البُعد الاجتماعي
في رواية (هنا ترقد الغاوية) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب

بقلم الروائي- محمد فتحي المقداد

مدخل:
الصّراع سِمةُ الوجود الإنسانيّ في هذا الكون منذ بدء الخليقة، وتتشابه حالاته في كثير من مُعطياته بفارق الزّمان والمكان. دوافع حركة الحياة ولّدت الرّغبات.. الأحاسيس.. الآمال.. الأحلام.. الدموع.. الأحزان، ولم تزل راسخة ساكنة في واقع المُجتمعات البشريّة؛ منذ جيلها الأوّل بين هابيل وقابيل أبناء سيدنا آدم عليه السّلام.
رواية (هنا ترقد الغاوية) تُعتبر ببنيتها السّرديّة قد أخذت المسار الاجتماعيّ المُوشّى ببعض التلميحات السياسيّة، وهذا لا بدّ منه لتكامليّة أيّ عمل روائيّ مهما كان، أثناء مُتابعتي لأحداثها قراءة؛ ظننتُ نفسي أمام (نجيب محفوظ) و(عبد السلام العجيلي)، وهما من سادة المدرسة الواقعيّة الاجتماعيّة.

العنوان:
جاء العنوان بكلماته الثلاث بأبعادها الدلاليّة؛ لتأكيد القضايا التي عالجتها رواية (هنا ترقد الغاوية).
-(هنا) وهي اسم إشارة دالّ على المكان القريب المُشاهد؛ المُؤكّد بواقع تلتمسه الأحاسيس، وهو لخطاب آخر يُعاين ببصره، ويستمع بأذنيْه لصوت القائل، مع اشتغال الأحاسيس التي لا تظهر تفاعلاتها إلّا بمتابعة الحديث.

-(ترقد) كلمة بصيغة فعلية تفيد الحاضر والاستمرار أي الفعل المُضارع. والفعل لا بُدّ له من فاعل ضمن حدث، يُنتجُ مفعولًا به أو فيه.
ومن نام رقد في فراشه، ومن استلقى تحت شجرة أو غرفة أو الى حافّة الرّصيف، أو في أيّ مكان لأخذ قسط من الرّاحة، لن يكتمل المعنى المُراد من كلمة (ترقد) في العنوان إلّا بانضمام الكلمة الثالثة لها، لتشكيل مفهوم يتكامل معناه في ذهن المُتلقّي سلبًا وإيجابًا.

-(الغاوية) بالرجوع إلى ثُلاثيّها (غوى) وغاوي؛ فمن أغواه الشيطان فقد أضلّه، وربّما يُمعن في متاهات الضلال. وبالتحرّي المُعجميّ لاستجلاء دقّة المعنى المُراد من توظيف هذه الكلمة في عنوان الرواية: (غوَى يَغوِي، اغْوِ، غَيًّا وغَوَايةً وغِوايةً، فهو غاوٍ، وغَوِيّ، وغَيّانُ والجمع: غُوَاةٌ، وغاوُون، وهي غاويةٌ والجمع : غاوياتٌ والمفعول مَغْوِيّ للمُتَعدِّي).
بالغوص في دروب استطرادات المعاني المُتولّدة تتضّح الصورة ببهاء، كما اشتهى وأراد الروائيّ (محمد إقبال حرب) بإيراد بعض الأمثلة: [الشَّابُّ: أَمْعَنَ فِي الضَّلاَل (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، غَوَاهُ الشَّيْطَانُ: أَضَلَّهُ، أَغْرَاهُ، غَوَى: حاد عن الحَقّ ومال إلى هواه، غَوَى الرضيعُ: أَكثَرَ من الرَّضاع حتى اتَّخَم وفَسَدَ جوفُه[..
وبالتوفيق بين الكلمات الثلاث؛ بإعادة التركيب بعد التفكيك اللغويّ الدلاليّ، يبدو العنوان (هنا ترقد الغاوية) يفتح فضاء العتبة الروائيّة، لتتسّع رؤية القارئ بإثارة التساؤلات، في محاولة مبدئيّة لتفسير أبعاد العنوان، من خلال التأويل برسم صورة مُتخيلةّ لما وراءه.
أمّا وقد أخذ العنوان الرّئيس للرواية، أحد العناوين الداخلية في الرواية. لتأتي الإجابة الشافية الكافية على لسان (صابرين) بطلة الرواية الني دارت عليها محاور الحدث السرديّ حتّى نهاية الرواية، ومن أولى صفحاتها. وبعدما قالت بفصيح العبارة لم تترك لنا مجالًا للتخمين والتأويل: (أخاف أن أموتَ؛ فيُكتب الناس على ضريحي هنا ترقدُ الغاوية، غاويةٌ تُحيكُ غِيّها كالأرملة السّوداء. لا بل سيكتبون "هنا ترقد الزّانية" نعم.. لن يكتبها شخص واحد.. بل كلهم سيكتبون معه بإفكهم: هنا ترقد الزانية) ص١٢٥. و(زانية شريفة يا لحكمة الأقدار..!! شريفةٌ توصِمُ وجودها بعارٍ لم ترتكبه، تبًّا لعهدٍ أصبحت فيه الشريفة ركن مهانة..!) ص١٢٦.
المنظومة الاجتماعيّة ذات المفاهيم الرّاسخة بسيطرتها لا تتزحزح قيد أنملة في أذهان الأفراد، وتُشكلّ بأناها الأعلى تابُوهًا مُقدّسًا ممنوع الاقتراب منه أبدًا. ويُنافس القِيَم الدينية الحقيقية، ويطمس كثيرًا منها. وصيرورة العُرف الاجتماعيّ بديلًا للهَدْي السماويّ.

