منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 20

الموضوع: نهضة اليابان

  1. #11
    الفصل الثامن: الوعي المفاهيمي في المايجي إيشين


    تقديم: ناجيتا تتسوووه/ جامعة شيكاغو/ الولايات المتحدة

    بداية لا نعرف ما إذا كان صاحب هذه المقالة أو البحث، إن كان أستاذاً أم أستاذة، لأن المترجم لم يقم بوضع صفحات تعرف بالمشاركين في هذا الكتاب، لذا فإننا سنشير إليه بصفة مجردة.

    (1)

    يبدأ الباحث بحثه بنقدٍ لاذع للترجمات العالمية حول كلمة (إيشين) المقترنة بثورة المايجي. وعند إعادته لأصولها اليابانية، فإنه إضافة لتوكيده خطأ الترجمة، فإنه يؤسس للتمهيد لتسهيل فهم تلك الثورة.

    فيقول: (إن كلمة ((إعادة)) تمثل ترجمة بالغة القصور لتعبير (إيشين: ishin) ويمكن اعتبارها بالفعل نموذجاً صارخاً للترجمة الخاطئة، وقد أثرت بشكل بالغ في نظرة الغرب الى (مايجي إيشين). إن رمز (i) في بداية الكلمة يعني: شد الشرائح المتباينة في المجتمع بعضها الى بعض، أو إعادة تجميعها. أما القسم الثاني (shin) فيعني: البدء باتجاه جديد كلياً. ولا تؤدي كلمة (إعادة) هذا المضمون الثوري أبداً. فهي تلفت ذهن القارئ فور سماعها الى فكرة إعادة السلطة الإمبراطورية بصفتها بنية سياسية واضحة كما كانت قبل الحرب كما في بريطانيا بعد كرومويل أو فرنسا بعد نابليون. والواقع أن الإمبراطور الياباني لم يكن يملك بنية سلطوية خاصة ليعاد إحياؤها، وكل مظاهر الجلالة التي أحيط بها بعد الإيشين هي نتيجة بناء أيديولوجي لدولة حديثة وليست إرثاً لتاريخ حديث.

    فالباحث يؤكد أنه نادرا بل من المستحيل أن تجري الأحداث التغييرية، أو كما يسميها (ميشال فوكو) ((البدايات))، بهكذا فجائية تماماً. إنها بالواقع نتيجة تاريخ طويل من (التمفهم الناقد). إن الباحث يؤمن بمصداقية كلام (أنتونيو غرامشي) عندما أشار الى نشاطات كهذه عبر الحقب التاريخية على أنها (جُهدٌ جَدِّيٌ مُكثف لعملية النقد). وهذا سيكون بفضل جهود آلاف النشطاء الذين يبدعون ويفكرون ويعملون ويؤثرون بالمجتمع، دون أن يلتقوا في زمانٍ أو مكان واحد في تاريخ الأمة ـ أي أمة ـ ومساحة الأرض التي تعيش عليها.

    (2)


    بعدما تجاوزت المائة من الأسماء اليابانية التي أدرجها الباحث في بحثه، ولتشابهها وصعوبة لفظها، آثرت عدم إدراجها (في هذه القراءة المتواضعة). لكنها تدلل بكل تأكيد على الجهود المتنوعة التي قام بها هؤلاء المبدعون في مجالات الفلسفة والزراعة والتجارة والرياضيات، والعلوم المختلفة، من طب واقتصاد وفلك وصناعة سفن، وأثر تلك الجهود في تشكيل الثقافة التي سادت في اليابان منذ أكثر من قرن من إعلان ثورة (المايجي إيشين).

    لقد تنوعت آراء وفلسفات كل واحدٍ من هؤلاء الرواد، لتصل في عينة من الزمن الى التضاد فيما بين رواد النوع الواحد من النشاط. فبين مبالغٍ في الهوية الوطنية وقدسية التاريخ الياباني، الى ثائرٍ على تلك القدسية، والذي يُطالب في الخروج من العزلة (الرائعة) لينفتح على العالم وينهل من مهاراته وعلومه وفنونه. وبين من يحصر تلك المهام وإناطتها بالطبقة الأرستقراطية ـ كأصحاب حق تاريخي ـ الى من يجعل هذا الحق لعوام الشعب.

    ولكن أكثر الخلافات والتضاد في الأفكار ما جاء في شأن التغيير بقوة السلاح، وبين من كان يطالب بالتحلي بالصبر، حتى جاء من يوفق بين كل تلك الاتجاهات المختلفة أو المتجادلة في تصعيد الوصول الى ما وصلت إليه اليابان عام 1868 عند إعلان القسم وكتابة الدستور باعتبار ذلك التاريخ هو خط انتصار ثورة المايجي إيشين.

    (3)

    يناقش الباحث في الجانب الفلسفي، فيقترح رسماً تخطيطياً لقطرين متعامدين داخل دائرة، وضع في أعلى القطر العمودي (المثالية) ووضع في الطرف الأسفل (التجريبية)، أما المحور الأفقي للقطر الدائري، فوضع على يمينه (التاريخ) وعلى يساره ( الطبيعة).

    ثم وضع ما يشبه التوافيق والتباديل في تأثر أتباع المدارس الفلسفية في اليابان: 1ـ مفهوم التاريخية التجريبية. 2ـ مفهوم التاريخية المثالية. 3ـ مفهوم الطبيعية التجريبية. 4ـ مفهوم الطبيعية المثالية.

    ويعتقد الباحث أن من الحكمة النظر الى ثورة المايجي إيشين بأنها نتَاجٌ منوع لنشاطات فلسفية قد تكون متضادة وقد تكون متآخية ولكنها تهادنت في النهاية لتصنع أيديولوجية يابانية، فالأيديولوجيات بنظر الباحث لا تنبثق كاملة المعالم في لحظات الأزمة بدون ارتباط بحقلٍ من الأفكار المتوافرة والمتاحة لحدٍ ما. ويصح هذا على المايجي إيشين كما على الثورة الفرنسية. إن البدايات الأيديولوجية للثورة الفرنسية كانت مزروعة في واقع فكري، زمناً طويلاً قبل أن يبدأ الفلاسفة الحوار فيما بينهم.

    في الفلسفة المثالية، يتم النظر الى المعرفة أولاً، عبر عملية استبطان يفسر العالم الخارجي من خلالها بتعابير مثالية. أما في التجريبية ـ والتي كانت الأكثر تأثيراً الى حد كبير خلال القرن الثامن عشر ـ فيجري ترتيب قواعد المعرفة عبر اختبار الأدلة الخارجية، في الطبيعة أو في التاريخ. ويتم التوافق بين العقل المدرك والمعرفة الخارجية من دون إنكار النفس الداخلية بالضرورة.

    لكن فيما يتعلق بالتاريخ، فإن النص الأساسي (حسب رأي الباحث)، الذي على العقل البشري أن يختبره، لا بد أن يكون داخل التجربة الإنسانية، أي التاريخ. ويشير الباحث الى رأي تبناه (أُغيو سوراي) الى مسألة الطبيعة، فهي بنظره لا متناهية وخارج الإدراك البشري وخارج الإدراك البشري ولذلك، لا يمكن أن تكون معياراً لتوجيه أعمال الإنسان في سيرة التاريخ.

    كان إسهام (أغيو سوراي) أكبر في تقويض سمعة الأرستقراطية. فهو رفض فكر (منسيوس: الفيلسوف الصيني الذي يحتل المرتبة الثانية بعد كونفشيوس 372ـ289 ق م) معتبراً إياه جدلاً غير موثوق، وانتقد أفكار اليابانيين الذين اتبعوه مشيراً الى عجزهم في مناقشة أسباب ظهور البنى السياسية في التاريخ.

    (4)

    ظهر فيلسوف ومفكر آخر أثر على الفضاء الذهني في اليابان في القرن الثامن عشر هو (دازاي شونداي Dazai Shundai)، فقدم للياباني (أو للإنسان) نصيحة بمثابة منهج (( إذا فشلت البنى السلطوية في العمل بموجب قاعدة التطور، اقترح (دازاي) على الإنسان أن (أ) يثور أو (ب) لا يفعل شيئاً.)) وهو عنى بالخيار الثاني ترك النظام السياسي يتهاوى بنفسه، معلقاً بسخرية أن هذا الخيار الثاني هو المعنى الحقيقي للفلسفة الطاوّية. [ الطاوية: فلسفة صينية قديمة يُسمى جماعتها بالمهديين ـ نسبة الى الهُدى المُستدل عن طريق العقل]

    لم يوافق الجميع نظرة دازاي تلك، بأن يُترك النظام لأن يتهاوى بنفسه، فمنهم من رأى أن يحدث بما يشبه (الكرنفالية ) في دفع النظام في لحظاته الأخيرة لأن يسقط بمشهد ثوري جماهيري، بعد أن يبدو للعيان أنه ساقط لا محالة!

    ركز علماءٌ يابانيون في شتى المجالات على ضرورة استجلاب المعارف والعلوم ونشرها، حتى للعوام، وفي هذا الصدد أعلنوا رفضهم للطبقية التي تحتكر حق المعرفة والحكمة، وقال أحدهم (نيشيكاوا): (يمكن لأي إنسان أن ينمو إذا تلقى التغذية الصحيحة، فيمكن للفلاح أن يرتقي الى طبقة (الساموراي) وإن لم يكن قد وُلد منهم) وبهذا فقد استنكروا احتكار الأرستقراطيين لتناقل مواقع السلطة، واعتبروا أن نشر المعرفة بين كل الناس هو السبيل لمنع هذا الاحتكار.

    (5)

    تطرق فلاسفة اليابان الى شيء قد يكونوا منفردين فيه، وهو إمكانية استخدام اللامركزية في الأيديولوجية عالمياً من حيث الانتقاء تاريخياً وجغرافياً، بمعنى: أن الالتزام الكامل بالنمط الياباني لا يكون له المعطى الأولي في كل مراحل التطور التاريخي لليابان، فلا صرامة بقدسية الالتزام بذلك. كما أن التأثر بالصين ونمط التفكير وإدارة الحياة، هو الآخر لم يأخذ تفضيلاً استثنائياً فالتشابه جغرافياً مع المملكة المتحدة (كونها جزر بريطانية) مع اليابان، أكثر ملائمة للقياس مع التشابه الجغرافي مع الصين.

