لأرومة العربية (19)

اليمن

طرح أحدهم في مجلة المقتطف المصرية عام 1937 أربعة مقالات على أربع حلقات ... أسئلة مهمة ، رغم أنه مهندس زراعي ــ كحالتي ــ ولكن له اهتمامات في التاريخ، وقد اطلعت على كتاب له من جزأين اسمه (عشائر الشام) يقع بأكثر من 800 صفحة، وهو كتاب مرجعي ومفيد للهواة والباحثين ...

تساءل (أحمد وصفي زكريا) بعد أن قدّم أن اليمن لم تكن تنقصه معرفة بفنون البناء وإقامة السدود، والمعارف الحضارية الأخرى.. تساءل لماذا أخبار اليمن المدونة لا تصل إلا للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، في حين أن أخبار مصر والعراق تصل للقرن الأربعين قبل الميلاد؟

وتساءل أيضاً، هل الهجرات التي انطلقت الى بلاد الشام والعراق ومصر(العموريون والأكديون والكنعانيون والآراميون الخ) هل هي مقتصرة على نجد والحجاز، أم أن اليمن مشمولة بتلك الهجرات؟

ولماذا يهاجر أهل اليمن وبلادهم المعروفة بالسعيدة، هل ضاقت البلاد بأهلها؟ أم حصلت تغيرات مناخية قللت نسبة هطول الأمطار بحيث لم تعد خيرات بلاد اليمن تكفي قاطنيها ؟

يجيب طبعا المؤرخ عن تلك الأسئلة ويبدو أنه من خلال تهميشه للمقالات كان قد اطلع على بحوث مؤرخين عالميين مثل: (هيرودوتس و استرابون وديودور) وإخباريين ومؤرخين عرب أمثال (الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن قتيبة وابن الكلبي وابن خلدون)

كما يشيد بالمعلومات التي استقاها من الفيلسوف اليماني المتوفى في القرن الرابع الهجري (أبو الحسن الهمذاني) صاحب الكتابين الشهيرين (الإكليل) و (صفة جزيرة العرب)...

لكنه لكي يجيب ينوه أن آثار اليمن التي تخفي أسراره موجودة في الأراضي المنخفضة التي طمرتها الأتربة، أو في خرائب يقطنها أو يقطن حولها أناس يتوجسون من الغرباء فيقتلوا المستكشفين الآثاريين أو يمنعونهم من الوصول الى منابع الآثار ...*1

[] [] []
(( كان اعتقادنا في الماضي أن أقدم المراكز الحضارية في العالم هي مصر وبلاد الرافدين ، أما الآن فقد اتضح أن اليمن من أقدم المراكز الحضارية في العالم)) [بوخنر] *2



في عام 1781م أوجد مستشرق نمساوي اسمه (إيشهورن) مصطلح الجنس السامي (Semitic Race) واللغات السامية (Semitic Languages) نسبة الى سام بن نوح الذي يذكر في التوراة في سفر التكوين، أن الأقوام الذين عاشوا في جزيرة العرب والأقطار المجاورة لها هم من ذريته...*3

وهي تسمية ليس لها سند من تاريخ وعلم الآثار*4 ومن العجيب أنها انتشرت بين علماء الغرب وسرت الى مؤرخي العرب وكتّابهم بطريقة العدوى الاقتباسية المعتادة، مع أن تسمية الجنس العربي واللغات العربية هي على كل حال أصح منها، لأن موطن الأقوام التي سميت بها أي الكلدانيين والعموريين والأشوريين والأكديين والآراميين والكنعانيين والمصريين والعرب القدماء والمتأخرون في جنوب الجزيرة وشمالها هم يعودون لنفس الأرومة*5

لم يكن العرب قبل الإسلام مهتمين بالتاريخ، كما أصبحوا بعد الإسلام، وهذا مما يصعب مهمة من يبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو إن أراد معرفة أخبار الأقدمين، فسيواجه سيولا من الحكايات غير الموثقة، أو أنه يستعين بما كتبه المؤرخون الأوروبيون، الذين لا تخفى على القارئ ما يضمنه أكثرهم من أحكام مسبقة لا تتصف بالعدل والنزاهة في أكثرها...

اللهم إن الأخبار الموثقة، كانت تأتي من النقوش العراقية أو المصرية القديمة، والتي لا تخلو هي الأخرى من تمجيد للذات وتقليل أهمية من يكتبون عنه..

في الحديث عن اليمن، علّل العلامة جواد علي صعوبة، تتبع تاريخ اليمن، وعزا ذلك لأن اليمنيين لم يكن لهم تاريخ متسلسل كالعراقيين والمصريين القدماء، فهم يؤرخون لحدث كانهيار سد مأرب مثلا، أو تولي شخص ما الحكم كأن يقولوا (بعد حكم فلان بكذا (خرف) أي عام....

ورغم أن آخر طبعات المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، كانت في بداية التسعينات من القرن الماضي، إلا أن صاحبها لم يزعم أنه يعرف عن تاريخ اليمن إلا حوالي اثنا عشر قرناً قبل ميلاد المسيح عليه السلام...

[] [] []
ساد اعتقادٌ بأن اليمن هو البلد التي انطلقت منه الحضارات، بل وحتى البشرية جمعاء، لكن هذا الاعتقاد، هو أقرب للشعور منه الى الاعتقاد، وإن كان من يحمله يزكيه لمرحلة اليقين...

