قراءة في نص ( جسر الوصول الأخضر ) للأديبة ريما الخاني ..

نص الأديبة دكتورة ريما الخاني ( جسر الوصول الأخضر ) .
نص مؤطر بإطار واقعي طالما افتقدناه في كتابات الكثير من الادباء المعاصرين ، بعد ان عمد الكثير منهم إلى كتابة النصوص الحداثية التي ابتعدت كثيرا او قليلا عن حاضنتها الحقيقية ( الواقعية ) التي نشأت وترعرعت ونضجت القصة أو الرواية بها ..
ان النص يطرح اهم القضايا السوسيولوجية والتي تهدف الى قراءة المنظور العام للفقر بشكل محايد ، طرحت كافة العقائد المحيطة بالفقر ..
والواقعية كما ينظر لها
(( إن الأدب لا يرتبط بصورة مباشرة بالواقع ، وإنما يعكس العقائد المحيطة به )) *1
. ارى في هذا السرد جمال رائق وأسلوب شائق فالكاتبة تسبر اعماق تلك الطبقات المسحوقة وفق رؤيا إيديولوجية واضحة ، محاولة استجلاء طيبتها ومعدنها الأصيل وما يشوب سطوحها من مشوبات الواقع القاسي المفروضة على الفرد والمجتمع ..
فهناك من يدافع عن لقمة عيشه وأخلاقياته وقيمه ومسؤولياته الانسانية رغم القساوة التي يعيش فيها ويحاول أن يثبت امام عقبات واغراءات الحياة .


فمنهم من لا يقاوم فيسقط في اشراك اعدت لهم لا يمكن الخلاص منها .. وهناك من يجد نفسه مجاهدا كمن يخوض في بحر لجي فيحاول الوصول إلى أحدى الحسنيين أما بلوغ بر الأمان لينقذ قيمه واخلاقه ومفاهيمه .. اوإدراك النهاية الموت الذي ينقذه من عذاباته ،رغم إن الإنسان مجبل على الدفاع عن ذاته وحبه للبقاء ..

و في الطرف الآخر اناس يعيشون على الضفة الأخرى يرقبون الأحداث بمنظارهم الخاص منتقدين بحكم الموروث طباع هؤلاء أو أولئك وتصرفاتهم يلومونهم على تضحياتهم وصبرهم على سغبهم ، أو ينتقدونهم على سقوطهم ..
متناسين انهم جزء من هؤلاء وان الظروف هي الكفيلة بخلق سجايا وقيم تختلف من شخص لآخر .. فمحركات الوعي والاخلاق يمكنها ان تتغير وفق الظروف البيئية والاقتصادية للمجتمع .. نعم هناك روادع اجتماعية ودينية وقانونية لكنها قد لا تصمد امام الحاجات الفعلية للفرد .. وكلما كان ذلك الفرد مسؤولا عن افراد يجد لنفسه العذر والمبرر في أن يغير سلوكه من حال إلى حال ..
وليس الفرد يمكن ان يرتبط بهذا السلوك او ذاك فقط ، بل قد يكون سلوكا جمعيا ..
فأخلاق الامس ليست كما هي عليه اليوم .. و مفاهيم الأخلاق تختلف من مجتمع إلى آخر ومن بيئة لأخرى لذى اشار علماء الانثروبولوجيا الجدد إلى ضرورة الربط بين البيئة والسيكولوجيا والحالة الاقتصادية للمجتمع لاعداد دراسة مكتملة ..