    في كتابه ( يومه نوشيرو: بدلاً من الأحلام) استخدم (ياماغاتا) نظرية الوجود الطبيعي لتحليل كل التطورات العقلانية الرئيسية لمجمل القرن الثامن عشر. وحدد (ياماغاتا) ماهية المعرفة على أنها ما قبل علم الفلك، وانتقل الى تنظيم المعرفة في حقول تمتد من الأكثر تجريداً وشمولية الى الحاضر الملموس، فابتدأ بنظرية كوبرنيكس التي وضعت الكرة الأرضية ضمن قاعدة نسبية في مواجهة الكون، منتقلاً الى عالم الجغرافيا المقارنة، وتدرج حتى دخل حقل الاقتصاد السياسي، مُصراً على قدرة الإنسان في التسلح بالمعرفة لمقاومة الخرافة.

    خاتمة البحث

    يختتم الباحث بحثه بأن ثورة المايجي إيشين لم تكن ثورة انفعالية قام بها حملة السيوف، ولم تكن طلاقاً مع الأصالة وهروباً لما يسمى بالحداثة، بل كانت مزيجاً متناغما ( لا مركزية الأيديولوجية)، وكانت مزيجاً بل واتحاداً بين نشاطات إبداعية في كل المناحي تحالفت بالنهاية للوصول باليابان لما وصلت إليه من خلق (دولة غنية وقوية) وهي ما كان يُطلق عليه باليابان (فوكوكو كيوهاي).

  2. #12
    القسم الرابع: الثقافة

    الفصل التاسع: المايجي: ثورة ثقافية

    تقديم: فرانك ب. غيبني/ شركة دائرة المعارف البريطانية/ شيكاغو

    يستعرض الباحث في بحثه، الثورات التي حدثت في العالم منذ القرن الثامن عشر حتى وقت نشره لكتابه، فيذكر أن هناك خمس ثورات عالمية تركت آثاراً على مستوى العالم ولا زالت تترك. الثورة الأمريكية عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1789، وثورة المايجي في اليابان عام 1868، والثورة الروسية عام 1917، والثورة الصينية عام 1949.

    ولا يستخف الباحث بثورات عديدة حدثت في العالم كثورة محمد علي باشا في مصر وسوريا، وثورة (بوليفار وسان مارتين) في أمريكا الجنوبية، وثورة المكسيك وثورة كمال أتاتورك في تركيا. ولكنه يعتبر تلك الثورات ذات نطاق قومي محدود لا تتعدى حدود مناطق جغرافية معينة.

    وعند تصنيفه للثورات، يعتبر الباحث أن الثورة الأمريكية قد جسدت فكرة الاستقلال من الاستعمار بإقامة جمهورية ديمقراطية فيدرالية على أساس سيادة القانون. والثورة الفرنسية، بشعارها (حرية، مساواة، إخاء) ما زالت تلهم الشعوب التي تنتفض عفوياً للانقضاض على الأوتوقراطية والامتيازات. وأعطت الثورة الروسية للعالم المثل الأعلى لدكتاتورية الطبقة العاملة. أما المفهوم الصيني للشيوعية، فإنه استبدل بالطبقة العاملة بالفلاحين. وعندما يتطرق الباحث للثورة اليابانية فإنه يسارع الى تصنيفها بالثورة الثقافية.

    (1)

    لا يريد الباحث وضع صفة مشتركة بين الثورة الثقافية اليابانية مع الثورة الثقافية الصينية التي أطلقها الشيوعيون بقيادة (ماو سي تونغ). فالثورة الثقافية اليابانية جاءت برضا الشعب بفصائله المختلفة، طلاب، علماء، تجار، صناعيون، ساموراي، الخ. في حين جاءت الثورة الثقافية الصينية من فئة معينة (الشيوعيون) من الأعلى الى الأسفل، وبإجبار الجميع بتبني تلك التغييرات، دون الالتفات الى ما يصبون إليه.

    وعند تكييف مفهوم التغيير بالثورة، فإن الباحث يذكرنا بأن الثورة هي قطع لحالة حكم وتغييره جذرياً ابتداءً من هرمه ونزولاً الى قيادات المفاصل في جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها. وتذكيرنا هنا من قِبل الباحث، هو ردٌ ضمني على أن ثورة اليابان لم تكن من أعلى الهرم (الإمبراطور) برغبته بالتغيير، بل جاء من مختلف أنحاء الشعب، وإجبار الإمبراطور على القبول بهذا التغيير وتبنيه، حفاظاً على ثنائية محورية (الأصالة والحداثة).

    يتطرق الباحث الى شعارات وأقوال الثوار الشبان، خصوصاً (الساموراي)، فيؤشر على قول (ليس هناك تاريخ ماضٍ في اليابان، فتاريخنا يبدأ اليوم).

    ويذكر الباحث، تصنيفاً لفيلسوف التاريخ الإنجليزي (آرنولد توينبي) الذي يصف الثورة اليابانية بأنها (نزاع كلاسيكي بين [ الهيروديين] و [الزيلوت] وتلك الفئتان هما ما كان سائد في فلسطين عندما كان (هيرود أغريبا) حاكم الجليل الروماني يريد إدخال الثقافة الرومانية مع (زيلوت) المكآبي اليهودي المتعصب.

    (2)

    يعود الباحث لشرح ماذا تعني ثورة ثقافية بالتراضي، فيقول: أنا لا أعني أن كل امرئ في اليابان والى أي مهنة انتمى، قد اشترك في الزحف لإحداث الثورة، ولكن كان هناك شيء من الحماس في الجو.

    كانت الثورتان الفرنسية والأمريكية سياسيتين بصورة رئيسية، بغض النظر عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. وكانت الثورتان الروسية والصينية عقائديتين. أما في اليابان، فإن التغييرات الثقافية التي رافقت التحديث قد سبقت الثورة السياسية الفعلية، ثم غذتها كالنار في الهشيم عند اندلاعها.

    من المفيد أن نأخذ بعين الاعتبار الأوضاع التي عمل مصلحو المايجي في ظلها. ففي عام 1868 كان يمكن تسمية اليابان عن حق بأنها (دولة إقطاعية) على نحو شبيه بأوروبا في القرون الوسطى. فقطع الرأس والموت على الخازوق والصلب كانت من العقوبات المعمول بها. وكان عامة الشعب معرضين للقطع إربا بسيف واحد من الساموراي بمجرد أن يتسببوا بإزعاجه.

    ويدرج الباحث ثلاث مجموعات لعبت دوراً حاسماً في التهيئة للثورة:

    1ـ أهل المدن الجدد: استطاع هؤلاء التجار ومقرضو المال والسماسرة والمالكون الجدد تكوين اقتصاد مالي جديد في أوائل القرن التاسع عشر، وتبديل المجتمع الزراعي الياباني الى آخر تجاري. كما أوجدوا خلال ذلك، ثقافة مدنية شعبية كانت تمهيداً لمجتمع حديث من الطبقة الوسطى.

    2ـ المفكرون الجدد: انطلاقاً من العقيدة (الكونفوشية) الأصلية، عكفت أجيال من الدارسين من فلاسفة ومؤرخين وعلماء سياسة براغماتيين ومؤسسين أتقياء لعقائد دينية جديدة، على إعادة النظر في مسلمات مجتمعهم وتقصي جذورهم كيابانيين. وخلال ذلك اكتشفوا مغالطات أساسية عديدة في شرعية نظامهم القديم، وفي الوقت نفسه، قام باحثون آخرون بالغوص في الكتب الأوروبية المحظورة سابقاً واستكشاف عالم جديد شامل من العلوم والتكنولوجيا الغربيين. وكان لذلك وقع الصدمة على اليابان.

    3ـ أصحاب المواهب المستاءون: نتيجة لتمردهم الغريزي ضد وضعية البطالة القسرية المفروضة على طبقتهم، فقد قام جيلٌ جديد من اليابانيين معظمهم من الساموراي والمزارعين والتجار بالإعراب عن عدم رضاهم على مجتمعهم (المعلّب).

    (3)

    يخلص الباحث الى أن المرحلة التي سبقت ثورة المايجي، كانت فترة صدام واضطراب ثقافي رهيب ومثير. ومن حسن حظ اليابان أنه كانت في البلاد مجموعات كبيرة من الشباب الطموحين. كان هؤلاء تواقين لتسلم القيادة والتعلم في آن، ولذا فقد خيب آمالهم الحكم السابق القابض بشدة على مقاليد السلطة، كما أحزنهم تفوق الأوروبيين الواضح.

    أنجز مصلحو المايجي أهدافاً مدهشة في شموليتها. فقد تم إلغاء المقاطعات. وتم تأسيس مجالس للمحافظات، ومن ثم جمعية وطنية. واعتمد دستور شبيه بدستور (بسمارك) في ألمانيا. وتم تأسيس قوة شرطة. واندفعت البعثات الدبلوماسية في الخارج لنقل كل ما هو مفيد لليابان من علوم وتقنيات.

    لم يكن جميع قادة المايجي رجال دولة. وخلال عملية بناء بلد حديث كانوا يتطلعون، مثلهم مثل من يخطط على طاولة رسم، الى اتجاهات مختلفة. فبعضهم أصبح مصرفيا، وبعضهم الآخر مربياً. في حين اتجه فريق ثالث الى ميدان الأعمال والاتصالات وحققوا نتائج لا تقل أهمية على المدى الطويل.
    ويلتفت الباحث بذكاء الى أن هناك من بقي يحتفظ بماضيه دون اعتراض أو تذمر مما حدث في البلاد. فيذهب الى (هاجي) وهي بلدة بها قلعة تعتبر مركزاً للتآمر على العاصمة القديمة، وقد تحولت تلك البلدة الى متحف، دون تغيير في ملامحها التي كانت في العهد السابق.