ما الذي جعل أصحاب ذلك الشعور بتبنيه؟ وما هي الدعائم التي استندوا إليها؟

1 ــ إن آخر التحولات الجليدية، قد كانت قبل عشرين ألف سنة، إذ بقيت كتل الجليد تغطي الكرة الأرضية من قطبيها الشمالي والجنوبي، تاركة مسافة ألف وخمسمائة كيلومتر عند منتصفها، أي حول خط الاستواء تقريبا... وقد أسمى العلماء هذا الحزام بحزام (بيرنيفا) أي الحزام الذي لم يتعرض للعصر الجليدي طيلة عمر الأرض*6
وعليه لا يمكن أن تكون الحياة الأولى للبشرية إلا من تلك المنطقة، الممتدة من جزيرة العرب الى بلاد الشام وشمال إفريقيا الى القارة الأمريكية الجنوبية كولومبيا وشمال البرازيل وما حولهما...
لكن علماء الآثار وبطرقهم الحديثة من خلال الفحص الإشعاعي وجدوا أن أقدم الآثار الدالة على بدايات البشرية، ظهرت في اليمن وسوريا والعراق والأناضول*7
2ــ إن اليمن يقع على مقربة من الأحقاف، وهي منطقة قريبة من الجبل الذي يُعتقد أن (سفينة نوح) قد استقرت فوقه، والذين يعتقدون بذلك، يبررون اعتقادهم بأن أنهار العراق تجري من الشمال الى الجنوب وليس العكس، فكيف ستتجه السفينة التي انطلقت من (أور) من الجنوب الى الشمال وترسي في تركيا؟

كما أن هنالك وادي الأحقاف والحقف هو الكثيب الرملي، وقد ذكرها كل من: شمس الدين المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) وذكرها ابن خلدون ومعظم الكتب العربية والإسلامية المهتمة بالتاريخ...
كما ذكرها الله تعالى بسورة (الأحقاف) وفيها قصص نبي الله هود عليه السلام، وعاصمتها أو حاضرتها حضرموت ...*8

[] [] []

واليمن الذي تبلغ مساحته 555ألف كم2، وسكانه في الوقت الحالي يقترب عددهم من الثلاثين مليون نسمة، وتضاريسه منها الجبلية العالية كثيرة الأمطار، ومنها الصحراوية وشبه الصحراوية والتي تقل أمطارها عن 100ملم... كثرت فيه قديما من الدول والممالك التي كانت أحياناً مجتمعة وموحدة بدولة واحدة أو متحالفة أو منفردة أو أحيانا متخاصمة ومصرة على تصفية غيرها منها:

وقد ذكر المؤلف الفرنسي ماكسيم رودنسون، في تجميعه لما كُتب عن اليمن قديماً بأنه في عهد الإسكندر المقدوني كان هناك أربع دول في اليمن هي: معين وعاصمتها قرناو، وسبأ وعاصمتها مأرب، وقتبان وعاصمتها تمنع، وحضرموت وعاصمتها شبوة... وذكر في كتابه أن الملك في الدول لا يخلفه ابنه بل أول أبناء الأعيان ممن ولد بعد تنصيب الملك، ويتم تبنيه من الملك وتتم رعايته كولي للعهد*9

وينفرد الدكتور جواد علي في الجزء الأول من موسوعته المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام بذكر مدينة أو دولة اسمها (كمنهية أو كمنهو) وذكر عن طريقتها الديمقراطية في اختيار ما سماه ب (المزود) حيث يكون ممثل عن كل عشيرة وممثل عن كل حرفة وممثل عن كل ديانة (عبدة الشمس أو القمر أو سهيل) وينتخب هؤلاء حاكما ويدونوا قوانينهم على مسلات في أبواب المدينة ليطلع عليها الزائر أو التاجر *10

المراجع:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*1ــ أحمد وصفي زكريا/ اليمن ما قبل وما بعد الإسلام/ القاهرة مجلة المقتطف أعداد شهر أكتوبر/تشرين الأول 1937
*2ــ تصريحات ( البروفيسور إدموند بوخنر) رئيس معهد الآثار الألماني لصحيفة الثورة اليمنية عدد 12/4/1986 أورده محمد حسين الفرح في كتابه (تاريخ صنعاء القديم) الصادر عن وزارة الثقافة والسياحة اليمنية 2004م
*3 ــ من الساميين للعرب/ الشيخ نسيب وهيبة الخازن/ بيروت/ مكتبة دار الحياة 1962
*4ــ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ جامعة بغداد/ ج1 صفحة 149...
*5ـــ تاريخ الجنس العربي/ محمد عزة دروزة/ صيدا/ الجزء الأول ص17
*6 ـ أ.د. أحمد داوود/ برنامج (تاريخ الحضارة) عرض على تلفزيون الديار (العراق)... ويمكن إيجاد كل حلقاته على (اليوتيوب)...
*7ــ المصدر السابق
*8ــ الإتحاف: مقدمة تاريخ الأحقاف/ العلاّمة الفقيه محمد بن علي بن زاكن باحنّان الأشعثي الكندي/ دار باحنان /اليمن ــ حضرموت ــ بريم 2017
*9 ــ بلاد اليمن في المصادر الكلاسيكية/ وزارة الثقافة اليمنية/د.حميد العواضي و عبد اللطيف الأدهم/ صنعاء 2001
*10ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ جامعة بغداد/ ج2 صفحة 76...