مشـروع عبـد الله الغذامـي في النقـد الثقافـي
الريـادة ، الجـرأة ، الواقـع

د. سمير الخليل

يقوم مشروع الغذامي في النقد الثقافي على تنويع قائم على مصادر متنوعة وهو إن حاول استخلاص مبادئ النظرية من مظانها الغربية غير أنّه أكسبها مشروعية التصقت باسمه وعدّت من مختصاته ، فقد حاول أن يعطي لنقده الثقافي "الروح" العربية المطبوعة بأسباب الاجتهاد الثقافي والمساعدة على نماء النظرية وتوسيعها ، فالمعطى الغربي النظري الذي يبدأ به عادة كتبه بتحويله إلى خلخلة للبنى الثقافية العربية قراءة تفكيكية لأهم القوانين والأطر المتفق عليها.
ولاشك أنّ مشروعه من الجدّة والسبق ما يجعله جديراً بالاهتمام والتلقي الهادئ ، وتسجّل له الريادة والجرأة في هذا المشروع بحكم بيئة الرجل وهي بيئة أقل ما يقال فيها بأنها منغلقة ونخبوية واحتكامها إلى الماضي وتعلقها بمفاهيم أورثتها لها مرجعياتها النخبوية شأنها شأن عديد من البيئات العربية ، فمن رحم تلك البيئة خرج الرجل بأفكار حداثوية حضارية تسعى إلى النهوض بالواقع العربي الذي تسيطر عليه موروثاته وأعرافه والأنساق المضمرة في ثقافته ، فقد تمكن الغذامي من الولوج إلى عالم النقد من أبواب لم يألفها الوسط الثقافي ، فقد تعددت مقارباته عبر ما أنتجه من مؤلفات بدأت بنيوية تشريحية بكتاب "الخطيئة والتكفير" ولم تنته بمغامراته في نقد الخطاب الديني متمثلا في "الفقيه الفضائي" ، ويعدّ الغذامي في طليعة النقاد الذين لا يركنون إلى منهج محدد أو اتجاه نقدي سكوني ، ولعلّ تجربته في قراءة الفكر النقدي الغربي قد ألقت بظلالها على مداخلاته التي حاول فيها محاكمة التراث العربي والكشف عن مكنوناته ومن ورائه مضمرات الثقافة الغربية .
أمّا مشروعه في النقد الثقافي كما ذكرنا فقد طرح خارطة طريق لمساءلة الذات أولاً منطلقاً منها إلى أبعاد مترامية في مفاصل الحياة ، وكغيره من المجددين في الخطاب الثقافي تعرّض إلى جملة من الإنتقادات التي استهدفت مشروعه على الصعيد النظري والتطبيقي ، غير أن أكثر المآخذ عليه يتركز في استعماله للمنظومة المصطلحية التي حاول طرحها بديلاً عن النقد الأدبي ، إذ قال بضرورة تجديد عناصر الرسالة عند (ياكوبسن) وأضاف إليها العنصر النسقي وطرح مصطلحات ذكرناها سابقاً وهي : المجاز الكلي ، التورية الثقافية ، الدلالة النوعية ، الجملة الثقافية ، المؤلف المزدوج ، ولو استثنينا (المؤلف المزودج) لوجدنا تلك العناصر متداخلة متماهية مع بعضها وجميعها يحيل إلى (النسق المضمر) ، فلم يوظف في اجراءاته سوى الجملة الثقافية وما يتصل بها من نسق ثقافي عدّ السابع بعد عناصر الرسالة عند ياكوبسن الستة كما نوهنا ، كما أنه توسع في اشتغالاته على الخطاب الشعري الأمر الذي جعل د. محسن جاسم الموسوي يقول : إنّ الثقافة العربية فيها أنماط أخرى غير الشعر لأنّ كل مرحلة تطرح جنساً أدبياً أو ثقافياً . ونرى أن العناصر التي أثبتها في مشروعه من الممكن عدّها أدوات اجرائية للكشف عن النسق المضمر وليس عناصر سائبة أو آليات للنقد الثقافي ، فالنقد الثقافي في مشروعه فيه قضية وحيدة ومهمة هي النسق المضمر الكامن وراء الظاهر في الخطاب فضلاً عن أنّ النقد الثقافي لا يتعامل مع النص الأدبي عموماً إنما هو واحد من اهتماماته والخطاب بكل أنواعه هو موطن اشتغاله .
حاول الغذامي في مشروعه بناء (نظرية عربية) للنقد الثقافي قائمة على (تحوير) المبادئ المتوافرة في البلاغة والنقد العربيين وإلباسهما روح المُعطى الثقافي ، فالمجاز هو معطىً بلاغي عربي تحوّل إلى (مجاز كلي) ذي نسق مهمين لا يرتبط بجملة بقدر ارتباطه بنسق ثقافي ، والتورية الثقافية البلاغية القائمة على عنصرين أحدهما قريب والآخر بعيد تحول إلى علاقة بين معطى ظاهري قريب ونسق مضمر بعيد وهكذا في جميع المصطلحات النقدية والبلاغية التي اكتست حلّة (غذامية) ذات نزعة ثقافية واضحة ، وفي كل ذلك كان مجتهداً وصاحب رأي ولاسيما بإضافة العنصر النسقي وهو عنصر فاعل في مشروع النقد الثقافي الذي أقامه وهو محور مهم في الكشف عن خبايا الخطاب ودهاليزه مما حتم عليه إضافة "الوظيفة النسقية" إلى وظائف الخطاب التي حددها ياكوبسن بست فقط ، ولعلّ في اشتراطه لوجود (نسق مضاد) حصراً جعل من النقد الثقافي محوراً لدراسة الخطابات وفق تموضعها النصوصي ، أي أنّ الخطاب عادة ما يشترك في انتاج ثقافة تتضاد مع ظاهره حتى مع وجود التاريخي والسوسيولوجي ، وأنا أفترض أنّ (المؤلف المزدوج) الذي استثنيته من أدوات الكشف عن النسق المضمر هو خالق النسق ومنتجه .
إن وضوح تنظيرات الغذامي سمة تحمد له ، ألم نعش في دوامة التضليل والمراوغة والتبجج التي جعلت لغة النقد أقرب إلى الطلاسم والفوقية ؟ فكل ما فعله الغذامي أنه من عقد العسر أفاض يسرا ، وفضله في تعامله مع خطابات أدبية تمثل إلى حدّ ما النصوص الأرقى في الثقافة العربية ، كما أنّه عرّى الكثير من مدّعي الحداثة وكشف عن اضمار النسق المضاد للحداثة داخل أكثر النصوص حداثة ورفعة ، ودخوله لعوالم مختلفة تعدّت الاحتكار الادبي للنقد فدخل في مجال ثقافة الصورة وحاول أن يفضح عيوب الخطاب التلفزيوني الصوري وعمد إلى توظيف الفضاء فيه وكشف فضائح الأنساق المضمرة من ورائه .