  3. #13
    الفصل العاشر: الوقع على الثقافة الشعبية

    تقديم: إيروكاوا دايكيشي/ معهد طوكيو للاقتصاد ـ اليابان

    إعادة المايجي في تاريخ الحضارة العالمية

    تمثل إعادة المايجي إنجازاً نادراً. فضغوطات القوى الأوروبية والأمريكية التي رزحت تحتها اليابان ووقع الحضارة الغربية الكبير شكلت نقطة انطلاق اليابان نحو إحداث ثورة سياسية وإصلاحات اجتماعية واسعة، وتحقيق وحدتها ضمن إطار دولة قومية. فما الذي حدث فيها على الصعيد الثقافي؟

    كان هناك، من منظور دولي، نمطان مختلفان من الرد على الحضارة الغربية الحديثة: القبول أو المقاومة. الأول حصل في بلدان مثل اليابان وروسيا اللتين أقامتا علاقات لكنهما لم تُضَحِيا باستقلالهما. والآخر ساد في البلدان التي أُجبرت على التواصل عن طريق الاستعمار وغيره من أشكال الإذعان، وفي الحالة الأولى، كان قبول الحضارة الغربية سهلاً، وقد اُستعملت التكنولوجيا والمؤسسات الأجنبية بصورة انتقائية لإنماء القوة الاقتصادية والعسكرية. إلا أن مقاومة الثقافة الروحية الأوروبية، كالفلسفة والدين، لم تكن قوية كفايةً، مما نجم عنه فترات من التقليد السطحي والبلبلة.

    في الحالة الثانية، كما هو في الصين وكوريا والهند والبلدان العربية، لم يكن من الممكن الفصل بين الحضارة الغربية ككل والهيمنة الإمبريالية، الأمر الذي أدى الى صراع طويل بين الثقافتين الأجنبية والمحلية. وبات التفكير استبطانياً، وأشعلت روح المقاومة وحركات المطالبة بحق تقرير المصير. وقد ظهر شخصيات مثل (غاندي) و(نهرو) و(صن يات سن).

    وقع الإعادة على طبقات المجتمع الياباني

    يتحدث الكاتب، عن تأثير (الإعادة) على الثقافة. وسيتناول حوالي ستين عاماً، قبل انتهاء الثورة وبعدها، ويلخصها قبل تفصيلها بأنها قضت على الفروقات الطبقية وفتحت المجال أمام حرية التنقل ومنحت الشعب (الفسحة) التي يحتاج إليها لتحقيق تطلعاته. كما كانت أيضاً حافزاً كبيراً لتطورات محلية دفعت باتجاه الحداثة الشعبية التي قد بدأت فعلاً قبل الإعادة.

    والواقع فإنه من دون هذه التطورات الداخلية كان يستحيل تحقيق انتقال اليابان من التسلط الإقطاعي الى نظام دستوري، وتحولها الى مجتمع صناعي حديث وازدهار ثقافتها، وهذه من مميزات مرحلة المايجي. من جهة ثانية، فإن (الإعادة) جعلت من معظم اليابانيين (إمبراطوريين) بمعنى أنهم علقوا بإحكام ضِمن شبكة النظام الإمبراطوري.

    وعندما أراد الكاتب تفصيل أثر الإعادة، قسم عامة الشعب الياباني الى ثلاث فئات وناقش أثر الإعادة على كل فئة:

    1ـ طبقة المزارعين (غونو) والتجار الأثرياء (غوشو) والتي تشكل الزعامات القروية.
    2ـ الطبقة العاملة الدنيا (كاسو سايكا تسومين) والتي تضع الفئات الدنيا في المدن والطبقة الوسطى والمزارعين الفقراء وأشباه البروليتاريا.
    3ـ طبقة المنبوذين (هيسا بيتسو مينشو).

    ومن الواضح أن ردة فعل هذه المجموعات الثلاث تجاه (الإعادة) لم تكن متماثلة. فبالنسبة الى المنبوذين، على سبيل المثال، كما نص عليها المرسوم المعروف بمرسوم التحرير في آب/أغسطس 1871، والقاضي بحظر استعمال العبارات المسيئة لهذه الطبقة، كان مصدر فرح عظيم ، وقد استقطب أفئدة المنبوذين الذين عانوا من التمييز والقمع مئات من السنين.

    بالمقابل، فإن كثيراً من أفراد الطبقات الأخرى شعر بالامتعاض من هذا المرسوم، وقد تم ترجمة هذا الامتعاض بالهجوم على قرى المنبوذين (هجوم في شهر يناير 1872 وإضرام النار في قرية كاملة وقتل 4 من المنبوذين). وهجوم على أحد قرى (ميماسكا) عام 1873 من قبل 26 ألف من المهاجمين ودمروا فيها 51 منزلاً وحرقوا 263 منزلاً. وذكر الباحث 11 هجوماً من هذا النوع، عاقبت فيها الحكومة 64 ألف شخص في أحد المرات و57 ألف في مرة أخرى.

    الوعي المعادي للتغريب لدى الطبقات الدنيا

    كانت سياسات الحكومة الجديدة تعسفية، كما لو أن القصد منها كان تدمير عالم من المُثُل الروحية كان الشعب شديد التمسك به. فقد ألغت الحكومة مهرجانات حصاد الخريف، كما حظرت الجمعيات الدينية، والتجمعات خلال طقوس استقبال الشمس والقمر، والمسرحيات الشعبية، وحظرت الجمعيات الشبابية. وطالبت بتقليل المعابد، وأمرت بتوحيدها بغض النظر عن تطابق شعائرها.

    كما حظرت الحكومة مناسبات الأعراس، والزيارات الخاصة للتهنئة بالمولود أو التعزية بالميت، وحظرت جمع الأموال الخيرية، وأجبر الناس على قص ضفائر شعورهم وتسريحها حسب الطريقة الغربية.

    أحس الناس باشمئزازٍ شديد من هذا التغريب، وقد كُتبت الأشعار والروايات عن هذه المشاهد، فيصف (هيغوشي ايشييو 1896) في رائعته (نيغوري: صورة الظلام) الظروف المعيشية القاسية لفقراء المدينة في هذه المرحلة.

    لقد تفهم البيروقراطيون المشاعر التي سادت أوساط طبقات المجتمع الدنيا. واعتقد معظمهم أن الفضيلة تكمن في الاعتقاد بأن (الحضارة مرادفة للتغريب)، وكانوا مقتنعين بأن تحويل اليابان الى أمة (مُغرَّبة) و (حضارية) كان خيراً مطلقاً. واحتقر المتنورون من اليابانيين الطبقات الشعبية على أساس أنهم (رعاع جاهلون عاجزون وبائسون). واقترحوا تسليط (الساموراي) على الفلاحين والبرابرة!

    في آذار/مارس 1873، قامت انتفاضة كبرى، غلفها القائمون عليها بلباس ديني بحجة أن البلاط يتعاطف مع التعاليم المسيحية. وبعد قمع تلك الانتفاضة خفت حدة الاعتراضات، وأخذ الشعب بتقبل التحديث.

    وقد ظهرت تيارات فكرية على هامش التحول الاجتماعي يمكن تلخيصها:
    1ـ تيار رئيسي يستوحي النماذج الغربية، منها تيارٌ يمثل العقلانية البيروقراطية ومنها تيار فكري اجتماعي يساري حديث.
    2ـ تيار جانبي يسعى الى نموذج للحداثة الآسيوية الشرقية، ويتفرع منه تيار باطني للفكر المعارض على مستوى الطبقة الدنيا، وتيار فكري اجتماعي يميني حديث.

    نتائج الإعادة على طبقة المزارعين والأثرياء

    تبين بالتأكيد أن طبقة المزارعين والتجار الأثرياء قد احتضنت فكر الغرب الحديث وحضارته. غير أن هذا القبول جعل حياتهم تتسم بالتناقض. فقد اعتنقوا مذهب المنفعة الذي يكمن في أساس (الحضارة والتنوير) طالما أنه يبرر حاجتهم لجني الثروة ويحوّل طموحاتهم الى حقيقة واقعة، ومع ذلك فإن موقعهم كزعماء لمجتمع القرية أجبرهم على التصرف ـ مثل ذي قبل ـ كنماذج لخلفية علمية زاهدة من القيم الأخلاقية الدنيوية.

    أهمية الإعادة في التاريخ الثقافي

    كتب (كيتامورا توكوكو) والذي ولد عام 1868، وكان يُطلق عليه أديب مرحلة المايجي، وهو أحد قدامى قادة حركة الحقوق الشعبية، وقد اختتم حياته بالانتحار عام 1894: (( كانت إعادة المايجي ثورة لم يسبق لها مثيل، سعت الى مساهمة الجمهور في حرية الفكر والقلب)). لكن هذه الثورة انتهت قبل أن تكتمل، وقد أوكل لحركة الحرية والحقوق الشعبية استكمال ما بدأته (الإعادة) لكن هذه فشلت بدورها.

    لقد استنتج (توكوكو) في النهاية بأن مرحلة المايجي لم تكن ثورة، وإنما فترة انتقالية. لكن حتى بالنسبة إليه فإن (الإعادة) استطاعت جمع (الساموراي) وأفراد الشعب العاديين ضمن بوتقة واحدة من المواطنين. وكانت بهذا المعنى ثورة حقيقية. الواقع أن هذه كلمات تحمل في طياتها ثناءً بالغاً.

  4. #14
    الفصل الحادي عشر: دور الأدب في إنماء الثقافة

    تقديم: لاريسا ج. فيدوسييفا/ أكاديمية العلوم في موسكو

    (1)

    إن الأدب القصصي عنصرٌ هام من مكونات الثقافة، لأنه يشكل نظرة خاصة الى الحقيقة الموضوعية، كما أن مسألة الاتجاهات المستقبلية في إنماء المجتمع البشري تكتسب أهمية خاصة اليوم. فأية قيمة أخلاقية سوف ينميها المربون الثقافيون بين أبناء جيل الشباب في العالم؟ أي نوع من الوعي الاجتماعي سوف يتصف به هذا الجيل؟ ما هي الدروب التي سوف يسلكها المثقفون الشباب في مختلف بلدان العالم؟ هذه الأسئلة جميعها هامة بالنسبة للإنسانية جمعاء.

