رضوى الطنطورية... تنظر من بعيد، وتحطم جدران الخزان!

لا أذكر آخر رواية بكيت أثناء قراءتها، ولكنني، بعد ربع قرن من القراءة المتنوعة، وعلى الرغم من أنني أقرأ الطنطورية للمرة الثانية عقب قرابة عشر سنوات من القراءة الأولى، بكيت مرتين!

تقول "الست رضوى" أن فكرة الكتابة عن المأساة الفلسطينية ظلت تطاردها وتلح على قلمها لسنوات، حتى جاءها وحي الاستهلال، فقررت أن تكتبها بعدما جاوزت الستين، وبحسب وصفها، فقد أرادت أن تنتهي من هذا النص المؤجل، قبل أن ترحل عن عالمنا. ولعلها كانت على إطلاع بأحكام القدر، وتستشعر قرب النهاية، فجاءت حكايتها كزفير أخير، باحت من خلاله بحكاية تكتظ بكل أنماط التأجيل والتسويف.

رقية الطنطورية، جسد فلسطين الحي، تحمل حقائب الذاكرة، وتمضي بها بين بلدان العرب، مطرودة، نبيذة، أو مجبرة، كأي مهجّر لم تمنحه الحياة حق الاختيار. وحقائب رقية حافلة بالمآسي والذكريات المؤطرة بالغياب، فهي تحمل في جعبتها صورًا من مذابح اليهود وطرد الفلسطينيين في ١٩٤٨، وصورًا من مجازر صبرا وشاتيلا، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام ١٩٨٢. أقرأ؛ فتتلون الكلمات أمام عيني بحمرة الدم، أتأمل الشتات الفلسطيني، والعائلة التي تناثرت كما الهشيم فوق خريطة غابت عنها كلمة فلسطين، ينفرط العقد فتتدحرج المصائر بين القارات بغير اتساق أو اتفاق، ولكن رقية الطنطورية، كما هو حال عشرات الآلاف، تحتفظ بمفتاح دارها، تعلقه فوق نحرها ليمتزج بلحمها، حتى تورثه لحفيدتها، رغم علمها بأن الدار قد هدمت، وأن الحقول قد سرقت، وان الاسم قد ذاب على عتبات النسيان.

تفقد الطنطورية، نسبة إلى قرية الطنطورة على ساحل فلسطين، الأب والشقيقين في اجتياح ١٩٤٨، فتمضي إلى لبنان، وكأنها مكلفة بتتبع آثار المذابح، مقدور لها أن تشم رائحة الدم الطازج، والبارود الساخن، لتفقد زوجها الطبيب في مستشفى عكا خلال الاجتياح الإسرائيلي وجرائم صبرا وشاتيلا التي تفرق دمها بين عصابات الصهيونية وكتائب سعد حداد، يتسرب من بين كفيها حق العودة، تمامًا كما تحرص على تسريب أبنائها بعيدًا عن بؤر الدمار، ليرتحل صادق إلى أبو ظبي، ويسافر حسن إلى مصر ليلتحق بجامعتها قبل أن يشد الرحال إلى كندا، ويظل عبد الرحمن مقاومًا شرسًا لفترة طويلة، حتى يجئ رحيله إلى فرنسا ليكون بمثابة مهادنة لنفس ثائرة على طول الخط. الصبية الثلاثة، الذين صاروا رجالاً، يقاومون النكبة بدورهم، كل بطريقته، صادق الثري، ينفق على أطفال مخيمات لبنان، ويتبنى بعضهم في رحلة التعليم الجامعي، وحسن يكتب عن الحكاية كي لا تُنسى، ينزف القصة فوق الورق، مقالات وروايات، ويطلب من أمه الطنطورية أن تكتب تفاصيل الحكاية، فتمنحنا هذه الرواية. أما عبد الرحمن، فقد قرر أن يسلك طريق المطالبة بالحقوق عبر المحاكم الدولية، وبذلك؛ ظلت المقاومة مستمرة، وإن تشردت العائلة بين قارات العالم.

مريم الصغيرة، التي تبناها أمين زوج رقية بعدما أفنت الحرب كامل عائلتها، تظل برفقتها، تراقب كل منهما تطورات الأخرى، دون أن تخبرنا الكاتبة إن كانت مريم على دراية بحكايتها الأصلية، أم أنها اقتنعت بكونها جزء من عائلة الطنطورية، وجدت "الست رضوى" في الأمر تفصيلاً هامشيًا، فوحّدت بين الفاجعتين، الفلسطينية واللبنانية في جسد واحد، أحدهما يورث الآخر تاريخ النكبة، والثاني يضيف إليها نكبته الخاصة، دون فصل بين هويتين عمدت الكاتبة إلى صهرهما أسفل سقف الحكاية، لأن الواقع يوثق وحدة المرويتين، ولا يصنفهما حسب الجنسية وجوازات السفر.