ويمكننا أن نقف على دالاّت كاشفة لنسق الغذامي ، ولعلّ من مواطن القوّة في مشروعه محاكمته للنصوص الأدبية (الرسمية) إن صح التعبير ، والتي استقرت في الوجدان العربي بوصفها (خطابات) عليا تتحكم بذائقتنا وفي توجيه أفكارنا ، والاقتراب من المحرمات أيضاً ولاسيما في تشريحه لكتب الجنس عند العرب خصوصاً ما كتبه النفزاوي وابن القيم ومحاولة إنصاف المرأة التي أصبحت كائناً منهكاً في تلك الكتب وفي الخطاب الشعري والحكائي العربي ، ولقد دافع عن المرأة كوجود له اعتباره أيضاً ، ولعلّ حراك الغذامي الثقافي تزامنياً (سايكرونياً) وتعاقبياً (دايكرونياً) منحت عمله مشروعية لا بأس بها فهو تحرك في التاريخ ناقداً لأبي تمام ثم عاد لأدونيس القريب منه زمناً والقريب من أبي تمام مشروعاً ، كان محاولة جريئة تدعم مشروعه ولو بنسبة ضئيلة ، كما أنّ تنوع مشروعه بين السياسة والاجتماع والدين والإعلام يحسب له شموليته ، وأيضاً كسر الغذامي الصورة النمطية عن العقل العربي الذي أخذ عليه انشغاله الذي وصل إلى حد الهوس بالشعر بعد أن اطمأنّ إلى أن الخطاب الشعري يحمل عيوباً نسقية مضادة لظاهره.
انّ المتلقي لمشروع عبد الله الغذامي يقف أمام جرأته في فضح ما يعتري الثقافة العربية من أنساق مضمرة وهتك أسرارها بما لم يفكر أحد فيها من قبل ، غير أنّ حاتم الصكر يرى أنّ الغذامي لم يتخلص من أسر المنظومة الدينية والأخلاقية والقيمية ، فهو يتراوح بين الرغبة في الانطلاق نحو فضاءات مفتوحة وقيود الانغلاق ويبدو أنّ ذلك ما جعله يتحفظ على رموز أخرى للدكتاتورية . أمّا (عمر كوش) فيرى أنّ الغذامي لم يميّز بين شاعر المدينة وشاعر الصحراء !! إذ لكل منهما خصوصيته .
غير أنّ إفادته من النظريات ما بعد الحداثية جعلت مقارباته أكثر حيوية وفاعلية ، ذلك أنّ الإتكاء على التفكيك – التشريح كما يسميه – أسهم في تقويض الكثير من الثوابت والقيم الزائفة ، وأجد أن ثقافتنا بحاجة إلى ديناميكية هذا الحراك واجراءاته الفاحصة والصريحة لطبيعة هذه الثقافة ، وأهم ما فيها عدم التوقف عند حدود معينة والانفتاح على كل الميادين في التناول والتحليل والنقد الثقافي الوسيلة الأمثل لمثل ذلك الحراك.
يرى ناظم عودة أنّ نقد الغذامي للحداثة عند أدونيس لم يكن منهجياً إذ مزج بين النتاج الإبداعي في شعر أدونيس والفكر التنويري الحداثي في مشروعه المتمثل في (الثابت والمتحوّل) لأن أفق توقع القارئ للشعر يتحدد بالتخييل وجماليات الشعرية ، أما الجانب الفكري فإنّ قارئه يبتعد عن الذاتية ويدخل في حيز العقل ، كما أنّ الروح التفتيشية في مشروع الغذامي أبعدته عن الموضوعية في التعامل مع النتاج الثقافي العربي وأوقعته في دائرة النقد العربي الانتقائي ، وهذا ما جعل عبد العزيز حموده يصف منهجية الغذامي بالتلفيقية مع أنّ الرجل وظفها في نقده الثقافي خير توظيف .
إنّ مشروع الغذامي جعل من (النسق المضمر المضاد) أساساً في السياق المؤدي إلى الخطاب ، لأن النسق الظاهر يبنى على بنية وعنصر وسياق ثم خطاب ، وقد جعل من الأنساق قراءة للخطاب الثقافي والخطابات الأخرى ، ووضع الغذامي شروطاً للنقد الثقافي في إطار نظرية الأنساق التي أعتمدها وهي :
1- نسقان يقترنان في خطاب واحد ، أحدهما ظاهر والآخر مضمر .
2- يكون المضمر مضاداً للمعلن وناسخاً له .
3- أن يكون الخطاب جماهيرياً يتمتع بمقروئية عريضة .

إنّ النسق الثقافي نسق تاريخي أزلي راسخ ، أي أنّه ليس طارئاً وإنما هو مغروس فينا ، إذ هناك نوع من الجبروت الرمزي ذي طبيعة جمعية وليست فردية ، وهذا النسق يتوسل بالجمالي ويتخفى وراءه فتمرر الأنساق الثقافية عبر الأجيال من دون نقد ووظيفة النقد الثقافي هي فضح ذلك النسق وهتك أسراره .
ونودّ أن نسأل هنا : لماذا افترض الغذامي وجود المضمر النسقي في هيكلية النقد الثقافي ؟ والجواب على ما نظن أنّ افتراضه النسق المضمر يعكس نسقاً ثقافياً متجذراً فيه وفينا ، فالثقافة الشرقية قاست وكابدت الويلات في السلطويات على مرّ التاريخ فلجأت الشعوب المسكينة إلى الصمت خوفاً من البطش ، أي إننا في ثقافة ميّالة إلى التكتم والإضمار والمسكوت عنه ، ولعلّ ذلك دفع الغذامي إلى افتراض وجود النسق المضمر لأنّ ذلك النسق عنصر أساس في اظهار غير الجمالي والمهمش الذي تحوّل إلى مضمر منسجماً مع سلطة المؤسسة الثقافية والاجتماعية والدينية ، وذلك أيضاً جعله يسعى إلى اقتراح النقد الثقافي طاوياً للنقد الأدبي ومتجاوزاً له لأنّ النقد الأدبي يهتم بالجمالي البلاغي فقط متعامياً أو متجاهلاً دور الثقافة في تمرير أنساقها وحيلها الثقافية ، ولم يكن الغذامي أول من تناول هذا الموضوع ، ففي الثقافة العالمية نجد هذا الأمر عند (ليتش) وهو يؤسس لمشروعه الذي جاء رديفاً لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ، إذ جعل (ليتش) هذا المشروع يتميز بثلاث نقاط هي :

1- لا يؤطر الفعل الثقافي نفسه تحت المؤسساتي لتمرير ماهو جمالي والتغاضي عن ما هو غير جمالي ، بل يسعى إلى كشف الأنساق المضمرة المختبئة تحت النسق الذي تحتال به الثقافة لتمرير حيلها متوسلة بالجمالي .
2- يركز النقد الثقافي على نظرية الإفصاح النصوصي في الخطاب الذي يرى من خلاله دعاة الحداثة ومنهم دريدا مثلاً أنه " لا شئ خارج النص" .
3- من مظاهر النقد الثقافي أنه يستفيد أو يستثمر مناهج التحليل التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية وحتى المؤسساتية في كشف مضمر الخطاب.