    إن الدور الهام الذي تلعبه القصة في قولبة نظرة العالم والقناعات الفلسفية للشباب معروفٌ جداً. فبالتأثير على الأحاسيس وليس فقط على العقل البشري يمكن للقصة أن تكون أحياناً فعالة في زرع أفكار معينة في الوعي الإنساني. فهي تؤثر على عملية التفكير دون إكراه ظاهر، جالبة الى الفرد شعوراً بالرضى بل والمتعة. إن الرسالة التي يحملها عملٌ فني غالباً ما تصبح شخصية فيدركها المرء على أنها رسالته الشخصية، الأمر الذي يساعد على صياغة صورة للعالم أكثر تماسكاً.

    إلا أن تأثير الأعمال الأدبية كمصدر للتنوير المعنوي للإنسانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى إدراك القارئ لها. فإن جوهر الإدراك شيء يتقرر على ضوء المنظومة: الحقيقة والمؤلف والعمل الأدبي والنقد والقارئ. فكلما ازدادت الارتباطات التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والعقلية والعاطفية التي يستثيرها المؤلف في قارئه، ازدادت درجة فهم الإنسان للإنسانية ولكفاحها وانجازاتها وسعادتها.

    (2)

    لقد تمكن العالم الياباني (ناغاشيما نوبويشيرو) عن طريق مقارنة الحضارتين الغربية واليابانية، من تحديد 30 صفة نموذجية للقيم السائدة في الشرق والغرب. وأهمها هي (ثقافة متجاوبة مع الآخرين).

    ليس من قبيل المبالغة القول بأن (تجاوب) الثقافة اليابانية مع حضارات الأقسام الأخرى من العالم بدأت بالظهور بعد ثورة 1868، التي كان لها أثرٌ بالغ جداً على تطوير الثقافة اليابانية بشكلٍ عام. فقد وضعت اليابان بعد عام 1868 حداً لعزلة دامت قروناً عديدة وفتحت أبوابها للثقافات الأخرى.

    وحسب الباحث الياباني (أوتا سابورو) فإن تولستوي وتورجينيف ورولان وموباسان [ الاثنان الأولان روسيان، والاثنان الآخران فرنسيان] هم من المؤلفين الأجانب الذين يقرأ اليابانيون مؤلفاتهم بانتظام. ويقول (أوتا) عنهم: إنهم يابانيون، وظلت مؤلفاتهم لأكثر من نصف قرن وخلال تبدل الأجيال تجد قراءً لها في اليابان. لقد وفروا دوماً لليابانيين غذاءً روحياً لا بديل عنه.

    لا يخفي الكاتب الروسي لهذه المقالة، تضخيمه للدور الروسي أو السوفييتي في تحرير الإنسان الياباني، فيستشهد بأعدادٍ من الروس مثل (مكسيم غوركي) و (ماياكوفسكي) و (فورمانوف) و (فادييف) وكثيرين غيرهم، وكيفية إقبال المثقفين اليابانيين على دراسة هؤلاء والاستزادة من مؤلفاتهم.

    (3)

    وبعد انكسار اليابان في الحرب العالمية الثانية، انتشر الفن الانحطاطي المتولد من تدني القيم الإنسانية، وتاليا من خيبة الأمل على نطاق واسع في يابان ما بعد الحرب. ففي مقالة نموذجية (حول التدهور المعنوي) كتب (ساكاغوشي انغو) عام 1946 يقول: (يسقط الإنسان بسهولة، ويسقط كذلك الأبطال والقديسون دون أن يستطيع أحدٌ الإمساك بهم. ولا يستطيع أحدٌ أن يُنجي الآخرين بالإمساك بهم. فالإنسان يحيا والإنسان يسقط. وحده طريق السقوط المستمر الى الهاوية يدفع بالإنسان الى اكتشاف ذاته وبالتالي مساعدة نفسه والآخرين).

    وبلغ ما يُعرف ب (الأدب الفيزيولوجي) الياباني مرحلة غليان في هذه الفترة، و(قصة العقرب) ل (كورهاشي يوميكو) مثال عليه. وقد تأثر يابانيون بسارتر كما تأثروا بالماركسية، ولكنهم في بحثهم عن الصراع بين الخير والشر، لم يستطيعوا التوفيق بين الوجودية والماركسية.

    في عام 1965 حدد (نوما) مؤلف رواية (شبان معاً) عدداً من الاتجاهات في الأدب الياباني: 1ـ ما يُسمى بالفن الخالص. 2ـ المؤثرات العسكريتارية. 3ـ الواقعية التي تلفت النظر، إنما ليس بالضرورة من موقع ماركسي، الى مشاكل المجتمع الحديث. 4ـ الأدب الكاشف لتناقضات حقائق اليوم من وجهة نظر ماركسية. والجدير ذكره أن تأثير مأساة (هيروشيما ونجازاكي) [ المدينتان اللتان ضُربتا بقنبلتين نوويتين] تقع ضمن نطاق الاتجاهين الأخيرين.

    (4)

    منذ أواسط السبعينات من القرن العشرين، انخفض انتشار الكتب الأدبية السوفييتية، وتوقفت حالة الإعجاب بالأدب السوفييتي.

    ولكن الكاتب للمقالة، لا ينسى ذكر أن القراء السوفييت كانوا لا يتركون عملاً أدبياً للكاتب الياباني الشهير (اكوتاغاوا ريونوسوكي) منذ عام 1924، إلا ويقومون بترجمته وقراءته. ويقر اليابانيون بأن هذا الكاتب لم تُترجم أعماله في أي بلد بالعالم بهذا القدر الذي حدث في الاتحاد السوفييتي.

    كما أعجب السوفييت بأعمال أدباء وفلاسفة يابانيين أمثال: آبي كوبو صاحب رواية (امرأة في الكثبان الرملية 1966) و أوي صاحب (يوميات بينشيزان) كينزابورو الذي يتحدث افتراضاً، عن رجل يختار طريقه الخاص في الحياة. وأندو شوساكو وكايكو تاكيشي وغيرهم.

  5. #15
    الفصل الثاني عشر

    التربية في أوائل فترة المايجي

    ناغاي ميتشيو/ جامعة الأمم المتحدة ـ طوكيو: اليابان

    في سبيل الاستقلال والثورة الصناعية


    يتناول الباحث موضوع التربية بالفترة التي سبقت ثورة المايجي، ورافقتها بالفترة التأسيسية، أي بعد حدوثها عام 1868. وهو بذلك يسهم في إعطاء صورة واضحة للتناغم الذي ساهمت فيه كل الجهود.

    يذكر الباحث أثر جهد رجلين كانا لهما أبعد الأثر في إرساء الأسس لنظام تربوي في اليابان، في بداية فترة المايجي وأشد بلاغة في التعبير عن آرائهما في هذه المسألة وهما: (موري أرينوري) و (فوكوزاوا يوكيتشي). فالأول كان وزيراُ للتربية والثاني كان قد أسس مدرسة خاصة قبل فترة المايجي. وقد اختارهما الباحث بصفة أن أحدهما يمثل الجانب الرسمي والآخر يمثل الجانب الأهلي (الخاص).

    لقد تأثر الاثنان بما شاهداه من ابتلاع الغرب للهند والصين، واللتان أثرتا على مر التاريخ في التكوين الروحي والحضاري الياباني، وأدركا أن التفوق العسكري الغربي وحسن تنظيم وإدارة الاقتصاد فيه قد سهل مهمتهم في ذلك. وربطا ذلك بما سيؤول إليه مصير اليابان فيما لو تُرك على حاله.

    في العادة، عندما تكون البلاد، معرضة لعدوانٍ خارجي محتمل، فإن أغلبية المواطنين الأحرار تكون مستعدة للذود عن البلاد والقتال من أجلها، وكان هذا الشعور هو السائد في عموم اليابان، إلا أن الرجلين (موري وفوكوزاوا) لم تجرهما نزعة القطيع، وقالا: (أنه ليس من الحكمة محاولة قتال الغزاة في حينه بل الانتظار حتى يصبح وطننا أكمل استعداداً لمكافحة الغريب غير المرغوب فيه).

    كان من أهم أعمال موري كتابا بعنوان (التربية في اليابان)، ذكر فيه أن أهم أسباب الغليان في اليابان هو تأثير الحضارة الغربية. ومن أهم أهم أعمال فوكوزاوا (موجز نظرية الحضارة) و (إحياء المشاعر القومية)، وفي هذين الكتابين آمن أن العلوم والتكنولوجيا المتقدمة والاقتصاد المتطور هي في أساس قوة الغرب العسكرية.

    بكلام أدق يملك الغرب آلات الطباعة والهاتف والنظام البريدي والطاقة المولدة بواسطة البخار، وقد اكتملت لديه ما سميت بالثورة الصناعية، أما اليابان فلا تملك شيئاً من هذا وما لم تتطور وتحقق ثورتها الصناعية فليس لها أن تأمل بأن تبقى دولة مستقلة.

    الجدال حول الديمقراطية

    اعتبر أحد رواد التغيير واسمه ( أوكوبو توشيمتشي) أن على أي سياسي وهو يمارس الحكم أن يراعي القيود الخمسة التالية: (الأرض؛ الشعب؛ العصر؛ العادات؛ الأحوال السائدة). بكلام آخر: من المهم ألا يسهى عن بال السياسي: أين ومن ومتى وفي أي محتوى حضاري وفي ظل أية ظروف تعمل الحكومة.

    كانت الإطاحة بالنظام الاقطاعي، وإقامة دولة المايجي، الخطوة الأولى نحو خلق الدولة القومية. لكن جدلا امتد حتى وضع الدستور، تناول شكل الحكم الذي يجب اعتماده: هل يكون شكلاً ديمقراطياً يقوم على سلطة شعبية؟ أو ملكياً يتمحور حول الامبراطور؟ أم يجب البحث عن حل وسط يجمع عناصر من كلا النظامين؟

    بقي فوكوزاوا خارج الحكومة، رغم اعتراف كل رجال الحكم بحنكته وفضله على المايجي، لكنه رفض الانضمام للحكومة، بحجة أن النظام التربوي والتعليمي لا يتم من خلال الحكومة بل من القطاع الخاص. وهنا اختلف مع رفيقه (موري) الذي اعتبر أن الحكومة هي المسئولة عن تطوير التربية والتعليم فدخل في صفوف الحكومة.

