التراث الشّفاهي عند الغجر
قراءة في كتاب (ديوان الغجر) للروائي هاشم غرايبة

بقلم الروائي/ محمد فتحي المقداد

من المعلوم أنّ معظم تراث الشّعوب قاطبة ما زال شفاهيًّا، تتناقله الألسنة جيلًا بعد جيل، عبر القصص والرُّموز والاعتقادات والعادات والتقاليد، ولم يُدوّن ويُسجّل إلّا القليل منها، لعدم نشاط حركة التأريخ عند المهتمين بالدراسات التّاريخية، التي دأبت منذ القديم التَمّحور حول السُّلطان وانتصاراته وإنجازاته، وما تمّ في عهده، هذه الأعمال قام بها الجُنود والعمّال والصُّناع المهرة، هو لم يشتغل في حياته شيئًا إلا في قُصوره مع نسائه وجواريه ومحظيّاته، وقلاعه الحصينة خلف الأسوار.
والغجر طائفة بشريّة قائمة على هامش الحياة في جميع الأماكن التي يتواجدون فيها، اتّخذوا من الخيام بيوتًا لهم، يقومون بالأعمال البسيطة خِدمة لديمومة حياتهم أوَّلًا؛ للحصول على مقابل ذلك من أموال تساعدهم في معاشهم. هذه الطّائفة لم ينتبه لها بالقدر الكافي، لأسباب كثيرة: منها ترحالهم الدَّائم؛ فهم لا يتمسكون بموطن لهم؛ ليتركوا أثرًا لهم فيه، استمراريّة التِّرحال سمتهم وعلى طريقتهم؛ فكلّ البلاد وطنًا لهم.
وفي هذا الصّدد صدر قبل سنة تقريبًا، كتاب (ديوان الغجر) للروائي الأردنيّ (هاشم غرايبة)، طرافة العنوان لافتة للانتباه، وللبحث عن هذا الكتاب لمطالعته، التوجّه لفئة الغجر قليل جدًّا فيما بين الكُتّاب والمؤرّخين، لأسباب عديدة، منها على سبيل المثال النظرة الدّونيّة لهذه الفئة الاجتماعيّة المُترحلة طوال عمرها، لا يمكن إدماجها في أيّ من التجمّعات البشريّة الأخرى، لاختلاف التكوين النفسي للغجر النّازعين للحريّة، والتفلّت من كافّة الحواجز والقيود جميعها، كما أنّ الغموض الذي يلفّ حياتهم، وطبيعة اعتقاداتهم وعاداتهم ذات المنحى البسيط، وإقبال نسائهم على الشّحادة والتسوّل، واشتغالهم بأعمال بسيطة كصناعة الأسنان والخناجر والغرابيل وتبييض الأواني النحاسيّة، هذه المهن التي انقرض معظمها ولم تعُد ممارستها ذات جدوى للمعيشة، واشتغال بعض منهم بدقّ الطّبل والرّقص، مما يأباه كثير من النّاس الآخرين من غير الغجر، كما أن الغيْرة والحميّة على نسائهم هو ما رسّخ عنهم النّظرة الدّونيّة لدى مجتمعات الفلّاحين وأهل المُدُن وأطرافها. هذا ما عبّر عنه المثل الذي ورد في كتاب ديوان الغجر: (النّوريّة ما تسأل بِنتَها وَيْن كُنتِ.. تسألها شو جِبْتِ)، السّؤال الدّائم عن النتيجة وما حصّلت، ليس المهمّ كيف حصل. وفي مثل آخر يحكي هذا المنحى: (العزُّ للنّوَر بهدّلة) أي لا يليق بهم العزّ في المسكن والملبس والجاه؛ فيقول: (لقد سمعتُ بعض هذه الأفكار تصدُر مباشرة من غجريّات في أماكن مختلفة ومُخيّمات متباعدة، وصُغتُ بعضها اعتمادًا على الملاحظة والمُقارنة والمُقاربة) ص46.
أما الدّوافع الحقيقيّة وراء تجشّمه للصّعاب والبحث الاستقصائي الميدانيّ، ورصد الجوانب الخفيّة وغير المعروفة، كونها من الخصوصيّات عند الغجر، وما يلحق الشّخص المُتردّد على مضارب النّوَر، من إشارات استفهام وكلام بالغمز واللّمز؛ فقد تجاوز هذا الحاجز الدكتور هاشم غرايبة، ليُدوّن هذا السّفر العظيم، (داخل كل كاتب هناك راوٍ ومستمع، مبدع وناقد، مجتهد وناقل، ممثل ومُتفرج.. ويحدث أن تختلط الأوراق) ص47.