يمثل النقد الثقافي أهمية بالغة لاعتماده التحليل الشامل الذي لا يرتبط بحدود النص ، أو لغته أو جماليته ، إذ تندرج تلك اللغة أو تلك الجماليات ضمن هذا النقد في بيئة أوسع وأشمل هي البيئة الحاضعة وظروف انتاج النص والعوامل الموجهة له، كما ان الناقد الثقافي يجد نفسه بمواجهة التاريخ والنظام الاجتماعي والنظام السياسي فضلا عن النص نفسه ، وقد تتجاوز العملية النقدية الى دراسة الانثربولوجيا (علم الإنسان) أو اللاهوت (علم الأديان) ، لان الناقد في فعله النقدي يذهب أينما يجد وسيلة لإضاءة النص كي يصل إلى خفاياه.
وإذا كان النص الأدبي والفكري والجمالي ينطوي على خفايا ، فانه أيضاً ليس بريئاً من الارتباط بالمؤسسات الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهناك علائق تربط النص بهذه الينابيع التي تساهم خفية في انتاجه وبالتالي فان هذا النص يحمل التحيزات اوالاوهام وحتى الجرائم التي قد تتضمنها هذه الفعاليات والممارسات .
إنّ الصفة العلمية التي يشتغل عليها النقد الثقافي هي صفة النشاط المعرفي وهي غير محددة في مسار دون آخر، نظراً لطبيعته المتسمة بالشمولية ولذلك لا يمكن تحديد أطر منهجية محددة أو مجال معرفي خاص بذاتيات النقد الثقافي ولعل ذلك يعود إلى أن هذا النقد له علاقات وثيقة الصلة مع مسالك نقدية عدة أبرزها : ( النقد النسوي) و(ما بعد الحداثة) و( التفكيكية) و( الطروحات الماركسية والفرويدية) وغيرها.
ويوصف النقد الثقافي بأنه ميدان نقد الخطاب ويشتغل على معطيات النقود المتعددة ، والميادين المعرفية والنتاجات الثقافية متناولاً إياها بالتقويم والبناء مقدماً حيوية الخطاب النقدي المؤسَّس على مدرك نقدي سابق .
لقد تمكن الدكتور عبد الله الغذامي من إثارة السجال حول مشروعه النقدي ، إذ لا يخفى أن ما أثير حوله من خلاف كان أكثر مما يجمع عليه من اتفاق .
واستطاع هذا الناقد أن يتبوأ مكانة مرموقة في النقد الأدبي ، وأن يظفر بعدد من الجوائز ، كما أن ما أثير حوله وحول كتبه يشير إلى ما يتمتع به من حظوة في الدوائر الأدبية الواسعة في الوطن العربي.
بعد رحلة دامت لأكثر من (15) عاماً طاف الغذامي فيها بين مدارس النقد الأدبي الغربي الحديث دون أن يبتعد عن النقد العربي القديم ، بعد هذه الرحلة أصدر الغذامي كتابه (النقد الثقافي ، قراءة في الأنساق الثقافية العربية) ، وقد نعى فيه النقد الأدبي بشكل يماثل ماقام به رولان بارت في نعيه للمؤلف ، وقد شكل هذا الكتاب منعطفاً مهماً في مسيـرة الغذامي ، إذ بدأ مشواره الجديد مبشراً وداعياً لنوع آخر من النقد هو النقد الثقافي ، ويهتم النقد الثقافي لديه بما أهمله النقد الأدبي الذي تنصل عنه ، إذ استهدف نقده الثقافي كل ماهو هامشي وقبيح ، كما تمحور في نسق واحد هو شعرنة الخطاب العربي الذي قام منذ القديم على اختراع الفحل وتزييف الخطاب وصنع الطواغيت وتفضيل الصمت على الحكي والتباس الحديث بالرجعي.
يشكل النسق الثقافي بؤرة مركزية لمشروع الغذامي ، حيث يقول عنه إننا نطرحه كمفهوم مركزي في مشروعنا النقدي ، ومن ثم فانه يكتسب عندنا قيماً دلالية وسمات اصطلاحية خاصة ، نحددها فيما يلي :
1. يتحدد النسق عبر وظيفته ، وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلاّ في وضع محدد ومقيّد ، وذلك حينما يتعارض نسقان من أنساق الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر على أن يكون ذلك في نص واحد أو ما هو في حكم النص الواحد .
2. يتصف النسق الثقافي بأنه تاريخي أزلي راسخ وله الغلبة دائماً .
3. القراءة الإجرائية الخاصة للنقد الثقافي التي تعتمد الدلالة النسقية كأصل نظري للكشف والتأويل ، وهذه الدلالة ليست من صنع مؤلف ولكنها منكتبة ومنغرسة في الخطاب قامت الثقافة بتأليفها لتستهلكها جماهير اللغة من كتاب وقرّاء .

ويشير الغذامي إلى احترازه الاصطلاحي حول شرط وجود نسقين متعارضين في نص واحد، اذ لا يعني (النص) بمعناه الأول، وإنما المقصود هو (الخطاب) ، أي نظام التعبير مهما كانت وسيلته .
يرى الدكتور محسن الموسوي ان ميل الكتّاب هو الذي يحدد رسوم نقدهم الثقافي نظرية ً وتطبيقاً، ويبدو ان النسق الثقافي عند الغذامي ليس بعيداً عن مصطلح الهيمنة الذي أرساه الايطالي غرامشي ، اذ إن هذه الهيمنة تنساح في كل أرجاء المجالات الثقافية والاجتماعية ، وهي عملية يصعب علينا اكتشافها لأنها تنسل في كل شيء من حولنا دون ان نلحظها .
وبناءً على ما تقدم فأن ما يقدمه الغذامي في نقده الثقافي يعد نصاً وهذا النص محكوم بالمفهوم المركزي للنسق الثقافي الذي طرحه الغذامي نفسه ، أي اننا يمكن ان نقرأ مشروع النقد الثقافي محتكمين بالياته ذاتها .
إن السعة التي يشتمل عليها مشروع الغذامي النقدي لا تجعلنا نحيط بما أنتجه في ميدان النقد الثقافي كلّه ، إلاّ أن ثمة ملاحظات مشروعة تفرض نفسها على هذا المشروع من خلال النسق الثقافي الذي جاء به :
- اذا كان ظهور (المديح / الممدوح / المادح) في النسق الثقافي يشكل تحولاً خطيراً في الثقافة العربية، فإن الغذامي يعلل ذلك بارتباطه بالنظام الملكي الذي يؤمن بالقيم القبلية لتبرير الزعامة، إلاّ انه ضد قيم القبيلة الأصلية ، فهل في ذلك نسق مضمر يوحي به الغذامي .
- يرى ناظم عودة إن قراءة مشروع الحداثة العربية في الشعر تحديداً مشروطة بظروفها محدودة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، وبمقتضى ذلك علينا أن نخضعها إلى قراءة الخطاب نفسه قراءة خالية من الموجهات التي تريد أن تنسجم مع وضعية ثقافية ذات سلطة كبيرة مثلما أراد الدكتور الغذامي أن ينسجم مع خطاب المؤسسة الثقافية الدينية التي لديها موقف خاص من أدونيس ، ليس بوسع الغذامي في أن يتخطاه.