((ما زلت أهذب له ذقنه، فهو لم يعد قادرا على النهوض، نعم ..لم يعد قادرا على إعالتنا بعد الآن، فقد وقع من على البناء وهو يعمل في الإسمنت والحجارة، فانكسر ظهرُه، وانكسرت حياتي معه ))
من هنا تبدأ الحكاية .. فقد فضحت الكاتبة روح النص بهذا المدخل .. والذي وإن بدا لي دخولا مباشرا قد عرف القاريء بحقيقة ما بعد ذلك قبل قراءة احداث النص والتي قد يكون محتواها غير مختلفا عن اطار البداية ..
ومثل هذه البداية قد تكون مشجعة للبعض لسبر اغوار النص و قراءته بشغف .. وقد تكون معيقة للدخول إلى متن لأن هناك من لا يقبل بالدخول دون ممهدات تحرك منظومة خياله .. لكن القراءات المسبقة قد لا تعطي تحليلا دقيقا للنص .. لأن تقنيات الكاتب قي السرد قد لا تقف عند حدود معينة ومحددة ..
من الوهلة الأولى يتضح للقاريء أن المعيل الذي كان يعيل الراوية البطلة قد فقد أهليته في قدرته على العمل وإعالتها ..
وتجد المعادلة جاهزة في حديثها ( انكسر ظهره .. فانكسرت حياتي معه ) نعم في مجتمعات مثل مجتمعاتنا تجد المرأة مرتبطة ارتباطا كليا بالرجل فهو المعيل وهو المسؤول الأول وهو القوام على المرأة .. لذا فان انكسار ظهره معناه . قعوده في البيت معاقا وبالتالي فهو انكسار في حياة المرأة التي اعتادت أن تأخذ وتعطي فعليها الآن وبعد أن اقتعد زوجها الفراش العطاء فقط .. ويذكرني ذلك برواية الحرام للأديب يوسف ادريس .. حين يصاب عبدالله بطل القصة بمرض يقعده عن العمل .. لكن عزيزة زوجته تكافح من اجل بقائها وتعمل من اجل اعالة زوجها المقعد لتقع ضحية تحرش جنسي وهي خارجة للحقل .. وتلد طفلا من الحرام ..
وهذا ماتعكسه هذه القصة ان المرأة في مثل هذه المجتمعات يمكن أن تكون فريسة سهلة للمتربصين بها . ومهما كانت ضحية ومغلوبة على أمرها فهي بحكم المجتمع ( مجرمة ) وهي ماتعبر عنه البطلة في منولوجها الداخلي ..
حين تبيع حوائجها ومدخراتها لتعين حالها وحال زوجها المعاق تجد الألسنة تتعرض لها .. ويأتي تساؤلها للرد على تلك الألسن وهي في قمة يأسها واحباطها .. هم يقولون ذلك بالعلن اما هي فتواسي كلوم نفسها بتلك التساؤلات وهي تتحدث إلى ذاتها ..
( مالهم ومالي.؟ نعم مالهم ومالي؟...هل يرضيهم أن أشتهي الرجال؟، )
نعم كثيرات هن النساء اللواتي سقطن بسبب العوز المادي ، أو لفقدان الرجل المعيل سواء أكان ذلك موتا أو إعاقة أو فقدانا في الحروب (وإن لم تشر له الكاتبة ضمنا ) ، تلك الحروب التي غطت بسحبها الكأداء سماء اوطاننا وتركت لنا مئات الألوف من المعاقين والأرامل واليتامى , و كل ما يتبع هذه الحروب من إسقاطات وتداعيات سيكولوجية .. وشل لحركة الأقتصاد وتدهور ثقافي واجتماعي واخلاقي ..