    تعميم التعليم

    كانت همة القطاع الحكومي والقطاع الخاص المتفاهمتين وراء ارتفاع نسبة المتعلمين. ففي حين كانت نسبة الذين يقرأون ويكتبون في اليابان عام 1840 حوالي 40% من الذكور، و 10% من الإناث، أصبحت في عام 1900 حوالي 96% من الذكور والإناث. وكان قانون التعليم الإلزامي من طرف الحكومة عاملاً قوياً في تحقيق هذه الطفرة بوقت قياسي.

    التعليم العملي التطبيقي

    أكدت الدولة بجناحيها الحكومي والخاص على أهمية التعليم التطبيقي، وفي سنة 1866 تأسست أول جامعة يابانية وطنية هي (الجامعة الإمبراطورية) وضمت كليات للطب والهندسة والزراعة إضافة للعلوم والإنسانيات الأخرى.

    قلدت اليابان كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي فيما بعد، والغريب أن الدول الثلاثة هي خارج أوروبا، فاختارت النهج العلمي للحاق بأوروبا، وقطف الثمار من الثورة الصناعية بسرعة أكثر.

    بين التغريب واليبننة [ مشتقة من اليابان]

    لم يغفل القوميون اليابانيون عن مراقبة الجهود في نقل التجارب الغربية لليابان، فكما كان هناك جامعات حديثة وجد جامعات تحافظ على المُثل العريقة مثل جامعة (دايغاكوريو) في (كيوتو) تحت تأثير الكونفوشية والحضارة الصينية. كما كان هناك (الشوتشين) وهي مؤسسة لتعليم البوذية. ولكن طالب الكثيرون من اليابانيين بمزاوجة النمطين من المؤسسات التعليمية.

    إن عدداً من أشهر جامعات الغرب حتى اليوم مثل كامبردج وأكسفورد وهايدلبرغ وباريس، هي مؤسسات ترقى بداياتها الى العصور الوسطى. وبالرغم من أنها تعرضت الى تغييرات جذرية منذ ذلك الوقت الى أنها احتفظت بنوع من الاستمرارية كذلك. ولو أن المؤسسات التربوية التقليدية في اليابان تطورت بنفس الطريقة لما كان في ذلك يدعو للاستغراب. ولكن اليابان اختارت الانفصال عن الماضي.

    لقد كان استقدام المدرسين الأجانب جزءا لا يتجزأ من هذا المنحى، فقد أنفقت وزارة التربية اليابانية في عام 1871 حوالي 30% من ميزانيتها كرواتب للأساتذة الأجانب، والطلبة المبعوثين للدراسة في الغرب.

    لقد ظهر رأيٌ في استبدال اللغة اليابانية باللغة الإنجليزية، لكنه جوبه بالرفض، حتى من الخبراء الأجانب ومنهم العالم الأمريكي (ويتني) الذي قال أن هذا سيخفض حضور الحضارة اليابانية الى الدرجة الثانية.

    لقد تجاوز اليابانيون تلك المسألة وأصبح معظم المدرسين يابانيين وبلغة يابانية في حلول العام 1890.

    القيادة الحكومية والحرية الأكاديمية

    أحرزت التربية خلال فترة المايجي، بفضل المبادرة الحكومية، تقدما ملحوظا بالفعل. ولكن الشعب لم يكن كله راضيا عن نظام تربوي بقيادة حكومية. وخلال عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر ارتفعت أصوات تنادي عاليا بوجوب فصل التربية والفكر القول عن الحكومة.

    تأسست في تلك الفترة جامعات خاصة مثل جامعة (واسيدا) و جامعة (دوشيشا)...

    يبقى لغاية هذا اليوم الصراع بين التغريب واليبننة قائماً، وقد يكون عدم الاستسلام من طرف الى الآخر، هو السر وراء التنافس للنهوض بالبلاد.

  6. #16
    الفصل الثالث عشر:

    المعرفة الغربية والمايجي إيشين

    تقديم: لو وان هي/ أكاديمية تيانجين للعلوم الاجتماعية/الصين

    (1)

    شن المعتدون الاستعماريون الآتون من الغرب حرب الأفيون في الصين العام 1840، وضغطوا على اليابان، مهددين باستخدام القوة العسكرية لفتح موانئها في العام 1853. وهكذا حمل منتصف القرن التاسع عشر الى كل من اليابان والصين أزمة قومية خطيرة.

    نشأت هذه الأزمة أساساً ـ إذا وصفت بلغة الفروقات القومية ـ من التناقض بين الدول الإقطاعية والدول الرأسمالية. وتفرض الظروف السائدة على الشعب الذي يتعرض للغزو أن يتفادى الخضوع فقط عبر تحويل مجتمعه وبسرعة الى نظام رأسمالي، ومن لم يفعل أصبح مستعمراً أو شبه مستعمر من قبل قوى الغرب وهذا ما أثبته التاريخ. وقد اختارت اليابان المسار الأول فيما عانت الصين قدر أن تكون شبه مستعمرة.

    (2)

    يتساءل الباحث: لماذا أنجزت اليابان نهضتها قبل الصين؟
    يستبعد الباحث أثر العوامل الخارجية، فاليابان كما الصين تعرضتا لأطماعٍ استعمارية. كما يستبعد أثر البرجوازية فالشعب الصيني يتشابه مع الياباني في نمو التيار البرجوازي. ويستبعد أيضاً نشاط ثورة الفلاحين في اليابان وتفوقها على ما كان موجودا في الصين...

    يركز الباحث على ناحية بعينها هي التي ميزت الوضع في اليابان عنه في الصين. وتلك الناحية تتجسد في نقل المعارف الغربية الى اليابان بسرعة ودقة.

    يقول: لقد بدأت أوروبا بالتفوق علمياً وحضارياً وفلسفياً على بقية أنحاء العالم، منذ القرن السادس عشر. ويشير الى أن تلك المعارف قد دخلت الصين لأول مرة في العام 1581 على يد الإرسالي اليسوعي الإيطالي (ماثيو ريتشي)، في حين دخلت المعارف الأوروبية الى اليابان على يد راهب يسوعي آخر هو (فرانسيس خافيير) في العام 1549. كانت تلك المعارف تدعى في ذلك الوقت ((ثقافة البرابرة الجنوبيين)).

    هذه المعارف الغربية، تم التعامل معها بأسلوبين مختلفين في اليابان والصين، وقد تشابه الأسلوبان في البداية لكنهما اختلفا في مراحل لاحقة.

    فقد توقف انتشار ثقافة البرابرة (كما كان أهل اليابان يطلقون عليها) في عام 1663، وتوقفت في الصين عام 1720، وكان توقفها في الصين بسبب النزاع الذي حصل بين بابا الفاتيكان والإمبراطور الصيني (كانغشي) حيث أرسل البابا مبعوثاً الى الصين مرتين في عام 1705 وعام 1720، أمر فيهما الصينيين الكاثوليك أن يمتنعوا عن ممارسة الشعائر الصينية التقليدية في طقوسهم المسيحية، مما حدا بإمبراطور الصين للقول (أعيدوا مبشريكم الى الغرب) ولكنه لم يحرم نقل المعارف العلمية لإيمانه بالفصل بين الدين والعلم.

    لم يلتزم أباطرة الصين الذين جاءوا بعده، بالفصل بين الدين والعلم، بل حرموا حتى دخول المواد العلمية والثقافية وغيرها، وبقي هذا التحريم زهاء 80 عاما.

    (3)

    في اليابان، كان الوضع مختلفاً، فحتى في سنوات العزلة والانغلاق، (بين عامي 1683 و 1751) فقد كانت النخب الحاكمة تطلع على ثقافات الغرب.

    وفي عام 1720 بالذات، تم التساهل في استقبال المواد العلمية والثقافية، ولم يستمر اليابانيون في نعتها بثقافة البرابرة بل أسموها (رانغاكو) أو (المعارف الهولندية)، لأنها أدخلت أساساً بواسطة الهولنديين الذين أقاموا في المصنع في (ناجازاكي).

    وقد قُدِّر عدد الكُتب التي ترجمت من الدول الأوروبية بين عامي 1744 و 1852، حوالي 500 كتاب غربي بواسطة 117 مترجما وكاتباً يابانياً.

    وقد لمّح أحد المفكرين اليابانيين في معرض انتقاده للرؤية الصينية ونزعتها الانعزالية والمعتدة بهويتها القومية بقوله (إن الأرض كُرة توزعت عليها دولٌ كثيرةٌ وعليها تعيش كل شعوب الأرض. ويجب النظر الى كل دولة بنفسها على أنها مركز الكرة الأرضية، والصين بدورها كباقي الدول) ...(وأنه من الخطأ عبادة الصين على نحوٍ أعمى على أنها المملكة الوسطى مع النظر الى الدول الأخرى على أنها بربرية).

    وفي اجتماعهم السنوي في عام 1795 اجتمع 30 من دارسي العلوم الغربية (الرانغاكو) للاحتفال برأس السنة الميلادية لأول مرة في اليابان، دوّن في هذا الاجتماع (أن لنا أصدقاء لنا على بعد 9000 لي [لي: 540متر]، كل شعوب القارات الخمس هم جيرانٌ لنا).

    (4)

    تصاعدت وتيرة انتشار العلوم الغربية في اليابان بسرعة هائلة ففي عام 1868 كانت الرياضيات تُدرَّس في 141 مدرسة من أصل 240 مدرسة تديرها الدولة، والعلوم الغربية في 77 مدرسة والطب في 68 والفلك 5. وكلها علوم ومعارف غربية.

    وقد كان في عام 1872 حوالي 500 ياباني يستطيعون قراءة وفهم ما يقرءونه من كتب غربية، في حين كان في السنة نفسها 11 صينياً يستطيع ذلك.