- إنّ النسق الثقافي كما يراه الغذامي هو الذي أدى الى اختلاف الطواغيت ويبدو انه بذلك اخترع طاغية من نوع أخر جديد هو النقد الثقافي الذي يريد له أن ينفرد في الساحة الثقافية، فآراؤه صحيحة وما عداها صدى، وعن ذلك يتساءل حامد أبو أحمد : بماذا يختلف صنع الطاغية السياسي عن صنع الطاغية الثقافي؟
- إن شيوع الروح التفتيشية التي تعزل أدلة مفردة من سياقاتها، واستنباط نتائج ثابتة ونهائية منها، قد يخفي نسقاً يعيد القارئ الى النقد التقليدي الذ دعا الغذامي الى تخريب ركائزه، كما أن تبني الانطباعية والمقياس الاجتماعي في النظرية النقدية وتقييم نجاح الاعمال الأدبية، أو إخفاقها لا ينسجم مع التوجهات النقدية الجديدة للغذامي في مشروعه الثقافي ، لأن هذا التبني يحمل معه نسقاً يشير الى رجعية ينسبها الغذامي لا شعورياً إلى نقده الثقافي .
- يرى عمر كوش أن موقف الغذامي من الطغاة الآخرين يوهم عين الناقد الثقافي بأحد المتصارعين وكأنه الآخر لكنها تصاب بالعمى حيث يحتل الطاغية مكان الشاعر ويغدو الطغاة الآخرون المسكوت عنهم في ثنايا خطابه وقوله مبدعين.
- وهناك جملة من الاعتراضات التي وجهت الى نظرية الغذامي في النقد الثقافي، إلاّ اننا اقتصرنا منها على ما يرتبط بالنسق الثقافي هنا باعتباره زواية نظر يمكن استخدامها في فحص مشروع النقد الثقافي ، وهناك اعتراضات للنقاد العرب على الجانب التطبيقي لهذا المشروع سنعرضها لاحقاً .
يركز الغذامي في هذا الجانب على البحث عن الأنساق المضمرة في (الخطاب) وليس في (النص) لأنّ النص عرف مؤسساتي يركز على ما هو جمالي وبلاغي متغاضياً عمّا هو غير بلاغي كالنكات والمسجات ، فكل ما هو لغوي في رأي الغذامي يدخل في عُرف الثقافي هو (خطاب) لكي يتساوى فيه ما هو جمالي مع غير الجمالي ، والنخبوي والمهمش ، والمؤسساتي والجماهيري . فهو أي النقد الثقافي يكسر عصا الخطاب المؤسساتي ويكشف عن النسق المضمر المضاد لها ، ويعدّ النص الأدبي واقعة ثقافية نسبر أغوارها لمعرفة الكامن خلفها ولا يعنيه فنيته وصياغاته المتفردة تلك ، شأن النقد الأدبي .
ولا يخفى أنّ النقد الأدبي يبحث عن الوظيفة الجمالية (للنص الأدبي) بمعنى التمسك بنظرية في الجماليات ، والنقد الثقافي يبحث عن (القبحيات) ولا يعني البحث في نظرية القبحيات بل يبحث وراء الأنساق لكشف العيوب النسقية في (الخطاب) والكامنة خلف الشخصية العربية من الجاهلية إلى اليوم ، وهذه الأنساق مخبوءة – كما يقول الغذامي – وراء عباءة الجمالي أو إنها مغطاة بأغطية سميكة وجمالية يختبئ خلفها النسق المضاد عبر حيل ثقافية يصبح من العسير كشفها ويتطلب أدوات إجرائية وعقلية واعية وعميقة وهذا ما اطلق عليه االغذامي بـ (العمى الثقافي) وهو صعوبة الكشف عن شعرنة (الذات) . وقد ارتبط هذا المفهوم لديه في قراءاته لأبي تمام حيث صورت النصوص النقدية العربية أنّ أبا تمام هو محور الحداثة في الثقافة العربية قديماً غير أنّ الغذامي تبعاً لبروكلمان وغرنباوم – يرى أنّ أبا تمام أعاد سلطة النص وأعاد قدرة الأوائل على احتكاره ، فالعمى الثقافي ممارسة تصيب بعض النقاد للتغطية وإغماض العينين من أجل الحفاظ على النسق الطاغي في التلقي ، وفي ظني أنه – أي العمى الثقافي – هو حالة من حالات حيل الثقافة وألاعيبها تصيب مستهلكي الثقافة في أمّة ما وتذهلهم عن أن يتبينوا مواطن الضعف والهشاشة في ثقافتهم وهذه الحالة سببها هذه الحيل التي تزرعها اللغة مستفيدة من جمالياتها البلاغية لتبهر أبناء ثقافـة تلك الأمة ، وهذه الحالة لا يمكن اكتشافها إلاّ إذا سلط ضوء النقد الثقافي عليها في البحث عن الأنساق المضمرة وبعكسه قد تستمر هذه الحالة قروناً – كما يرى الغذامي نفسه – ولولا النقد الثقافي لما أمكن التحقق من ذلك العمى داخل متن الثقافة أو الخطاب الحامل للنسق الثقافي .
فالغذامي عمل على تسليط ضوء العقل على أبرز العيوب في النسق الثقافي العربي وحاول سحبها ليضعها على طاولة المثقف العربي لأنه يرى أن هناك بوناً شاسعاً بيننا وبين ذلك العالم المتحضر ومن أجل ردم هذه الفجوة اقترح النقد الثقافي وسيلة لكشف واقع الثقافة والشخصية العربية التي أصبحت تحمل ذات العيوب فقد تشعرنت الذات العربية وأصبحت تحمل سمات الشعر العربي الذي صنع الطاغية والفحل بل هو أحد تجليات الفحولة العربية .
فالفحولة – كما يرى الغذامي – هي تضخيم (الأنا) والتمركز حولها وإلغاء الآخر وتهميشه والركون إلى الأساليب الغنائية العاطفية الميتافيزيقية بمعنى اللا عقلانية واللافاعلة ، وركنت العقلية العربية إلى المخيلة – التي هي سمة رئيسة في الشعر العربي – فأصبحت تولّد صوراً وتنتج رؤى خيالية عن نفسها وعن الآخر وتحتكم لتلك الصور حتى أصبحت الذات العربية تعيش بالعصر الحديث ولكنها تعيش بجلباب الموروث والتقاليد ، فالذات العربية ذات شاعرية (مشعرنة) تتحكم بها وتسيطر عليها ثقافة الفحولة النظرية اللافاعلة مما جعلها تتحول إلى (ظاهرة صوتية) كما يسميها البعض .

ويمكن أن نلفت النظر إلى بعض مواطن الوهن في مشروع عبد الله الغذامي التنظيري والاجرائي حسب تصورنا :
1- تصويره للحداثة وكأنها حداثة شعرية فقط وكأنه يستسلم لمقولة العرب في الشعر ، أي أنه يخضع في بعض الأحيان لنسق يظن أنه يحاربه لأنه عيب نسقي .
