الخلاف وتصاعد، وفجأة أطلقت رصاصة طائشة فعادت الأنوار، وتوقف العرض، وتم التفتيش مع إخراج الحضور وإعادة نقودهم فورا، وأنا أفتش، ظهر لي رجل أنيق مرتب، مهذب، وأنا أفتشه، أمسكت بالمسدس في جيبه، فنظرت إليه نظرة استفهام استنكاري، لكنه لم يتحرك تاركا الحكم لي..فدفعته للمضي، عندما تذكرت خصاله الحميدة في الحي عند معرفة اسمه...فقفزت في وجهي فرضية النوايا الطيبة التي تظللها غلالات سود...تلك الحادثة مضى وقتها ونسيتها..ولعله قدر عملي، وفهم ماقمت به من تبرئة من حسنت سيرته وممشاه، وبقي المسدس اقتناء شخصيا لامعنى له حينها، اعتقد أنه أوقف المهزلة التدخينية بواسطته...تذكرني وأقلني بسيارته وهذا ماكان...


نظر الجميع في عيون بعضهم...وهم يرددون بصوت هامس..خمسة عشر سنة...ومازلت موظفا ودكانك تنتظر أن تكون تعود للإشراف على سير عملها!.

12-1-2020