    واجهت كل من اليابان والصين في منتصف القرن التاسع عشر أزمة خطيرة على المستوى القومي كما على مستوى الحكومة الإقطاعية، ولم تكن الرأسمالية والبرجوازية في كلا البلدين قد اكتملتا نمواً، كما أن البرجوازية فشلت في أخذ زمام المبادرة في إطلاق الثورة. فهل كان من الممكن تأجيل الثورة الاجتماعية حتى اكتمال نضج الطبقة البرجوازية؟

    الجواب الواضح هو لا، فالأوضاع التاريخية آنذاك قد جعلت الرأسمالية الغربية القوة المهيمنة في كل أنحاء العالم، واستطاعت البرجوازية الغربية، كما أشار ماركس وأنجلز، أن تهزّ سور الصين العظيم.

    إن إرجاع نهوض اليابان لا يفهم منه أن وراءه المعارف الغربية وحدها، فضربات الفلاحين للإقطاع ونضال القوى المسحوقة لا يمكن بدونها أن تقوم المعارف الغربية بأي أثر. لكن أثبت التاريخ أن المعرفة والثقافة والعلوم لها الدور الفعال في إرساء الأسس العقائدية لعمليات النهوض.

  7. #17
    الفصل الرابع عشر:

    ثورة المايجي التي لم تكتمل في التاريخ العقلاني


    تقديم: تاكيدا كيوكو/ الجامعة المسيحية العالمية/طوكيو

    تقديم: من المهم ملاحظة هذا البحث ومواضعته مع ما يجري في المنطقة العربية حيث بدأت انتفاضات شعبية واسعة في مختلف البلدان العربية، احتار المواطن في تصنيفها أو التنبؤ بنتائجها. وهي بالتأكيد ستؤسس لمرحلة من إنشاء دول حديثة قد تحتاج الى إنجازها لمدة بين ثلاثين وخمسين عاماً للوصول الى الاستقرار واللحاق بركب الدول المتقدمة.

    (1)


    وجّهت عملية إحياء (المايجي) نحو أهداف عريضة: تفكيك نظام حُكم (باكوهان) الإقطاعي والإتيان بنظام برلماني (ديمقراطية ليبرالية دستورية)، تعميق الوحدة بين اليابانيين على أساس إجماع شعبي وإقامة دولة قومية موّحدة حديثة، ورفع سياسة الانعزال القومي الحازمة وتنمية الاتصال مع العالم الخارجي، وتحويل التقليدية المنغلقة الى مجتمع منفتح من المواطنين المتساوين حيث تبطل سيادة المراتب الاجتماعية المكتسبة. إنها أهداف وضعت اليابان على طريق التحديث وتؤدي الى إقامة دولة حديثة.

    وبالرغم من الإنجازات الهائلة التي وصلت باليابان الى ما هي عليه، فإن كثيراً من المفكرين اليابانيين لم يتوقفوا عن طرح سؤال: هل اكتملت ثورة اليابان؟

    في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، نشر الصحافي والمؤرخ (سانسا) عملين كان لهما أصداء في كل أنحاء اليابان وهما: (تاريخ جديد لليابان) و (تاريخ ألفين وخمسمائة سنة) في ثلاثة مجلدات. فيقول: (لم تكن ثورة مثالية حيث ينهض الشعب ضد طغيان المستبدين باسم مبادئ الحرية واحترام حقوق الإنسان، وإنما ثورة غير ناضجة، وقعت في زمن اضطرابات عندما كان المجتمع نفسه في حالة انهيار، وتحركت في مسار متذبذب يكتنفه الغموض الى أن برزت صدفةً قضايا دبلوماسية ذات أبعاد خطيرة مع وصول ((السفن السوداء)).

    [الإشارة الى السفن السوداء: هي تحركات الغرب لاحتلال اليابان، على ضوء ما جرى للجارة الصين، مما استدعى من اليابانيين تكييف اضطراباتهم التي سبقت ثورة إعادة (المايجي) بأربعين سنة تقريباً، والتفافهم حول الإمبراطور، كرمز مع تحديد صلاحياته وتقييدها وِفق أسس ثورية]


    ويقول حول مسألة إبقاء الإمبراطور: (إن الموالاة للإمبراطور لم تكن عاملاً مؤدياً الى الحدث التاريخي (الثورة)، ولم يكن العرش الإمبراطوري إلا وسيلة أصبحت الحاجة إليها ماسة وأُدخلت الى مسرح الأحداث في وقت لم يعد من الممكن فيه احتواء نقمة الشعب المكبوتة فأوجدت متنفساً لهذه النقمة).

    لقد لخص (سانسا) نظريته في أن عملية إعادة (المايجي: الثورة) تتمثل في مبدأين: (الكل في الإمبراطورية تحت حكم واحد) و (الكل في الإمبراطورية تحت حكم الكل).

    (2)

    وفي تلك الفترة أي بعد الانتهاء من الثورة، أعلن (فوكوزاوا يوكيتيشي) والذي يطلق عليه اليابانيون (رائد الفكر التنويري) في كتابه (موجز نظرية الحضارة)، ((أن العودة الى النظام الإمبراطوري لا يمكن أن تكون مسألة ضغط يمارسها البيت الملكي، فقد يبدو ذلك وكأن البيت الملكي يعير اسمه الى القوة المستمدة من نشر المعرفة بين كل أفراد الشعب)).

    ويؤكد على قيمة الإمبراطور بأنها سوف تكون دون شك هائلة إذ سيعمل على مصالحة المجموعات السياسية المتعارضة ووضع حد لنزاعاتها.

    وفي عام 1906 كتب (كيتا إيكِّي) في كتابه (الدولة القومية والاشتراكية الكاملة) ((لقد نجحت ثورة الإعادة جزئياً فقط، بطريقة تدميرية ضد الأرستقراطية. أما من جانب البناء فلم تحقق سوى انفجار غير مخطط له. إن الذين كان لهم الإسهام الأكبر في العملية التدميرية في ثورة الإعادة هم زعماء الزمرة الإقطاعية، أما في الجانب البنّاء والمهمة الأكثر إلحاحاً، فقد تبين أن هؤلاء الرجال أنفسهم هم المحركون الرئيسيون لعملية الاضطهاد التي سحقت أتباع الديمقراطية))*1

    (3)

    ينتقل الباحث الى نقطة ثانية في بحثه، تتعلق بعملية إعادة تشكيل الشخصية اليابانية أي (خلق إنسان ياباني جديد)، فيشير الى جهود المفكرين والمربين الهائلة في تهيئة الشعب الياباني وتثقيفه ليكون قادرا على النهوض بقوة للقيام بثورة صناعية محاذية لثورته السياسية.

    وأشار الباحث الى أن المفكرين رفضوا اعتبار التحديث يقف عند حدود الثورة الصناعية، وهم آمنوا بأن بناء مجتمع حديث على أنقاض مجتمع آسيوي تقليدي منغلق يتطلب فوق كل شيء عملية تدريب لأناس يعتبرون أن المهمة الماثلة أمامهم ثورة ثقافية واسعة، في القيم عبر احتوائها العلاقات الاجتماعية كذلك.

    وقد أشار أحد المفكرين الى أن عماد الوطن ليس بالضرورة حفنة من الأبطال. فالوطن يقوم على القدرة التنظيمية والأخلاق النبيلة لشعبه، وأن الإنسان الياباني ليس من المطلوب تنشئته على فهم إنجازات الغرب العلمية والتكنولوجية فحسب، فمن المهم تنمية شعب يمارس العلوم ويقدر على الإتيان بشيء جديد في مجالات التكنولوجيا والعلوم الطبيعية والاجتماعية.

    (4)

    وانتقل الباحث الى نقطة ثالثة وهي اختيار النماذج التي يجب أن تُحتذى في التحديث وبمسألة تواصل، أو انقطاع، الملامح الشعبية الفطرية المتأصلة في التقاليد اليابانية.

    أشار الباحث الى مشاهد تبدو غريبة، في اعتماد الكُتّاب والمفكرين لنقل النماذج الغربية والاحتذاء بها، فلم يكن نموذج (اليانكي الأمريكي) هو النموذج الذي افتتن به اليابانيون، بل نموذج (الأمريكي البيوريتاني البدائي من نيوإنجلاند). كما لم يقتد اليابانيون بالطبقة الأرستقراطية وملاكي الأراضي في إنجلترا بل اختاروا نماذج من العمال والفلاحين والعصاميين الإنجليز والأوروبيين.

    لقد أخذ اليابانيون من (الكونفوشيوسية) الصينية، وتأثروا بجان جاك روسو الفرنسي، كما أخذوا من غيرهم. وفي كتاب (الرجل الياباني النموذجي) تم تكثيف كل ما هو راقٍ في العالم ليصبح نموذجاً للإنسان الياباني المنشود. وكانت العبارة الشهيرة التي تم تكثيف الحكمة فيها (من لا يعمل لا يأكل).

    (5)

    النقطة الأخيرة التي أشار لها الباحث: وهي تأثر شعوب آسيا المجاورة لليابان والقريبة منه، واقتباسها من تجربة اليابان، عزز مكانة اليابان في نفوس اليابانيين، ليكونوا في مستوى المثل الأعلى. فينتقي الباحث نماذج تدلل على انبهار الصين والهند وإندونيسيا وسنغافورة وغيرها من الشعوب المجاورة، والكيفية التي أشار بها المفكرون والكتاب والسياسيون والاقتصاديون للتجربة اليابانية.

    ومع ذلك فإن الباحث والذي كتب بحثه في نهايات القرن العشرين، يقول: أن هناك من يقول أن ثورة المايجي لم تكتمل بعد، ومعه حق (والقول للباحث).

    انتهى القسم الخامس





    هوامش من تهميش الباحث نفسه
    *1ـ Kia Ikki Kokutairon oyobi junsei shakaishugi (National Polity and Pure Socialism ) private publication 1906) pp354-356.