2- قصر كثيراً من إجراءاته على المتن الشعري مع اصراره بأنّ النقد الثقافي يتسامى على النص الأدبي ويبحث عن الخطاب الأدبي والعام وحصر نفسه في زاوية ظنها من عيوب النسق بقوله بأنّ الشخصية العربية متشعرنة انطلاقاً من المتون الشعرية في الأعم . وهذا أمر يجب اخضاعه للواقع لأنّ المتن النثري العربي كان حافلاً بالكثير من المضمرات النسقية والظاهرة كالمتن الديني والمتن الجنسي .
3- تجاهل الغذامي للوسط الذي نشأ فيه فهو يسلط نقده للقضايا المعاصرة خارج حدود بلده ولا يخرج عن ذلك إلاّ لماما.
4- لم يطلعنا الغذامي على مصادر مشروعه كما فعل محسن جاسم الموسوي فالغذامي ينقل عن (ليتش) دائماً وفي أحيان كثيرة يختلط الأمر علينا فلا نفرق بين كلامه وكلام (ليتش).
5- بعض الخطابات والنصوص التي يحاورها الغذامي يبالغ في استنباطها وبعضها يعاملها بعمومية ويدّعي أنه يستنبطها ، فثقافة الوهم أو الجهل التي تنتاب العربي تجاه المرأة تقوم على كشف نسق مضمر لا تدّعي الثقافة العربية أو الغربية إخفاءه بل هي تجاهر في غمطها لحق المرأة وهي ليست نسقاً مضمراً كما يظن لأنه متوافر في ظاهر القول .
6- إذا كان الغذامي قد عرّب النقد الثقافي فهو من جهة أخرى قد بالغ في تركيزه على نصوص وأغفل أخرى كالنصوص الدينية التي نالت مساحة واسعة في نقود الغربيين مع عدم نسياننا لتعرضه لبعض تلك النصوص في كتابه (الفقيه الفضائي) ، فهو كما نظن لم يكن أميناً لمنهجه في كشف عيوب الأنساق المضمرة لبعض المتون الدينية ولم يعلن رفضه للممارسات التي تلبس ثوب الديني اعتماداً على نصوص دينية ترى فيها تأويلاً يشوّه وجه ديننا وماضينا وحاضرنا.
7- حماسة الغذامي المفرطة في الهجوم على (أدونيس) بالذات وتكراره الأمر في أكثر من كتاب تكشف عن نسق مضمر في مشروعه يجعلنا نذهب إلى كون الأمر شخصياً بينه وبين أدونيس لا يعنينا كثيراً ، وأنّ آراءه مغالية ومفرطة إلى الحد الذي يجعله يستعين بزخارف البلاغة العربية في هجومه عليه ما أوقعه في شرك نصبه هو للآخرين .
8- كان انتقائياً في نقده للمؤسسة السياسية . والخطاب العربي المؤسساتي برمته كان يدعم الطغاة ويمجدهم غير أنه ركّز على صدام حسين وحده ولم يذكر الآخرين الذين لا يقلّون عنه طغياناً في كثير من الأقطار العربية .
9- ندّعي أنّ الجدّة والريادة تحمل هنات لأنها غير مسبوقة وهي تسمح بمثالب يقع فيها الرواد ويأتي بعدهم من يكّمل مشروعهم والغذامي اجتهد وحاول وله شرف المحاولة.

إنّ مشروع عبد الله الغذامي في النقد الثقافي شكّل إضافة نوعية فهو مشروع حيوي وفيه طرافة على الدراسات العربية ، وعلى الأقل أتاح لنا سهولة الحركة داخل الخطابات الأدبية وغيرها واكتشاف لعبة اللغة وحيلها التي طالما مرّرت من خلالها أنساقاً مضمرة شكلت مرجعيات ثقافية لمدة طويلة وهو من أخذ بأيدينا لكشف مضمرها النسقي وإني على المستوى الشخصي ولّد عندي جرأة غير مسبوقة في استيلاد الخطاب الأدبي وما لا يرى في النص ، ولفت نظري إلى أنّ النص الأدبي والشعري بخاصة مادة غفل مسكوت عن تفاصيلها وما بدا فيه غير ما يضمر وما يشاع غير ما لا يذكر ، فضلاً عن سهولة تلقي الغذامي ولا تعني هنا السذاجة.

ثقافة الوهم ، سلطة الذكورة وقمع الأنثى :

في كتابه "ثقافة الوهم" يطرح عبد الله الغذامي أفكاره المتعلقة بالمرأة ، إذ ينطلق من طروحات التفكيك وما بعد الكولنيالية والنقد النسوي ، فيؤسس لمقاربته حول الثقافة التي تقصي المرأة وتهمش دورها في الحياة الاجتماعية بوصفها جسداً يلتذ به الرجل ، ويبدو أنّ الغذامي يكمل ما طرحه في كتابه الأول (المرأة واللغة) إذ يعمد إلى الإفادة من الحكايات الشعبية التي تصور المرأة إمّا من الكائدات أو صاحبات الجسد الجميل الذي لا يحمل عقلاً أو فكراً ولا تمتلك صوتاً ، فهو يستبطن الحكايات ويتفحص مكوناتها الثقافية للوصول إلى حقيقة المرأة "الروض العاطر ونزهة الخاطر" في مجال تحليله في ضوء النقد الثقافي وينتهي إلى ظاهره ثقافية نسقية تبعد المرأة عن العقل واللغة ، فضلاً عن حكمه على مؤلف الكتاب بأحادية المصادر تعريفه للحب وسبره لأغوار الجسد ومثيراته ولذائذه ، غير أنه يثني على كتاب ابن قيم الجوزية "روضة العاشقين ونزهة المشتاقين" الذي يراه متعدد الأخذ من المصادر عند تحديد نوع من العلاقة بالمرأة ، ويبدو أنه يلجأ إلى الانتقائية عند ذكره للحكايات المختلفة وينتهج التأويل في استخراج أحكام تتطابق مع رؤيته وتنظيره ، والحق أن طريقة الغذامي في ليّ أعناق نماذجه النّصية من أجل تكريسها للنتائج التي يروم الوصول إليها تحتاج إلى وقفة .
ولعلّ في تنظيراته وتخريجاته لقضية التأنيث والتذكير في اللغة ما يثير الاهتمام ويرفع الحيف عن المرأة ووجودها الحياتي ، وإنّ المسعى الذي قدّمه يضعه في العمل على التساوق مع منطلقات النقد النسوي من حيث إعادة الاعتبار للهامش والوصول إلى إنسانية المرأة التي لا تختلف عن رديفها الرجل عقلاً وفكراً ولغةَ.