ما بين صيدا، ولبنان، وأبو ظبي، فالإسكندرية، ثم العودة إلى صيدا، نعيش مع "الست رضوى" حكاية نكبة الطنطورية، متبوعة بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، تنبش رقية الشواطئ بحثًا عن شاطئ الطنطورة، ولا تجده، فالبحر هنا حاضر كرمز للوطن المسلوب، الذي لا يمكن استبداله بمحيطات العالم. أعرف أننا قرأنا كثيرًا عن النكبتين، الفلسطينية واللبنانية، وأثق أن أطنانًا من الحبر قد انسكبت عبر السنوات مُشكّلة ملايين الحروف حول ذات الحكاية؛ روايات غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإلياس خوري ومرويات الملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله، وروايات متعددة لجمال ناجي ويحيى يخلف وتيسير خلف وحسن حميد وليلى الأطرش على ما أذكر، كما أضيف إلى ذلك روايات لأمين معلوف وهدى بركات ونجوى بركات وسوزان أبو الهوى، وربيع جابر ونازك سابا يارد. كل هؤلاء وغيرهم، صاغوا ملاحم روائية خالدة عن نكبة الفلسطينيين ومأساة لبنان على حد سواء، ولكن؛ ما هو المختلف في حكاية "الست رضوى"، المصرية، وزوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، عن حكايات الآخرين؟!

واقع الأمر أنني لا أقدر على وضع صيغة مناسبة لإجابة واضحة مفسرة لوجه الاختلاف، ولكنني مع كل هذا الكم من القراءات، ومع مرارة الهزيمة وقسوة الانكسار ولوعة الفقد والتهجير القسري، لم يبكني نص كما أبكتني "الست رضوى" مرتين خلال قراءتي لحكاية رقية الطنطورية، المشهد الأول كان استقبال رقية لمكالمة هاتفية من صديقتها وصال، بعد سنوات من الغربة والانفصال القسري عن رفيقة طفولتها، قالت رقية: "وصال؟" ثم انفجرت لتفرغ ما اختزنته من الدموع طيلة السنين التالية للنكبة حتى أنها لم تنطق حرفًا واحدًا بعد كلمة "وصال؟"، وبدوري؛ بكيت معها ما اختزنته خلال قراءتي للفصول السابقة. المشهد الثاني الذي أسال دموعي، جاء في فصول الختام، عاد حسن إلى فلسطين، وعادت أمه رقية إلى صيدا، فالتقيا مصادفة على الحدود، ليجمعهما عناق عبر أسوار شائكة، فتعرف رقية أن حسن قد أنجب ابنة أسماها رقية، تحمل الجدة حفيدتها عقب تمريرها من بين الأسلاك، ثم تخلع من على جيدها الحبل الذي تُعلق فيه مفتاح دار تهدمت، وتضعه حول رقبة الرضيعة، وكأنها تمنحها آخر قطعة حية من جسدها، ليبكي حسن، وأبكي معه!
تهدمت الدار؟ ربما.؛ ولكن الأمل باقٍ، والمفتاح سيورثه جيل إلى جيل، حتى لو كان المفتاح بلا باب، والباب بلا دار، والدار بلا أرض، المفتاح رمز العودة، وقلادة الهوية.

مزجت "الست رضوى" بين الواقعي والمتخيل، فشيدت حكاية من وحي الخيال على أسس الوقائع التاريخية، وطرزت حكايتها بحضور عابر لشخوص من لحم ودم، مثل غسان كنفاني، ناجي العلي، بشير الجميّل، أنيس الصايغ، بيان نويهض، معروف سعد، وغيرهم، تتقاطع مصائر هؤلاء بمصائر عائلة رقية، لتوثق حكايتها وتمنحها مصداقية مضافة، تمامًا كما تستدعي سطورًا من الأوديسة، ومن رواية رجال في الشمس، مؤطرة برسومات ناجي العلي. تكتب رقية تنفيذًا لطلب حسن، ورضوخًا لإلحاحه، وكأنها تنفذ قولاً مأثورًا للكاتبة، إذ تقول "الست رضوى" في كتابها "أثقل من رضوى"، الجزء الأول من سيرتها الذاتية؛ "الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية"، وعلى مأساوية الحكاية التي تدمغها الحقائق ويوثقها التاريخ، ترفض "الست رضوى"، من واقع إيمانها بدورها كمدرسة، أن تغلف الحكاية بثوب حداد قاتم، أو أن تغرقها في تصور سوداوي للقادم، فيكون انتقال المفتاح من رقية الكبيرة، إلى رقية الرضيعة، فلسطين الأمس إلى فلسطين اليوم؛ بمثابة كوة أمل تنفتح في جدار المأساة.

