قراءة لرواية (فوق الأرض)
للأديب محمد فتحي المقداد

بقلم د. ميسون حنا
فطين الشخصية الرئيسة في رواية فوق الأرض، هذه الشخصية المختفية خلف الكواليس، يتقمص فطين شخصية المقداد كاتب الرواية؛ لينوب عنه في سبكها، ولكنه يتمرد، ويأبى أن يكون السارد؛ ليتوارى خلف شخوص الرواية، ويتيح لهم أن يروُوا حكاياتهم، وينسجوا خيوطها من واقعهم المظلم المليء بالقصص والأحداث.
فنتذكر رواية (ميرامار) للأديب العالمي نجيب محفوظ، و (راشومون - للياباني ريونوسوكي آكوتا جاوا) ففي الرائعتين، يروي كل شخص من شخوص الرواية الحادثة من منظوره الشخصي؛ فتختلف الروايات والتأويلات، ولكن في رواية المقداد تتشابه الروايات، وإن اختلفت بأحداثها، ولكنها جميعها تعبر عن مضمون واحد: ألا وهو الظلم الذي يقع علينا، يا من نعيش فوق الأرض.
ويرى فطين أن هناك حاجز وهمي يفصلنا عن هؤلاء الراقدين تحت الأرض، إذ يقول: (ما يلاقيه الميت تحت الأرض في قبره من عذاب وحساب لا يقل عما يحدث فوق الأرض من ظلم وتظالم)، والظلم يدل على أن هناك أناس يقع عليهم فعل الظلم؛ فَهُم مظلومون، والظالم يبقى ظالمًا، والمظلوم سيبقى مظلومًا، وهما نقيضا وجه العملة واحدة، والانتهازيون والعملاء هم من تحولوا بمواقفهم المعادية للنظام؛ وأعداء الأمس هم أصدقاء اليوم كما ورد في الرواية،
أبطال الرواية جميعهم يعانون من الظلم، منهم من استشهد مثل فادي الرائد بالجيش، ومنهم من استشهد بيد النظام مثل نادر، وكلاهما شهيد بعرف الدولة والشعب.
وأشخاص الرواية يروون حكاياتهم النابعة من معاناة الشعب السوري؛ فمنهم من استشهد كما سبق وأشرت، ومنهم من أصيب بعاهة جراء إصابته بشظية مثلا، ومنهم من اضطر ليهادن (من جعلت يده تمتد لمصافحة الأيادي السوداء اللابسة القفازات البيضاء الأنيقة سعيا للوصول إلى رغيف الخبز رمز البقاء الأعظم) ص ظ¢ظ¤ظ*.
وهناك الرحالة القادم من ليبيا، عند عودته يظهر الولاء عكس ما يضمر في قلبه من أحقاد (داخله المأزوم بصراع ما بين الذات والواقع المفترض أن يعيشه) ص ظ¨ظ¢ ، وعليه استخدام طاقاته الهائلة للتوفيق بين حالتيه الحقيقية والزائفة، ومنهم من فضل الهجرة والهرب مثل فاضل، وخير مثال لرفض الواقع والهروب منه هو هالة نجم الدين الفنانة التشكيلية المهاجرة إلى إيطاليا، وهالة تتميز بثقافتها العالية، وطموحاتها الكبيرة إذ تسعى لإقامة معارض للوحاتها التشكيلية في بلاد الحرية.
وبذكاء الروائي يعلن أحد شخوص الرواية نصار: عن تشابه كبير بين وجهي هالة وحبيبته حمدة، والتشابه هنا ضمني، هو تشابه في القلب والوجدان حيث أن حمدة لا تختلف عن هالة في رفضها للظلم، ولكن طريقة التعبير عنه عند هالة تتخذ مظهرًا مختلفًا، تعبر عنه هالة بتعابيرها الواعية، والتحليلية لواقع الحال مع أنها ترى الفرق شاسعًا بين حياتنا وتقاليدنا العربية والإسلامية، وبين التقاليد والحياة في الغرب، ومع ذلك تسعى للانتشار في بلاد الغرب ، ويهييِّء لها فكرها أنها تستطيع أن تعبر هناك بحرية عن آرائها الرافضة للظلم، ومع ذلك هي لا تختلف عن الأم الثكلى بولدها الشهيد ؛التي تعبر عن حبها بفقد ولدها إذ تقول: (دموعي غير قابلة للدخول في مزادات المتسلقين على الواجهات الإعلامية وأرفض التفاوض عليها وستبقى لعنة للتاريخ) صظ¢ظ£. هذه المرأة البسيطة تعبر بشفافية عن وجعها، وتعكس ثقافة أكسبتها إياها التجربة والمأساة والإحساس بالظلم، والمعاناة.
اكتسبت هذه المهارات بالفطرة عكس هالة التي نهلت ثقافتها من علمها وفنها، ولكن فطين يفاجئنا في النهاية، إذ يعلن اختفاء هالة الغامض، لنستنتج أن القمع يمارس في بلاد الحرية تمامًا، كما يُمارس في بلاد القمع، ولكنه يُمارس هناك بفنية عالية يُمارس بهدوء، وصمت، وسرية تعلن عن ذاتها بالتواء؛ فالظلم عام وشامل، ويتخطى الحدود؛ ليعم العالم إذ يعبّر الكاتب، بقوله (البؤس لا يستحي بالإعلان عن نفسه سواء كان في روما، أو الدنمارك ، أو باريس، أو دمشق، أو بغداد، أو صنعاء) ص ظ،ظ£ظ©.
الرواية كتبت بأسلوب شائق، ينم عن خبرة ودراية بفن الرواية، وجاءت بمضمونها لدعم الإنسان أينما وُجد، والسعي لحياة حقيقية يحلم بها المواطن العربي ليعمّ السَّلام، وتنتهي الحروب، ولكن أبطال الرواية يقفون على شفا الهاوية بين السُّقوط والصُّمود، ويتوقّف الكاتب عند هذا الحد؛ ليترك للزمن والتاريخ رسم المستقبل المنشود.


الزرقاء – الأردن

18\2\2021