الشخصيات الروائية:
الحدث الروائيّ امتدّت مساحته ما بين مصر في الشرق الأوسط، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، لكن مرتكز الأمر قام على عدد محدود من الشخصيّات التي اِنْبَنى عليها العمل بأكمله.
وفي كلّ عمل هناك الشخصيّات الرّئيسة والثانويّة، وكثير من الأعمال الروائيّة قامت تراتبيّاتها على البطل الأوحد. بينما في رواية (هنا ترقد الغاوية) قامت على تقاسم تشاركي للبطولة.
عائلة (تامر) وأخته (صابرين) وفيما بعد جاء دور ابنته (هنادي). وجاء دور (آدمغسان) و(حوده) رغم أنّه شرارة انطلاق قصّة المأساة عندما اغتصب صابرين في مصر فقد كان دوره مغمورًا، وكأنهّ مُكمل للحدث. هؤلاء بدأ بهم الحدث في مصر، وانتقلوا لظروفهم إلى أمريكا، ليمتدّ إكمال حيثيّاته هناك.
(د. جون) الطبيب النفسي المعالج لصابرين، وتابعها حتى مرحلة شفائها، و(د. منصور) دورهما ثانويّ للضرورة القصصيّة. حيث أن د. منصور جاء في الأخير؛ لإضفاء صيغة رؤية ابتكرها د. جون.


سردية الرواية:
منذ أيام (رفاعة الطهطاوي) في منتصف القرن الثامن عشر، عندما ظهر كتابه (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين)، ومازال موضوع تحرير المرأة يأخذ أبعادًا مختلفة. الرواية رصدت جزءًا من تعالقات الحياة الاجتماعيّة في الشّرق المُحافظ، وتشابكات طبيعة العلاقات القائمة في مجتمعات شرقيّة تتشابه في الكثير منها، وتختلف أيضًا في الكثير الآخر.
العادات والتقاليد راسخة في يوميات النّاس؛ فأصبحت قانونًا مُقدّسًا، لا يمكن اختراقه بالخروج عليه، لأنّ المنظومة مُتَّفقة على ذلك، مُتكافلة مُتضامنة في الاِسْتخذاء خُضوعًا للأقوى. من هنا تظهر أن قوّة الأقوياء من ضعف الضعفاء. والأقوياء يفرضون شروطهم بالقوّة والإكراه.
وقضايا الشرف تُعتبر قمّة التعاطي مع أيّ أمر باختراقها على أنه جريمة لا تُغتَفَر.
فالنساء حرم مُقدّس كالعبادة، والعِرْض رديف الأرض في المفهوم العامّ تُراق من أجله الدّماء أنهارًا إذا ما انتُهِك. وجرائم الاغتصاب من هذا الصنف من الجرائم، ففي الأعراف العشائرية: تُقتل المجني عليها، ويُمجّد الجاني بما اقترفت يداه.
مع أن الشّريعة تُجرّم الفاعل والمفعول به كلٌّ حسب العقوبة المنصوص عليها. كما أن القوانين القائمة على قاعدة الأحوال الشخصيّة والمدنيّة؛ تُجرّم القائم بالفعل في حالات الاغتصاب القسريِّ في حال الادّعاء من المجني عليه.