تعرو عملية تحديد ثقافة الوهم عملية سابقة تتعلق بالكشف عن الحقيقة وتثير التساؤل الآتي : هل يدّعي النقد الثقافي أنّه يقدم حقائق مقابل الأوهام ؟ سيكون الجواب بأنّ الوهم ثقافة لتضييع الحقيقة وطمسها ذلك ما أشار إليه كتابه "ثقافة الوهم" الذي ينتقد فيه السلطة الذكورية القامعة لكل ما هو مؤنث ، هو ممارسة الثقافة الذكورية القامعة لكل ماهو مؤنث ، هو ممارسة الثقافة الذكورية بصفتها العالمية ، القمع والانتهاك المنظم لجسد المرأة وتصويره على أنّه مادة لشهوة الرجل وموطن لتمتعه فضلاً عن تصويره للمرأة على أنها تابع للرجل وهي على تبعيتها لا تقدر على القيام بممارسات عقلية وذهنية ، فالمرأة وفق هذه الثقافة لا تتجاوز رغباتها الشهوية وهي على حدّ تعبير الغذامي جسد بلا رأس كتمثال فينوس بل بلا يدين لإلغاء أدوات العمل الإنساني لديها.
الغذامي في كتابه يبحث عن نسق مضمر داخل الخطابات والنصوص والحكايات الشعبية التي جاهرت بتهميش المرأة واستصغارها أو التي كانت مادة لمدح المرأة الممتعة جنسياً بعد أن صوّرت على أنها تحافظ على الميراث الرمزي الذي يهين المرأة ويحرص على ابقائها ضمن المنظومة التي خلفتها على هيئة ماكرة تنضوي تحت إرث التجنيس بل تجاهد من خلال نصوص الحكايات على الحفاظ عليه وتجليته وقد وصل الأمر بالغذامي أن يرفض بعض النصوص التي تظهر المرأة على أنها قادرة ومريدة وتتحكم بنفسها وهي عامل في البعث والحياة كحكاية (الهيكل العظمي) الذي صوّر المرأة مختارة في عودتها للبحر ، فالغذامي استبطن هذا النص وأظهر أنّ النسق المضمر فاعل في هذه الحكاية لأنّ المرأة فيها هيكل بلا عقل ولا جسد والرجل كامل السمات ، وكذلك فعل الغذامي مع الحكاية التي حاولت المرأة فيها الإفلات من أسر الرجل ووردت بعدّة ثقافات يمانية ومجرية ونجدية ففضل التي منحت المرأة القدرة على الاختيار ولم تنخدع بمحاولات تضللها عمّا تخبئه الحياة وحسناً فعلت.
إذا أردنا أن نصنف كتاب ثقافة الوهم في أنه ينتمي إلى النقد النسوي فأرى أنه يتماس مع هذا النقد لكونه حصر الفاعلية النسوية في مجال الثقافة ومحاولتها – الثقافة – إبراز "أنوثة المرأة" في مقابل ذكورية طاغية ، إنه الجهد الثقافي الذي تستطيع المرأة أن تقدّمه سواء يالممارسة أو بملاحقة النشاط النسوي وتبنيه .
قد لا تكون الثقافة العربية بدعاً بين الثقافات في نقاط الاختلال التي يحتويها متنها ، ولعلّ قضية المرأة من القضايا الشائكة التي تتخلل الثقافة العربية ، فثقافتنا العربية ثقافة ذكورية وهذا أمر لا نجادل فيه ، بل حتى الثقافات الأخرى كانت ثقافة ذكورية وحاولت تجاوز ذلك الطغيان الذكوري بنسب متفاوتة ولكنها حققت إنجازات لافتة في مجال الجنوسة (الجندر) التي تدعو إلى النظر إلى المرأة ليس بمنظار (بايالوجي) مظهري انما إلى قدراتها العقلية وفاعليتها أمّا المظهر فهو كأي مظهر انساني مختلف كاللون الأسود مثلاً . وما يعنينا هنا ثقافتنا وهذا الأمر تبنته المؤسسات بكل أنماطها منذ زمن بعيد ، بل حتى في اللغة نجد صيغ المذكر لها حضورها وهيمنتها فحينما يثنى (الأب والأم) يقال (أبوان) و(الشمس والقمر) يقال (قمران) وحينما نأتي على أعضاء الإنسان فكل متكرر مؤنث وكل متفرد فهو مذكر إلا ما ندر ، يقال : أنف ، فم ، رأس ، شعر ، بطن لأنها أعضاء تتكرر ، ويقال : (أذن ، عين ، ثدي ، رجل ، ساق) كلها مؤنثة لأنها تتكرر ، وهكذا تستمر العملية إلى أن تصبح الأنوثة مجردة من كل امتياز بل تصبح رقماً لإكمال العدد وأداة للمتعة وزينة يتزين بها الرجل ، وما إن حاولت الخروج على ما رسمته لها السلطات الذكورية فإنها حينئذٍ ارتكبت جناية كبيرة تستحق عليها العقوبة لذلك تواضع صانع تمثال افروديت على قطع رأسها .
وفي المتن الثقافي العربي طالعتنا كتب كتبها مؤلفوها تحت عنوان مفترض هو (ثقافة الجنس) وهي في الحقيقة ثقافة الرجل في متعته مع المرأة مما يوقع في الوهم ، مثل كتاب (نواظر الأيك في نوادر ... ) للسيوطي مثلاً ، وتلك الكتب لم تقدّم للمرأة سوى صورة نمطيّة رسمتها لها ، صوّرتها على أنها وعاء للجنس ، وجسدها هو ما يشغل الرجل والكتب ، وقد يجعلونها تهفو حتى إلى المجانين والمهابيل من أجل إشباع رغباتها ، أمّا حينما تنطق المرأة – ولا تنطق إلاّ شرّاً – ويصبح لسانها طليقاً فإنّ الأمر هنا يستدعي قوات ردع ذكورية لأنّ الإرهاب النسوي أطلّ برأسه ، لذا كان الغربيون يغطسون المرأة في ماء جارٍ حذراً من لسانها إن نطقت حتى يتطهر لسانها من النطق خشية على أنفسهم ، لأنّ الشيطان هو الذي تعلّم من المرأة وليست هي ، والعرب كانوا يعتقدون بأنّ المرأة حين تتكلم فإنّ الجنّ استوطن رأسها ولا سيما إذا تكلمت في مواطن لا يجوز لها التكلم فيها ، ولذلك فنحن نرى اتفاقاً بين سلطات المجتمع ومؤسساته المختلفة على إقصاء المرأة وتنميط الصورة المرسومة لها ، ولعلّ أقسى صورها عملية (الوأد) الجاهلية التي كانت تتم على يد الآباء أنفسهم وقتلهن وهن مازلن رضيعات.