يقول الروائيّ (هاشم غرايبة): (لقد سمعتُ بعض الأفكار تصدُر مباشرة من غجريّات في أماكن مختلفة، ومخيمات مُتباعدة، وصُغتُ بعضها اعتمادًا على الملاحظة والمقارنة والمقاربة) ص46.
وقد ارتأى (هاشم غرايبة) أن يخلُص إلى نتيجة بحثه الدائم بدأب واجتهاد ميدانيًّا تارة، وأخرى في التنقيب في المراجع والأبحاث التي كتبت عن الغجر، رغم قلّتها وندرتها، وخلص إلى ابتكار مُدوّنة أسماها (وصايا الغجر)، وتلخّصت على النحو الآتي:
- (لا تتعالى..؛ فالشمس أعلى.
- لا تُعانِدِ الرّيح.. واقْبَل بالمكتوب.
- لا تُتعب نفسك إلّا ليومك؛ فالرزق محسوب.
- لا تتعلّق بمخلوق؛ فالعاشق خانق مخنوق.
- لا تحبس الدّمعة عن سُخونتها، ولا الضِّحكة عن بهجتها.
- لا تسرق.. إذا اسْتطعتَ أن تشحد.
- لا تقبل العَوَض عن خَسارة) ص٤٥-٤٦
وهذه النّصوص المُلتقطة بحسّ الكاتب والأديب الروائيّ؛ فقد صاغ مما سمع ورأى وعايَنَ مقولات ربّما اختصرت جوانب كثيرة من حياتهم، وأضاءت ما خَفِي عنهم، وحسب رؤيته، كتب: (هذه النصوص التائهة بين الشكل السرديّ، والإيقاع الشّعريّ تتفلّت من يقينها، وتُهوّم في فضائها الحُرّ مثل أرواحهم. صور من حياتهم اليومية تخفي في طياتها رؤيتهم البوهيميّة للحياة، وتَوْقِهم للانعتاق من كلّ قيد، والفرار من أي إطار) ص 46.
-(هذه النّصوص التّائهة بين الشّكل السّرديّ والإيقاع الشِّعريّ تتفلّتُ من يقينها، وتُهوّمُ في فضائها الحُرِّ مثل أرواحهم، صور من حياتهم اليوميّة؛ تُخفي في طيّاتها رؤيتهم البوهيميّة للحياة، وتوقهم للانعتاق من كُلّ قيْد، والفرار من أيّ إطار) ص46.
هذه هي فلسفة الكاتب فيما ذهب إليه بعد استقرّ به الفكر على شيء يستطيع كتابته فيما أسماه (ديوان الغجر)، لما لمس من الضياع والتشتّت لدى الغجر (النّوَر)، وما لحق من ظلم اجتماعيّ ماديّ ومعنويّ، فيقول: (البشريّة قدّست مُدوّناتها المثيولوجيّة؛ فلا نجد عند الغجر نصًّا مُقدّسًا، ولا حكاية مركزيّة تُمجّد الأجداد والجدّات) ص9.
كلّ تراث الغجر (النّوَر) هو تراث شفاهيّ لم يُدوّن منه شيئًا، أسوة بباقي المُجتمعات الإنسانيّة؛ للأسباب الآنفة الذّكر، يقول غرايبة في هذه النُّقطة بالذّات: (نجدُ حكايات وأشعارًا وأمثالًا، وسلوكيّات وقِيَم وعادات وتقاليد مُشتركة، تُشكّل نمط عيش مُقدّسًا عندهم، تحرسُه "لعنة مُقدّسة"، أو "نعمة خفيّة" لا نُدرك سِرّها) ص9. و (لهم حكايات شفويّة مُتحرّكة عابرة للزّمان والمكان، لا تُكلّلها هالة من القداسة، لا يُؤبّدها التّدوين، لكنّها تُعبّر عن عواطفهم ومخاوفهم، هواجسهم وآلامهم، أحزانهم وأفراحهم، مراثيهم وفلسفتهم) ص9.
لاشكّ بأنّ كتاب (ديوان الغجر) علامة فارغة في الكتابات الأدبيّة التوثيقيّة في هذا المجال الخصب المليء والزّاخر بالموادّ التي من الممكن أن تكون مُلهمًا للكُتّاب والأدباء للخوض في الجديد غير المطروق سابقًا على الإطلاق، وما زال هذا الميدان بِكرًا يحتاج للكثير من التوثيق الدّقيق من خلال الدّراسات الميدانيّة على أيدي الأكاديميّين المختّصين في مثيولوجيا الإنسان.
عمّان –الأردنّ
ــــــــــــا 27\ 12\ 2020