-كيفية سرد الرواية جاءت على محمل الذكريات الموجعة في بلاد الاغتراب، بعد مغادرة الوطن، للدِّراسة ولتحسين الظروف المعاشيّة، كَوْن الشرق يودّ لو كان باستطاعته الارتحال إلى الغرب؛ فقد ورد: (اختلط الواقع بالخيال، الذكرى بالصورة، والصورة بالدموع) ص١٨. و(ارتطم الطفل في داخله بمدار الذكرى مُترنّحًا، وسقط) ص١٩.

منذ البداية أفصحت محامل الرواية عن نفسها، حيث أنّ مساحات الذكريات للحدث في حيّز زمكانيٍّ مُحدَّد، تفتح آفاقًا واسعة متأنيّة بوعي لتقييم الأمر، وتقليبه على ضوء التفكير الهادئ والسَّليم.

-قضايا الفقر نتيجة الفساد، والدكتاتوريّات العسكرية عندما أحالت الحياة جحيمًا. تتعالى تواثبًا أشواق الهجرة الدَّائمة من الأوطان العاجزة عن تقديم الرّفاه لأبنائها الذين لا يفتؤون يتطلَّعون ساعين بكلِّ ما أوتوا من قُوَّة وجهد للهجرة، للعمل في جَلْيَ الصُّحون في المطاعم الأجنبيّة. والبطل غسّان، وفيما بعد هجرته لأمريكا تسمّى بآدم: (تأرجّح بين مِنَصّة الماضي والحاضر، حاول الوقوف ثانية؛ ليؤدّي دورًا جديدًا. دونما يأس أو شكوى مُكابدًا الفشل، حتّى نجح في مسعاه، ووقف بشموخ) ص٢٠، و(سعى لمزيد من النَّجاح في مُهمَّة صعبة، أقصى آمالها الوصول) ص٢٠.

فعلا أقصى الأمنيات الوصول إلى حافة حياة كريمة، تليق بالإنسان هناك في بلاد الاغتراب. وآدم ذلك الشَّاعر اللُّبنانيُّ كان يعيش في الخليج. كتب أشعاره في محبوبته، وبقيت طيّ دفاتره وأوراقه، بعد هجرته عاد إلى ذكريات تُداعب قلبه وفكره، ولم يكن يخطر بباله أن يلتقي بمحبوبته ثانية. هناك افترقوا.. وكان اللّقاء هنا مع صابرين، صاحبة الأشعار التي كُتِبَت من أجلها، جاء اللَّقاء في رَمَق حياته الأخير، بعد ذهاب الشَّباب ولذّته.
-حدسُ الأنثى غالبًا لا يخيب؛ فقد تردَّد تهديد (حودة) بالعودة لاغتصابها من جديد، وقتلها، رغم تباعد الزَّمان والمكان بينهما. صابرين أصيب بحالة عصبيّة من الضغط النفسي من التَّخييلات، والعذاب النفسي مما تعرضّت له من اغتصاب، نظرة المجتمع القاتلة لها، وتأنيب الضمير، وما بين صوت العقل.. ونظرة أخيها تامر في الانتقام لتبييض شرف العائلة، ومحو العار، أصيبت بحالة هوس اكتئابيٍّ أدَّت بها إلى مزيد من الهلوسات والفزع. واختلال نظامها الحياتيِّ، إلى أن نُقِلَت إلى مَصحَّة نفسية بعد حادث أليم قضى على أخيها تامر.
وما منعه من قتلها، والانتقام لشرفه المزعوم منها: هو رغبته بالحصول على الجنسيّة الأمريكيّة.