ولا نغالي إذا ما قلنا إنّ النقد الثقافي والدراسات الثقافية هي الكاشف الأهم لهذه العيوب النسقية التي أصابت بنيتنا الثقافية ، ولعلّ النقد النسوي بوصفه فرعاً من فروع الدراسات الثقافية اخترق النسق داخل متن هذه الثقافة ، والنقد النسوي يشمل دائرة ما كتب عن المرأة سواء أكان الكاتب رجلاً أو إمرأة أو على الأقل معني بما له صلة بها ، وبما أن المتن النصوصي النسوي قدولد على يد الرجال في ثقافتنا العربية ولذا لابدّ له من أن يعرض على أضواء كاشفة لمناطقه فكان استيلاد النقد النسوي من أجل الوقوف والغور في مناطق لم تطأها الدراسات الأدبية سابقاً ولا سيما في كتب الجنس الثراثية . فالنقد النسوي جاء من أجل رفع مظلومية المرأة وابراز مكانتها وتغيير وجهة نظر الرجل عنها بعد أن خضعت لسلطته تاريخياً واجتماعياً فصارت هي تكتب عن نفسها وأفكارها وجسدها كما تراه هي لا كما يراه هو ، ولعل من أبرزما يلفت عند الغذامي مفهوم "التأنيث الثقافي" حيث حددت الثقافة الذكورية زمن الأنوثة من سن البلوغ إلى ما قبل الكهولة ، أما زمن ما بعد الكهولة فالرجل في ثقافتنا أفضل من المرأة لأنه يكتسب فيها صفات إيجابية والمرأة تخسر ، ألم يقل ابن عبد ربّه في العقد الفريد "آخر عمر الرجل خير من أوله ، يثوب جلمه ، وتثقل حصاته .. وآخر عمر المرأة شرّ من أوله ، يذهب جمالها ، ويَعقم رحمها ، ويسوء خلقها" ؟ وحددت الثقافة العربية سماتٍ للأنوثة ومظاهرها ليس من بينها (العقل واللسان) فهما من حصة الرجل ، وللمرأة الصمت والاستماع ولهذا جعلت ثقافتنا المرأة كائناً اصطناعياً وليس طبيعياً ، والأدل في رأي الغذامي أنّ ثقافتنا أكرمت المرأة (الأم) أو في مقامها ثم تحويلها إلى (حماة) لتستمر عملية الإقصاء.
والخلاصة أن الغذامي كان يقصد بالوهم تلك النظرة التي أرستها الثقافة الشرقية ، إنها ثقافة الجهلاء والحمقى والمتخلفين الذين حاولوا ومازالوا يمررون ثقافتهم عبر أنساق مضمرة في محاولة منهم لفرضها وإيهام الآخرين بأحقيتها .

(الفقيه الفضائي) وعولمة الخطاب الديني :

لم يدّخر عبد الله الغذامي جهداً في مواصلة مشروعه في فاعلية النقد الثقافي وتنشيط الذهنية العربية لمواكبة التغيير الحاصل ي وسائل الاتصال ، إذ يرى إنّ رحلة أساليب التعبير امتدت عبر تاريخها وهي تسير في تنوع مساراتها الخطابية ، فكانت الشفاهية ثم التدوين ثم الكتابة لتنتهي إلى ثقافة الصورة ، ويبدو أن الميتات المجازية أعجبت الغذامي عند الغربيين ابتداء من أول موت يعلنه (نيتشه) وصولاً إلى (موت التاريخ) عند فوكو و(موت المؤلف) عند بارت فصار يحيل إلى موت من اجتراح عربي هو (موت النقد الأدبي) غير أنّ الموت في كتابه "الثقافة التلفزيونية" يستهدف النخبة الثقافية التي كانت تهيمن على فضاء المجتمع فاجترح (موت النخبة) أو على الأقل تهميشها وإقصاءها ، فلم يعد – كما يرى – ما تنتجه النخب الثقافية صالحاً للتداول في عصر انتشار الصورة التلفزيونية وغيرها.
وإذا كانت المشاهدة والتأويل بديلاً عن القراءة والتفسير فإنّ ثقافة الصورة تفتح المجال واسعاً للجماهير لتكون فاعلة في المشهد الواقعي لأنّ فعل التلقي لم يعد لمجرد الاستمتاع فقط بل أصبح فاعلاً في تأويل ما يراه ، لأنّ عملية القراءة والتفسير صارت محدودة على حدّ قوله وتمارس في نطاق ضيّق ، أمّا المشاهدة والتأويل فليست محدودة ومتاحة للجميع بل تفرض وجودها عبر وصولها إلى بيوتنا ومن حق كل مشاهد أن يؤوّل ولم يعد التخصص الإنساني أمراً مهماً ، فلقد خلقت الصورة مجالاً مستجداً يتعلق بهيمنة الخطاب المتجدد إذ أنّ الصورة ناسخة لنفسها متجددة وناقضة ، لكنّ ثقافة الصورة – وإن أعادت للهامش مكانته – لم تكن حسب ظني – الحلم المثالي الذي سيأتي بالخلاص للمجتمعات العربية لأنّ المؤسسة الثقافية الرسمية والسلطوية ليست بعيدة عن هذه الوسيلة إذ صار لكل تيار أو حزب قناته وخطابه فضلاً عن القنوات التي تصب في حيز السلطة الحاكمة وما كسبه المجتمع من كل ذلك هو التنوع الثقافي والسياسي في الخطابات وصار مجال اختياره أوسع إن عددنا تلك حسنة من حسنات تلك الثقافة .
وإذا كان النسق الثقافي المضمر في شعرنة القيم والإنسان باتجاه الفحولة هو الحاكم فإنّ فعل المؤسسة الرسمية ما انفك عن ممارسة سلطته على الصور ، وأرى أنّ ثقافة الصورة مع ما تقدّمه من ثراء فإنها – كما أظن – لا يمكن أن تكون بديلاً مطلقاً عن ثقافة النص المكتوب ، إذ يبقى النص محتفظاً بمساحته وإن تقلصت ويمكن أن يكون فاعلاً في الصورة نفسها ، وإذا لم يتوفر نص فكيف نرفد الصورة بمحتوياتها وتعليقاتها ؟ ولا يمكن الاستغناء عن كتاب السيناريوهات والبرامج الثقافية وما تحتويه هذه الوسيلة الاتصالية .
إنّ ثقافة الصورة هي عملية تحوّل شاملة انتقلت فيها عمليات التلقي من المتن البصري الجامد (الكتاب) إلى متن متحرك تشترك فيه حاستا السمع والبصر ، وهذه النقلة ألغت سلطة النخبة – كما يرى الغذامي – وهمّشتها لصالح الشعبوي حتى قيل بأنّ الصورة ديمقراطية والأدب برجوازي لأنّ الصورة ألغت تقاليد كانت سائدة لسنين طويلة ، احتكرت فيها النخب الثقافة والمعرفة والنصوص وتفسيـرها وتأويلها المنسجم مع توجهاتها ، غير أنّ ثقافة الصورة حين أطلت جعلت الشعبـوي بمواجهة حقيقية مع المعرفة ، جعلت الإنسان الفرد والمجتمع متلقيا مباشرة بعكس التلقي النخبوي السابق في المحافل ، ومن ثم جعلته مسؤولاً عن تأويل ما يتلقاه ، إذ أنّ الصورة أتاحت لهحرّية الحركة وتحويل مجرى التلقي في لحظات من خلال جهاز (الريموت) فضلاً عن ذلك فإنّ هذه الثقافة كانت متناً له نحوه الخاص الذي بإمكاننا أن نقرأ من خلاله الصورة إذ ألغت الصورة السياق الحدثي بجعل التركيز ينصب عليها كما تميزت الصورة أيضاً بسرعتها اللمظوية ومهارة التلوين التقني الذي يوازي مجازات اللغة وأشكالها البلاغية إن لم أقل يساويها فاللون وزاوية النظر وطبيعة اللقطة والموسيقى المصاحبة جعلت الصورة تحمل الدلالة المطلوبة والمؤثرة فعلاً ، فضلاً عن ذلك كله فللصورة قابلية سريعة على النسيان بمعنى إحلال صورة جديدة يمكن أن يستدعي نسيان القديمة.