يتداخل السرد .. في بعض المواضع .. ويصيبه بعض الغموض في مواضع اخرى .. حين تسرد الكاتبة بلسان الراوية البطلة فتقول بحوار ذاتي (قبل أن أتزوج به وأغطي طلاقي القديم العقيم، بعد أن توفي لي زوجا يكبرني بعشرين سنة؟ ) هم ثلاثة رجال فهي
ارملة رجل كان يكبرها بعشرين سنة
وهي مطلقة من رجل تصف لنا اخلاقه وطباعه من خلال دفتر مذكرتها الذي مزقته .. وهي زوجة لرجل ثالث كان زواجها من هذا الرجل رغم الفقر المدقع الذي كانا يعيشاه إلا انه ستر لحالها وانقاذا لها من حالة التشرد و حتى تكف الالسن عن رميها ..
ورغم ان الراوية لم تحدد لنا من الشخص الذي تشكو إهماله ، وقسوته وهمه على بطنه ، رغم أنها تعمل ليل نهار ، لكن بالعودة قليلا للوراء يتبادر لذهننا ان المقصود هو طليقها ..
والذي قادها إلى طريق طالما قاومته .. وثبتت امام مغرياته قبل زواجها منه .. فتعاتبه
(ولكن...أين كنت يا زوجي.. عندما كنت أشتهي الرجال في الطريق؟ )
وانا هنا .. اعارض استخدام كلمة ( اشتهي) لأن كلمة الاشتهاء تأتي من الرغبات الداخلية .. والإرادة الذاتية ولا تأتي من حالة الاضطرار التي ارادت ان تصورها الكاتبة .. واستخدام الكلمتين في الاولى ( أيرضيهم أن أشتهي الرجال )كان موفقا لأنه جاء بناء على ارادتها فيما اذا طاوعت حديثهم . اما في الاستخدام الثاني .. فهو لا يتفق وموضوع النص لأن الاضطرار هو من قاد البطلة إلى مثل هذا الفعل ..
وتأتي النهاية ..
حلا لكل تداعيات المرأة ونكوصها .. وفي نفس الوقت انقاذ لها من حالة العوز الذي اطر حياتها ..
نهاية سعيدة وغير صادمة لكنها الحل المثالي لكل المجتمعات الإنسانية إذا ما أرادت أن تبني الإنسان ..
كحكمة ونصيحة وكبرنامج للحياة تبنت حديث امرأة كانت تعمل عندها

-الهزيمة للشجعان فقط، الجبناء لا يخوضون المعارك.
-أنت مكلف بالسير نحو هدفك، لا بالوصول إليه
وكحل اقتصادي هو عملها كخياطة عند ام حياة ..
ولو انها حلول غير مضمونة كون الدولة او نظانم الحكم غير معنيين بهذه التحولات ..
(ان مطمح الانسان الاساسي هو ان يجد سعادته وفضائله الخلقية وكمالاته العلمية والنظرية في هذه المدينة ( ويقصد به المدينة الفاضلة ) هذه الدولة او المدينة نظامها يقوم ضمن مايقوم على محاربة كل انواع الرذائل والفساد والقيم اللا اخلاقية وبالتالي لا تجد في هذه المدينة أي انواع من انواع الشرور والآثام والعدوان والتناقض ) *2
وهي اشارة ذكية من قبل الكاتبة إن الفكر والاقتصاد . كلاهما يسير بمسار واحد .. وكل منهما مكملا لبعض .. هي اختارت الحكمة أو النصيحة للبناء الداخلي للإنسان .. واختارت الاكتفاء المادي كمعين للفكر في الارتقاء نحو حياة افضل ..
وهي نظريات كبيرة طالما طرحها كبار علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع للعمل بها ..
تأتي النهاية مرتبطة بعنوان النص ( جسر الوصول الأخضر ) الذي جاء كأيقونة له .. وبوابة للولوج في مداخله الثرة .
مع تحياتي ..
المصادر
1* البناء الفني في الرواية العراقية بناء المنظور .. دكتور شجاع مسلم العاني بغداد ط 1 .. سنة 2012 ص24

  • اليوتيوبيا في الفكر الفلسفي .. قراءة في فلسفة المدينة الفاضلة الدكتور حسن مجيد العبيدي مجلة الأقلام العراقية العدد 3 ايلول 2015 ص 11
  • ملاجظة : اقتراح يمكن استحداث باب جديد للكتابات النقدية .. يسمى بفرسان النقد الأدبي ..