  8. #18
    القسم السادس: المجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا


    الفصل الخامس عشر: التاريخ الاقتصادي لفترة الإعادة


    تقديم: نيشيكاوا شونساكو و سايتو أوسامو/ جامعة كييو وجامعة هيتو تسوباشي/ طوكيو


    الصفحات من 263ـ 288


    خصائص فترة الإعادة


    تحتفل كثير من الدول بتاريخ استقلالها كيوم وطني، فيتذكر الناس ذلك اليوم كيومٍ مفصلي في تاريخ بلادهم، ولكن ذلك اليوم لم يكن ليحدث لولا أيام وأشهر وسنوات ما قبله. وسنة 1868 والتي تعتبر سنة انتصار الثورة اليابانية (إعادة المايجي)، لم تكن منفصلة عما قبلها ولا عما بعدها.


    والمؤرخون، ومنهم اليابانيون حتى يكون باستطاعتهم تقديم قراءاتهم، لا بُد أن يربطوا ما قبل الحدث بالحدث نفسه، تماماً كما يفعل المعماري عندما يريد ربط بناء إضافي ببناء قائم، فإنه يتتبع العصب الحديدي ويربطه بحكمة حتى لا تظهر فواصل يأتي الخطر منها؛ وكما يعمل الجرّاح الذي يريد استئصال ورم خبيث.


    عندما يناقش الكاتبان مسألة الاقتصاد وأثرها في الثورة اليابانية، فإنهم يعودون بنا الى بدايات القرن التاسع عشر، ولكنهم يؤشرون على إحصاءات تمت بين عامي 1857 و 1865، ويذكرون أن التجارة قد تحسنت بنسبة 200% وبين عامي 1865 و 1880 زادت بنسبة 80%.


    يناقش الباحثان الفترة المحصورة بين 1859 و 1885، ويذكران أن التطورات الاقتصادية، كانت عبارة عن ثورة لا تقل أهمية عن الثورة السياسية، ويدرجان مميزاتها بما يلي:


    1ـ كانت فترة تضخم ونمو بكل معنى الكلمة، فبعد فتح الموانئ ارتفعت صادرات اليابان من الذهب والفضة والحرير والشاي، وشكلت السلعتان الأخيرتان 50% من إجمالي صادرات اليابان، واستفادت المناطق الريفية ومزارعي الشاي ومربي دودة القز كثيراً، ورغم التضخم الزائد، فقد أبقى أرباب العمل الأجور كما هي، مما زاد من مدخراتهم المالية.


    2ـ تم رفع القيود عن النشاط الاقتصادي؛ وتم شق الطرق، وتنظيم الضرائب والنظام النقدي والمصارف والبورصة والتربية والتعليم والجيش، معتمدين النموذج الغربي في ذلك.


    3ـ من الصعب فهم بعض وجوه السياسات النقدية والصناعية للمايجي. فمثلاً لم تأخذ حكومة المايجي بالنصيحة لإنشاء مصرف مركزي حسب النموذج الإنجليزي، واعتمدت النظام المصرفي اللامركزي المُعتمد في الولايات المتحدة.


    الاستمرارية في التاريخ الاقتصادي


    يعني مصطلح الاستمرارية، المواصلة، ولكن المواصلة مع ماذا؟ هل المقصود به المواصلة مع ما ابتدأ به اليابانيون في ثورة (إعادة المايجي)، أَم المواصلة مع ماضي اليابان السحيق؟


    لم يضع الباحثان هذا العنوان الفرعي، إلا ليشمل على المعنيين. فاليابانيون وإن كانوا يرغبوا في تغريب (تقليد الغرب) في ثورتهم، فإنهم أرادوها على مسطرتهم اليابانية القديمة.


    يناقش الباحثان، مسألة موازاة جلب الغنى والقوة لليابان كرغبة حلَّت في نفوس اليابانيين أثريائهم وفقرائهم، أسيادهم وعاميتهم، فبدءوا يتسابقون منذ بداية القرن التاسع عشر لدفع اقتصاد بلادهم للأمام، حتى يستطيعوا الوقوف في عدوان استشعروا قدومه من الخارج. ويضع الباحثان عدة دلائل على فرضيتهم:


    أولاً: ارتفاع الاستثمار بالمشاريع الزراعية، وبالذات في المناطق الفقيرة من البلاد.


    ثانياً: ارتفعت حركة السفن القادمة الى المرافئ والمغادرة لها بشكل ملفت، وأن ملكية تلك السفن كانت لليابانيين، وكأنهم تهيئوا بشكل مبكر لمواكبة زيادة الإنتاج.


    ثالثاً: تطور صناعات النسيج بشكل ملحوظ، وهبوطها فجأةً، وبالذات تلك المتعلقة بالصناعات القطنية، مما دفع الصناعيين الى تحديث طرق صناعتهم... فلم يكن هناك عنوان واحد للسير نحو الأمام، ولكن، كانت الوصفات التي توضع لعلاج أي مشكلة، وكأن البلاد في حالة حرب، وترافقها مستشفيات ميدانية لمعالجة كل إصابة.


    رابعاً: كان يظهر من بين الحكام المحليين المشبعين بروح الثورة، من يبادر للإبداع في مجال معين. فقد لُقِّب حاكم (فوكوشيما) ب (مُعبد الطرق) لما كان له قدرة فائقة على ابتكار أساليب لربط كل مناطق مقاطعته بشبكات طرق. وحاكم (ياماناشي) الذي اهتم بتوزيع بذور وشتلات (التوت) على الفلاحين المهتمين بتربية (دودة القز) لإنتاج الحرير. وآخرون لإنتاج الأصباغ، ومحطات البحث العلمي و معاينة المواصفات الخ


    خلاصة


    مما لا شك فيه أن اليابان كانت متخلفة اقتصاديا في الفترة التي جاءت بها ثورة المايجي، فقد كانت تقديرات الناتج القومي للفرد في اليابان 74 دولار للفترة بين (1874ـ1879) في حين كان الرقم يتعدى ال (200) دولار لثلاث عشرة دولة أخرى متقدمة على اليابان في ذلك الوقت.


    يتساءل الباحثان: الى أي درجة يعود الفضل بهذا التطور الاقتصادي السريع للحكومة اليابانية؟ وبعد مناقشتهما الآراء التي تقول أن للحكومة الفضل الكبير، في حين يقول أصحاب الرأي الآخر: أنه لا فضل للحكومة على هذا التطور... وكأنهما يريدان أن يصلا الى تلك الدرجة من التعادل في الرأيين، ليثبتا أن جو الثورة كان سائداً في عموم طبقات الشعب، والإرادة في التطور والتقدم الاقتصادي، كانت تجد مكانها في نفوس كل اليابانيين.

  9. #19
    الفصل السادس عشر: الإعادة وتاريخ التكنولوجيا

    تقديم: يوشيدا ميتسوكوني/ جامعة كيوتو/ اليابان

    (1)

    أدرك اليابانيون أن الجسم البشري في العالم مُتصلٌ، لا تفصله مسافة، وما على مَن يُريد النهوض إلا أن يتابع ما يجري في العالم من بحوث وآداب وغيره. وقد ضرب اليابانيون مثلاً، عندما ذكروا فضل العرب على العالم في القرن الثاني عشر الميلادي، عندما أقبل الأوروبيون على ترجمة علوم العرب، التي هي أصلاً مُترجمة عن غيرهم، ومبذول من جهد العرب عليها للإضافة والتعديل والتطوير.

    من هذا الفهم، أقبل اليابانيون على ترجمة أعمال الأوروبيين العلمية والعسكرية وغيرها من العلوم. فقد تم ترجمة (467) كتاباً من أهم الكُتب التي كتبها الأوروبيون، في فترة ما بين (1720 و 1867). وقد تصدرت الكُتب الطبية قائمة الكُتب المترجمة حيث بلغ عددها (108) كتب، تلتها الكتب العسكرية (103) كتاب، وكتب اللغة (54) كتاب، والجغرافيا والمسح (35) كتاب، ثم الرياضيات والسياسة والاقتصاد الخ.

    لاحظ اليابانيون أن اعتماد الطب الحديث (في وقته) أكثر نجاحاً من الطب القديم. أما تركيزهم على العلوم العسكرية، فكان دافعه ما جرى عند الجارة الكبيرة (الصين)، في حرب الأفيون، حيث تفوقت السُفن الحربية الغازية (الأوروبية) والمدافع المنصوبة عليها، على ما لدى الصين من إمكانيات عسكرية متواضعة.

    كان لا بُد لليابانيين حتى يذودوا عن بلادهم، أن يُمكنوا أن أنفسهم من الحصول على أفضل التقنيات التي تجعلهم يعتمدون على ذاتهم في ردع أي هجوم.

    (2)

    مما يثير الغرابة، أن الشعور في ردع الأجنبي كان منتشراً في جميع مقاطعات اليابان وحكوماته المحلية، رغم هشاشة الدولة المركزية، ورغم قلة أو انعدام التنسيق في ما بين تلك المقاطعات، فقد تشابه السلوك لحكامها في هذا الشأن.

    كانت خمس مقاطعات هي (ساغا، وساتسوما، وميتو، ونيراما، وشوغونة) تطبق ما جاء في كتاب ألفه هولندي يُدعى (أولريخ هوغنين) عام 1826، عن طريقة صب المدافع الحديدية، وجاء في الكتاب رسومات تفصيلية عن بناء وتشغيل الأفران العالية الحرارة والأفران العاكسة لصهر الحديد بالإضافة الى طرق سبك وتجويف هياكل المدافع. وقد ترجم هذا الكتاب عدة ترجمات الى اليابانية. استطاعت عدة مقاطعات تصنيع (346) مدفع من الطراز الغربي، بعد نماذج فاشلة. كما استطاعت عدة مقاطعات من إنتاج ما بين 250 الى 300 طن من الحديد المصبوب سنوياً.

    ثم اتجه اليابانيون، لتطوير صناعة السفن البخارية، معتمدين على ترجمة (دليل أوروبي) يبين تلك الصناعة. ثم تم تطوير مصانع الغزل والنسيج مستخدمين معدات تدار بالطاقة المائية. وتم تشييد مصانع للسيراميك والخزف والجلود والدهان. وقد أعرب الطبيب الهولندي (بومبي فان ميرديرفونت 1829ـ 1908) عن دهشته لازدهار تلك الصناعات، وكان يتردد على زيارة اليابان، وفي كل مرة يلاحظ التطور الكبير عن سابقتها.