-موضوع الرواية الأساسيِّ والأبرز، قضيّة جرائم الشَّرف في الشرق عمومًا. البنت صابرين تعرّضت لحادث اغتصاب في بيت عمّها؛ أثناء إقامتها معهم لظروف الدِّراسة في المدينة، عندما قدِمت من القرية.

-الرواية سلَّطت الضوء على موضوع اجتماعيِّ مُهِمٍّ جدًا، دور رعاية الأيتام، ممن فَقدوا آبائهم وأمهاتهم، وأبناء السّفاح، ومجهولي النّسب، وأسس التربية، الانحراف إلى الإجرام، وربط ذلك مع الفقر.

ومثال ذلك الصبي (حودة)، الذي جلبه عمُّ صابرين من دار الرعاية وتبنَّاه، بقصد أن يُربِّيه، ويعمل معه في مهنته.

-تفاعلات الحدث جرت في مصر، والظروف عمومًا هناك لا تسمح بالحديث والنقاش، والإصغاء لصوت العقل؛ فكان ذلك على أرض أمريكيّة في مدنها وقُراها ومنتجعاتها ومقاهيها.
-هنادي ابنة تامر أخ صابرين، جاء حلّ عقدة الرواية، وتفسير الحدث على يديْها. موت أبيها ساهم في حلحلة المشكلة القائمة، وكانت هي مفتاح مساعدة عمَّتها صابرين. لقاؤها بآدم كان سببًا في لقاء بعيد المنال لآدم مع حبيبته التي ما برحت خياله، وكان لقاء السّحاب.

-لقاء الأحبّة.. موت (حودة) بعد محاولته القذرة ثانية باغتصاب صابرين، ودخول العجوز آدم المفاجئ؛ فأنقذ الجميع؛ ليورق الحبُّ من جديد في قلوبهم، والدَّهشة الصَّادمة لهنادي، ولقاء د. جون. ود. منصور، وزيارتهما المشتركة إلى صابرين للاطمئنان عليها. كانت آخر فصول رواية (هنا ترقد الغاوية). وأهمية الرِّواية كونها لم تستطرد خُروجًا عن فكرة الانتقام للشَّرف، وقضايا قتل تبييضًا للعرض (جرائم الشرف). وقًوَّة قانون العُرف العشائريِّ.
-(أخيرًا ركعت هنادي على قدميْها، ونظرت إليه قائلة: "يُمكنكَ تقبيل العروس الآن.. لم يرها غسان (آدم) رغم أنّ خلاياهُ أدركت سرّ كلماتها. تهادى رأسه ثقيلًا في حضن قصائد صابرين المُتدلّية من شعرها الكستنائيّ، فيما أناملها البيضاء تُغلق جفنيْه، بينما يركبُ قطار الموت).ص٢١٨.

نهاية تراجيديَّة: عاش طيلة حياته على أمل لقاء جديد مع صابرين، لم يحصل إلّا في الرّمق مع خروج آخر أنفاسه، بنظرات تَسْتَملي صورتها الأخيرة.
الخاتمة:
لا شكّ للمُتابع للأعمال الأدبيّة الروائيّة؛ فقد رصدت مزيجًا لجوانب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. ونحن بخصوص رصد البُعد الاجتماعيِّ لرواية (هنا ترقد الغاوية)، وإذا ما أدرجناها في القائمة الطويلة للأعمال الروائيّة العربيّة المشهورة وخلافها، بإمكاننا الإشارة بيقين تامٍّ إلى مصطلح الأدب الاجتماعيِّ، الذي رصد بمرآته الكاشفة للمَخفيِّ والمسكوت عنه، تحت دواعي العيب والفضيحة وكلام النَّاس، والتقط القارئ رسالة هذه الرواية بيسر وسهولة، ووضوح الرُّؤية لدى الروائي (محمد إقبال حرب) في التفريق ما بين العادات والتقاليد والأعراف الشعبيّة، وما بين أحكام الدِّين الحنيف، وأظهر بمهارة واقتدار الخلط النَّاجم عند كثير من الكُتّاب والمفكرين بين الشعبيِّ وقوانينه، وبين الإلهيِّ المُتباعد بكافّة قِيَمه الثَّابتة عن الشعبيّ، الذي يميل في كثير من جوانبه إلى الغوغائية والانتقائيّة.
عمّان – الأردنّ
١١/ ٢/ ٢٠٢١