في روايتها الأخيرة، الطنطورية، مارست "الست رضوى" كذلك نوعا من التنويع في تكنيك الكتابة، فهي تكلف رقية بدور الراوي الممسك بمقاليد السرد عبر ضمير المتكلم، إلا أنها تتوقف في بعض المطارح من القصّ، لتغير زاوية الكاميرا عبر تنحية ضمير المتكلم بعبارة مفصلية تكررت كثيرًا: "أنْظُر من بعيد"، لتجعل رقية تروي عن نفسها بضمير الغائب، وكأنها تصف أحدًا غيرها، تنفصل عن جسدها، وتقف على مسافة ثابتة منه، فتقص وتروي وتصف وتناقش وتعارض، مانحة للنص السردي تنويعًا جذابًا عبر ابتكار زاوية مختلفة للقص، عبر ذات الراوي. علاوة على ما سبق؛ لو نزعنا عن الرواية غلافها ومزقنا صفحتها الأولى، لا يمكن لأي قارئ، مهما بلغت فطنته، أن يتوقع أن من كتب هذا النص ليس فلسطينيًا، طرزت "الست رضوى" مرويتها باللهجة الفلسطينية، وزينتها بأهازيج وأغنيات من الفلكلور الشعبي الفلسطيني، هذا القدر من الإمساك بأدق التفاصيل، لا يمكن أن تكتبه امرأة لم تعايشه، هذه الشهادة التوثيقية التاريخية، لا يُعقل أن تخطها كف لم تحمل أكفان الشهداء، ولم تمسح الدم السائل فوق جباه المصابين، ولم تنبش الأرض بحثًا عن الحيوات القابعة أسفل الأنقاض! كيف فعلت "الست رضوى" ذلك؟ كيف كتبت هذه الحكاية من منزلها في القاهرة؟ سؤال لا أجد له إجابة مقنعة!

أحببتُ كثيرًا الاستهلال، ووصف الشاب/الأمل/العشق اليافع الأخضر الذي يطرحه البحر، الغلاف الذي حمل صورة حقيقية لشاطئ الطنطورة كان أضعف أثرًا من غلاف طبعة تالية حملت صورة لقرية الطنطورة، العنوان لافت وجاذب للانتباه، أحببت الحكاية برمتها، بكل تفاصيلها وقسوتها الكاشفة لتخاذل وخيانة العرب، التي يمكن وضعها جنبًا إلى جنب مع خسة الصهاينة، حكاية تسللت إلى وجداني ومست القلب بنصل واقعيتها، فخدشته، وغرست فيه شعورًا قاسيًا بالتقصير والتخاذل، كل ذلك يأتي رغم أن هذه هي قراءتي الثانية للرواية، بعد ١٠ سنوات من القراءة الأولى، تغيرت الكثير من الأشياء منذئذ، اختلفت القدرة على الاستيعاب، ونضج الوعي، فزاد من عمق الأثر.

أنهي كلماتي عن هذه الرواية الخالدة، بتوضيح بعض النقاط، أولها أن الرواية ليست مستمدة من سيرة الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي، زوج "الست رضوى"، فهو من سكان الضفة الغربية التي احتلت عام ١٩٦٧، فيما تقع الطنطورة على الساحل الفلسطيني الذي شهد اجتياح العصابات الصهيونية في سنة ١٩٤٨، أما النقطة الثانية التي أود أن أطرحها قبل الختام، فهي رغبة خاصة تكونت لدي حول طرح استجواب واستقصاء للوسط الأدبي العربي، عن مدى حضور فلسطين، وقضية التهجير وحق العودة في الكتابات العربية المعاصرة، وبطبيعة الحال؛ أقصد الكتابة العربية وليس الفلسطينية، فالفلسطيني مازال مهمومًا بقضيته، ولكن ماذا عن حضور القضية في أذهان الكُتاب العرب في باقي الأقطار العربية؟ هل خفت الأثر تحت وطأة الزمن واستشراء موجات التطبيع الجديدة؟ هل شُنق الأمل بدثار النسيان؟ هل تكفلت المآسي العربية الحديثة في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن بمواراة المأساة الفلسطينية بعيدًا عن نواظر القراء؟

ماذا فعلتٍ بي يا "ست رضوى"؟
فتحتِ أبواب الخزان، وحطمتِ جدرانه دقًا وصراخاً، ثم نثرتِ حبر الحكاية على جثامين قتلى غسان كنفاني، فاستردتهم الحياة، لتمنحهم حق الكلام بعد عقود من الصمت الثقيل.

رواية ينبغي أن تدرج في مناهج الدراسة الإعدادية أو الثانوية، في كل أوطان العرب، ولو على حساب كتاب التاريخ الظالم، الذي يكتفي بذكر فلسطين في هوامشه، ويمنح أغلب صفحاته لتمجيد زعماء نسجوا ثوب زعامتهم بمغزل الزيف والكذب وتغييب الوعي.

في النهاية، يتداول الكثيرون أبيات مريد البرغوثي التي نظمها في عشق زوجته "الست رضوى"، التي قال فيها:
أنتِ جميلة كوطن محرر
وأنا متعب كوطن محتل
أنتِ حزينة كمخذول يقاوم
وأنا مستنهض كحرب وشيكة
إلا أنني، ومن وحي ذكر الرواية لحكاية بينيلوبي زوجة أوديسيوس في الأوديسة، والنول الذي تحايلت به على الخُطاب في انتظار عودة زوجها من حرب طروادة، أجد أن هذه الأبيات التي نظمها البرغوثي في هوى "الست رضوى" أكثر اتساقًا مع حكاية الطنطورية:
على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
تحاول رضوى نسيجاً
وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ
وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ

رحم الله "الست رضوى"، وطيب ثراها، وجازاها عنا خيرًا

#محمد_سمير_ندا