    (3)

    لم يرضَ القائمون على تلك التطورات عن أنفسهم، فلاحظوا بطء الحركة والتطور، وزيادة كلفة الوحدة الإنتاجية، فكلفة إنتاج مدفع وزنه ربع طن كانت تصل الى (500) ريو، وهذه الكلفة أعلى مما لو تم استيراده من الولايات المتحدة، ففكروا بتقليل الكلفة وتقليل الوقت.

    انجذب التجار ورجال الصناعة الأجانب لجدية اليابانيين، ففكروا بالاستثمار المشترك والتبادل التقني والتجاري، وعرض علماء وباحثون أجانب خدماتهم للعمل في اليابان. فازدهرت الصناعات وتحسنت نوعيتها وقلت كلفها ومدد إنجازها. وقامت أحواض بناء السفن. وانتصبت مصانع الصلب والحديد.

    وفي عام 1855 وصل طاقم هولندي من الجيش مع هدية (سفينة بمحرك قوته 150 حصان)، فكسبت بذلك فرص تدريب الجيش الياباني والتعامل التجاري لبيع الذخيرة والأسلحة الهولندية (هولندا كانت تنافس الدول الاستعمارية في إندونيسيا وغيرها).

    كانت البعثات الهولندية أكبر البعثات الصناعية والتجارية والعسكرية. وقد استغل اليابانيون اندفاع الهولنديين، فاستفادوا من المعلومات الاستخبارية عن أعداد وخطط الدول الأخرى.

    (4)

    في عام 1870 تأسست وزارة الأشغال اليابانية، ومن أهدافها القيام بأبحاث هندسية، وتشجيع التصنيع، وتأميم المناجم وإدارتها، وصنع السفن وتجهيزها وإصلاحها وبناء وتشغيل السكك الحديدية والشبكات التلغرافية.

    كانت اليابان بالنسبة الى رجال العلم والبحث الأوروبيين (دولة ـ مختبر)، وكان الذين يزورونها أو يعملون بها من أكثر علماء أوروبا خبرة وكفاءة، وقد وُصفت في وقتها بأنها بلاد فريدة لها نظام ثقافي متكامل. فشهرة وتقدم الباحث الأوروبي الطموح تتحقق فيها أكثر من دول حتى لو كانت أوروبية.

    في عام 1877، نظمت وزارة الداخلية اليابانية أول معرض وطني ياباني شامل في (طوكيو) متخذة من معرضي باريس وفينا نموذجين لها. وقد عُرض فيه 80 ألف سلعة يابانية تمثل 16 ألف عارض (بمعدل 5 سلع لكل عارض). وقد أَمَّ المعرض 400 ألف زائر.

  10. #20
    الفصل السابع عشر: من انتقال التكنولوجيا الى الاستقلال التكنولوجي

    الحلقة الأخيرة

    تقديم: هاياشي تاكيشي/ معهد الاقتصاديات النامية ـ طوكيو

    خمسة مكونات وخمس مراحل

    يمكن أن نُعرِّف التكنولوجيا بأنها نظام من المعرفة والخبرة تم اختياره عن قصد لإدارة وسائل الإنتاج والحصول على نتاج معين (كالسلع والخدمات والمعلومات).
    والتكنولوجيا تختلف بين أمة وأخرى. فالعلم كوني من الوجهتين النظرية والعملية، لكن هذا ليس صحيحاً بالنسبة للتكنولوجيا.

    وحتى تنتقل التكنولوجيا الحديثة من محيط الى آخر، تستلزم عدة شروط، وعدم اكتمالها هو ما يفسر تفاوت الأداء بحسب الزمان والمكان.

    هناك خمسة مكونات أساسية للتكنولوجيا: 1ـ المواد بما فيها الطاقة. 2ـ القوة العاملة البشرية. 3ـ الآلات. 4ـ الإدارة. 5ـ الأسواق. ومن الأخطاء الشائعة في النقاشات حول التكنولوجيا والإنماء التركيز فقط على العنصر الثالث. فتكنولوجيا الإنتاج لا تعمل بصورة جيدة في غياب أي من العناصر الخمسة.

    حينما نسعى الى الإنماء بواسطة انتقال التكنولوجيا الهادف للتحديث، فإن الاستقلال التكنولوجي يمر بخمس مراحل: 1ـ اكتساب التقنيات العملاتية 2ـ تجميع المهارات الميكانيكية ومهارة الصيانة. 3ـ تقنيات التصليح والتحسينات الصغيرة 4ـ التصميم 5ـ الإنتاج المحلي أو إدارة أنظمة جديدة للإنماء.

    إن تشغيل آلة دون تدريب كافٍ أمرٌ خطير على المشغل وعلى الآلة. والتقنيات التشغيلية لا تكتسب إلا بالممارسة المتكررة. وعندما تتراكم مثل تلك الخبرات يصبح المُشغِّل ماهراً ويكتسب تقنيات أكثر تعقيداً وتقدماً. إن طول حياة الآلة وفعاليتها يعتمدان على صيانتها بصورة صحيحة، وبالتالي لا يمكن الفصل بين المرحلتين (1 و 2).

    الصيانة هي لُب الإدارة التكنولوجية. وكل مهندس يعلم أنه لا توجد آلة (أو مصنع) تعمل باستمرار بالكفاءة نفسها التي بدأت بها، من هنا فإن الأساليب الهندسية في إدخال التحسينات على الآلة ترتبط بالقدرات الهندسية في جميع القطاعات.

    تعتبر المرحلة الرابعة، وهي التصميم، أكثر المراحل التي تأخذ فيها العملية طابعا مؤسساتيا منهجياً. ومن السهل تعلم ونقل خبرات علمية وهندسية في التصميم.

    فالاستقلال التكنولوجي في حقل صناعي ما، يتوقف على تطوير القطاعات التكنولوجية المرتبطة به، وهذا ما يشترط ارتباط قطاعات الدولة (عامها وخاصها) بخطط مترابطة للقيام دون تكاسل في مجالاتها كافة.

    إرث ما قبل الحداثة

    يحاول اليابانيون تشبيه أنفسهم بالأوروبيين والابتعاد عن نموذج الاتحاد السوفييتي (السابق) أو الصين. ويسوقون أوجه الشبه فيما بين حضارتهم والحضارة الأوروبية.

    لقد انتبه اليابانيون الى دوام تراكم الخبرة في حرفة أو عملٍ ما، وما لذلك من أثرٍ في سرعة الإنتاج وزيادته [وهذا ما يسمونه في اليابان بالالتزام بالنمطية، ففي قطاع صناعة السيارات مثلاً من يعمل في شركة تويوتا في شد براغي المحرك مثلا، يبقى في تلك المهنة حتى تقاعده، وهناك أشبه ما يكون بالميثاق بين الشركات، أن لا تقبل عاملاً أو فنياً عمل في شركة، حتى لا تنقطع عملية تراكم الخبرات لديه، وفي نفس الشركة فإنه لا ينتقل من شد البراغي الى الدهان مثلاً، فهذه (النمطية) ستزيد من سرعته في إنجاز عمله بشكل متقن]
    حاول اليابانيون الالتزام بعدم زج أفراد لا يتلاءمون مع أدوار مهنية، فلا يصلح مثلاً مربي دودة القز لأن يكون مشتركاً في تشغيل مصنع للصلب، حتى لو تم تدريبه، فهو سيحتاج أوقات مضاعفة لما يحتاجه ابن حرفي عمل في الحديد أو طالب تكنولوجي [ هذه الظاهرة نلاحظ ما يتعارض معها في كثير من البلدان العربية حيث يُزج بمتقاعدين لأن يكونوا فنيين في مسلخ أو جامعة أو غيرها]

    كان المزارعون على أهبة الاستعداد ليكونوا متخصصين في إنتاج الأرز ضمن وسائل وتقنيات حديثة، وكانوا متطلعين للأخذ بشراهة ما يتم نقله لهم، كذلك كان يفعل ذلك من هم في كل المهن.

    تكوين المهندسين اليابانيين

    كان يوجد عدد قليل من الخبراء نسبياً وكان هؤلاء ينتقلون من مكان الى آخر ويعملون أحياناً في أكثر من عمل واحد في الوقت نفسه، كأن يعمل أحدهم لدى الحكومة وفي شركة خاصة وفي إحدى الجامعات. ونتيجة لذلك برز صنف فريد من المهندسين اليابانيين المؤهلين للاضطلاع بجملة أدوار نظراً لخبرتهم في تقنيات تشغيل الآلات. وكثيراً ما ساعد هؤلاء على ملء الفراغ الناتج عن نقص الميكانيكيين الأساسيين. وقد ساهموا أيضاً بالتدريب الميداني فأوجدوا بذلك أعدادا متزايدة من العمال المهرة.

    صمم أحد المهندسين الألمان مصنعاً للحديد في اليابان، وكان هذا المهندس (ل. بيانشي) يعتبر من أفضل المهندسين في العالم في صهر المعادن، وقد كلف المصنع (الفرن) أموالاً طائلة، وبعد أشهرٍ قليلة تعطل الفرن لأن المصمم الألماني لم يراع فوارق الوقود المستعملة في اليابان عنها في أوروبا. وقد تم دراسة تلك الأعطال على يد خبراء يابانيين وحلها دون الاستعانة بالألمان.

    تشكيل شبكة تكنولوجيا وطنية

    في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، بلغت العلاقة التكاملية العمودية والأفقية في ميدان التكنولوجيا بين الصناعات الرئيسية للتنمية الوطنية، مثل الصلب وسكك الحديد والاتصالات، والصناعات الكيميائية والثقيلة التي يدعوها الكاتب ب (الشبكة القومية العريضة للروابط التكنولوجية) بلغت مستوى موازياً لما بلغته في البلدان الأوروبية.

    ولقد وفرت الحربان العالميتان الأولى والثانية فرصا لتطوير التكنولوجيا اليابانية من دون أي منافسة من الغرب. وقد بدأ العالم منذ عام 1960 يبدي اهتماما بالتكنولوجيا اليابانية. حتى غدت اليابان بما هي عليه من شهرة وقوة اقتصادية.

    انتهى

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •