الكتابة أسمى مراتب العشق /نورالدين السد الكتابة قرار يتم عن وعي وإدراك من إنسان راشد، وهي منجز مادي، وفعل ذهني، وحدث في الزمان والمكان، وهي تسجيل شخصي لحفظ للقادم من الأيام، وهي شهادة من إنسان، واعتراف واقعي أو تخييلي، وترجمة لروح وثابة ، وإرادة خلاقة، وتصميم على النفاذ إلى الأعمق في الحياة، و تسرب منمق إلى ما بعد الحياة، الكتابة هيام، وخطف ومحبة ، وتشوف لخفايا الوجود ، وعشق قدسي الرؤى للحروف، واشتهاء جنوني لتشكيل عوالم لا عهد لها ولا معهود ، الكتابة مراودة أبدية، وانتفاضة معرفية، واحتفاء أسطوري باللغة، ومساءلة وجودية لكل المنجز الإنساني، وتوق عبقري إلى كشف المحجوب والمتواري عن الإدراك، الكتابة إنشاء لتجارب لم تعشها الذات، وفهم عميق لما عايشته ، الكتابة ليست رصفا مسطحا للكلمات، وليست تنميقا هشا للعبارات، الكتابة مكابدة ، و خلق ، ولحظة انبثاق إلى عوالم الإبداع ، ورحلة أبدية إلى ملكوت الجمال، الكتابة إن لم تكن فرادة وتميز؛ تظل في عداد العادي الذي لا يدهش ولا يثير ، بل تصنف في عداد الموات، الكتابة ليست نسجا باهتا أو تركيبا مألوفا للسائد من الكلمات، ولا تدبيجا مكرورا للشائع من الجمل والمأثورات ، ولا تنسيقا بديعيا للعبارات، الكتابة تشكيل جديد للصور، وخرق فني لمألوف البلاغات، الكتابة الجديرة بالتوسيم في سجل الخلود تخلخل الفكر، وتنير العقل، وتسائل المحضور، ولا تخنع لسلطة إلا سلطتها ، الكتابة امتلاك شرعي للغة وتطويع للقدرات ، الكاتبة براعة وتفعيل للملكة، واستنفار للمكبوتات والمسكوكات والمتوارثات ، وتحريض للعقل ليستقرئ ما فات، ويستنطق الحاضر، ويستشرف الآت، ، الكتابة المبدعة توظف الراهن لتغوص في تفاصيل القادم، وتقتنص شفيف الومضة في الأحداث، وتوغل في مجاهيل الأمكنة والوقائع والمسارات، تكيف المسافات ، وتتحسس النشوة في أدق التجارب، وتقبض على العابر من اللحظات، وتأسر بوعي وإدراك ما تعايش الذات من خبرات، الكتابة مراس دائم وتفاعل بين الذات والموضوع إلى حد التماهي، وهي فناء أصيل بين الكاتب والمكتب، فناء لا يضاهيه إلا فناء العاشق في المعشوق، فإذا بلغ الهيام هذه المراتب تأتي الكلمات تتهادى مفتونة إلى الكاتب كأسراب من عوالم نورانية، تتغنج عازفة لحونا قدسية، تأتي مترنمة بدافق المحبة والشوق، فتكون مطواعا للبوح والإبانة، وتصير في الشكل الذي يراد لها أن تكون ، والكاتب المقدام في هذه الحال يكون سيد المقام، وفارس الأحلام لعرائس الكلمات، وهي نشوى بما لها من فاتن الأداء، وشهي العطاء، وعذب الاندماج، والكتابة في هذه الحال هي بصمة الإنسان في جبين الزمان، وتدوين لما أوتي من رؤى، وتجسيد لما أدرك من فهوم لأسرار الوجود، وتشوف لما بعد الوجود، الكتابة تجريب طوعي، واختيار إرادي، ووعي مسؤول بما يحف الذات الكتابة من مخاطر وما تتوجس من محاذير ، الكتابة توق أبدى إلى الحرية، في أبعادها الرمزية والواقعية، وفي أسمى مثلها الإنسانية، الكتابة مغامرة محفوفة بالخيبات ، ومعارك متوجة بالانتصارات، وهي سجل ما يراود الذات من أفكار، وخطف جليل في ساعات من ليل أو نهار، الكتابة انبثاق عجائبي من الأحلام، والمسكون بها مهووس بأفانين القول على غير منوال ، ومخطوف بضروب الإبداع على غير مثال، إن الكتابة التي لا تقدم جديداً، كتابة باهتة لا روح فيها، ولا إبداع، ولا تضيف إلى رصيد قارئها معرفة، ولا تنقل إليه تجربة، ولا تنير أمامه دربا ، ولا تهز له مشاعر ، ولا تثري له فكرا، ولا تمنح له متعة أو فائدة، ونادراً ما تصادف في المنجز من الكتابات في معظم حقول المعرفة " في الأدب ونقده والسياسة والفلسفة والاجتماع وغير ذلك" ما يثير الدهشة، ويصنع التميز؛ أو يقدم إضافة نوعية، شكلا وموضوعا ومضمونا أو يوحي بإقلاع إلى مرافئ جديدة في عوالم الفكر والإبداع... /نورالدين السد