إذا كان النص المقروء له سطوة على المتلقين فالصورة استطاعت أن تبعده كثيراً عن عرشه مع الاحتفاظ بمكانة محددة في نفوس بعض المتلقين ، إذ ان النصوص الابداعية اصبحت تتعرض لعمليات مونتاج وسيناريو وتقطيع وكولاج وتشكيل لمشاهدها والأدب التفاعلي ليس بعيداً عن أذهاننا فلا يقرأ إلا عن طريق الصورة وبمؤثرات خاصة ، لأن الصورة أصبحت أكثر إغراءً وأيسر منالاً إذ يكفي أن نرى مقدار الأرباح التي حققتها الكاتبة البريطانية "جي . كي . رولينغ" حين قامت بتأليف عملها الخيالي (هاري بوتر) فبعد أن تحول العمل إلى فلم طلب منها أن تكتب جزءاً ثانياً لأنّ شباك تذاكر الفلم حقق أرباحاً هائلة ، فكتبت ستة أجزاء إضافية من الرواية وأصبح ما تتقاضاه يفوق الخيال لذلك فإنّ سطوة الصورة على الواقع أصبحت أمراً مسلماً به أن يتجاهله أحد في عصرنا الحالي.
وعلى الرغم مما يمكن أن تمرره الصورة داخل نسقها المضمر غير أنها تظل أقل خطراً من النسق النصي – حسب ظني – لأنّ إمكانية الاكتشاف للعيوب النسقية في الصورة أسهل منها في النص ، لأنّ النص يعتمد اللعب البلاغية وجمالية الأداء وحيل اللغة الأخرى وسيلة لتمرير ما يريد ، أمّا الصور فإنّ سرعتها ولحظويتها ونسيانها السريع لا يترك لها بناء نسق يمكن أن يستمر طويلاً ، فضلاً عن شعبويتها ، والنقد الثقافي معنيّ بهذا وقادر على جعلها أكثر إنصافاً للمهمشين والمسكوت عنهم في النص ، ربّما يكون القول صعباً بأنّ الصورة يمكن أن تصبح بديلاً بصورة كاملة للنص ، فالصورة هي معطى لفكر نصي هو الذي أنتجها ونستبعد من ذلك النقل المباشر لبعض الأحداث ، ولذلك يمكن أن نقول إنّ الصورة أزاحت النص عن عرشه ولكنها تركته في البلاط ولم تطرده واكتفت بتحويله من دور الملك إلى دور الحاشية إن صح التعبير .
يأتي كتاب عبد الله الغذامي (الفقيه الفضائي) ضمن مشروعه الأعم في النقد الثقافي الذي تمخض عنه فكر جديد ورؤى مخالفة وولادات ودراسات ثقافية ما فتأت تحرّك الساحة الثقافية في امتنا العربية وتقترح بديلاً لدراسة الخطابات بأنواعها ، ويحاول الغذامي في الفقيه الفضائي أن يسلط الضوء على قدرة (الفضاء البصري) على نقل الصراعات الفكرية والمذهبية من بطون الكتب إلى القنوات الفضائية ، حيث الصوت الأعلى والقدرة المتمكنة والجمهور الواسع المسترخي والأموال الطائلة التي تحوّل الاختلاف إلى خلاف وتحوّله إلى مصدر من مصادر الأحقاد الرهيبة ، ومجريات الإختلاف لا تفتأ تمدّ المتخاصمين بما يحتاجونه للغلاب ، والقدرة على التحوّل أورثت القائمين على الخلاف والاختلاف قدرة في أن يحوّلوه إلى مرئي "وما راءٍ كمن سمعا" كما تقول الحكمة العربية.
لا يخطئ من يقول إنّ عصرنا الحالي هو عصر الاختلاف وعصر الصراعات الايديولوجية والمذهبية بامتياز ، ومع كل ما تدعو إليه البشرية في جميع المحافل من ضرورة التقارب وإلغاء نقاط الاختلاف والبحث عن المشتركات ، غير أنّ الأمر لا يعدو أن يكون ضرباً من العمل العبثي ، فرسوخ العقائد عمل يتطلب نباهة كنباهة الانبياء وسعيهم ومعجزاتهم .

تدخل لعبة الأقلية والأكثرية في توجيه مسار الأحداث في المجتمعات القلقة طائفياً أو عرقياً أو إثنياً ، لأنها تصبح موجهاً في مسار الأحداث ، حيث تصبح الطائفة مظلّة يحتمي بها حتى من يحاول أن يكون عابراً للطائفة ومثقفو العراق ولبنان أنموذجاً ، وهذا الأمر مردّه إلى تشكيلات نسقية بثتها الثقافة وأوقعت متلقيها فيها في ما يشبه الفخ الذي يصبح دائرة من دوائر الشيطان التي يدور فيها الإنسان بلا توقّف ، حتى يصل الأمر إلى أن تصبح الموجودات من حولنا عبئاً علينا ، هذا الفخ النسقي يتشكل من خلال فكرتنا المنقوصة عن أنفسنا ودخولنا في لعبة الأقلية والأكثرية ، أبناء العقيدة والمخالفون لهم ، المثقف والشعبي ، وهكذا تتحول الأمور إلى ما يشبه الأمر التواضعي وتتكرس في ضوئه مفاهيم الاختلاف ، حتى الحلول تصبح حلولاً خلافية ، في لبنان حلّ الأمر باتفاق الطائف الذي كرّس الطائفية ، وفي العراق دخلنا في لعبة المكونات التي كانت هي سبب الصراع الطائفي السياسي المستمر إلى يومنا هذا ، هذا الأمر وغيره تنبّه إليه محمد مهدي شمس الدين الذي يذكره الغذامي باعتزاز ، وكان هذا الشيخ يسمّى (بشيخ الطائفة) وهي (مفارقة تكرس لخلاف المواطنة) ، وأوصى مريديه وأبناء طائفته بترك لعبة الأقلية والأكثرية والعمل على دمج أنفسهم داخل مجتمعهم وحين انتبه إلى أن مجتمعه منقسم إلى مسلمين ومسيحيين طلب من أتباعه الذوبان في وطنيتهم التي توحّد الجميع ، ولكن الأمور لم تسر بهذه الصورة الوردية المقبولة ، لأنّ انتزاع الاعتراف من الآخر بوجودي كمواطن يستحق كافة حقوق المواطنة وهذا الاعتراف بالوجود يصبح أهم من الوجود نفسه لأنّ القلق والشد النفسي يظلان يتحكمان حياتنا حتى مماتنا ما لم نحصل على هذا الاعتراف وهذا ما لم يتطرق إليه الغذامي في محاورته لوصية الشيخ شمس الدين ، بل ألقى كلامه بكل مضمراته... منقول كما هو ينقصه بعض جمل.