إن فهم التأثير المتبادل بين الكيان الصهيويني وبقية الأنظمة التي ترتبت على هدم الدولة العثمانية على إثر تصفية ميراث الرجل المريض كما كانت تسميه أوروبا هو أمر ضروري لفهم خارطة القوى السياسية وفهم مدى ومكان قوة وضعف أي منها .
قبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع علينا أن نفهم أن اليهودي الذي نشير إليه هنا ليس بالضرورة هو ذلك الإنسان المتدين الذي يقرأ التوراة ويعتقد بما جاء في العهد القديم , فكثير من قيادات الصهيونية هم أناس علمانيون وملحدون ولا يعترفون حتى بوجود إله وبالتالي لا نتوقع أن تكون محفزاتهم بالضرورة عقائدية بحتة وإنما تتقاطع المشاعر القومية ووظيفة خدمة الأسياد مع الدين .
إن نشأة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين كان فكرة أوروبية خالصة تداخلت فيها عدة عوامل وهي :
1- حاجة القوى الأوروبية لأداة موثوقة تحافظ على الواقع الجيوسياسي الجديد بعد تصفية الدولة العثمانية .
2- حاجة القوى ألأوروبية لصياغة منظومة متعددة مراكز القوى وتفادي وضع مفاتيح القوة في يد جهة واحدة
3- كون العنصر اليهودي منبوذ لدى الفكر المسيحي وما رافق ذلك من حقد تاريخي بين اليهود والنصارى ومشاعر معادية بين نصارى أوروبا للتجمعات اليهودية الموجودة بين ظهرانيهم فكان حشرهم في فلسطين حلا لهذه المشكلة .
4- وجود تيار ديني مسيحي أنجلوساكسوني قوي يرى أن تحقق نبوؤة الوعد التوراتي بعودة المسيح عليه السلام لا بد أن يسبقها قيام دول إسرائيل وهذا التيار موجود في أوروبا وقوي جدا في وريثتها أمريكا والعجيب أنه على الرغم من أن أتباع المذاهب المسيحية المختلفة من كاثوليك وبروتستانت وإنجليكنايين ومومورييون ومعمدانيون يكفر بعضهم بعضا ويختلفون حول الكثير من القضايا إلا أن بينهم توافقا غريبا مريبا على هذه الفكرة, بل إنها من الأفكار القليلة التي يتوافقون عليها.
5- قلق العنصر اليهودي على مصالحه في ظل ضعف الدولة العثمانية والتي كانت تشكل مظلة سياسية تحمي العنصر اليهودي من ظلم أوروبا وأيلولتها إلى الإنهيار في أية لحظة مما دفع اليهود للتفكير في بديل عن الخضوع لظلم المجتمعات الأوروبية اتي خبروا ظلمها وإحتقارها لهم عبر القرون .
6- تفشي الفكرة القومية في أوروبا وتأثر العنصر اليهودي بها .
7- الحاجة إلى أداة غير قادرة على التمرد على الدول الأوروبية , فعلى الرغم من وجود عملاء من عائلات عريقة في العالم العربي والإسلامي إلا أنهم لا يصلحون لوحدهم لرسم إستراتيجيات وتوازنات يراد لها أن تصمد لقرون قادمة حسب تخطيط دهاة إنجلترا .
كانت إنجلترا تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها تحفظ توازن القوى في أوروبا فكانت كلمات بالمرستون ( إن وحدة وإستقلالية الإمبراطورية العثمانية ضروريتان لإستمرار الهدوء والحرية وتوازن القوى في باقي أوروبا ), كانت هذه الكلمات تشكل إستراتيجية إنجليزية في مرحلة من المراحل بل وكانت إنجلترا وباقي دول أوروبا وما زالت تحمي تركيا ضد روسيا وترى في ذلك مصلحة إستراتيجية وإنعكس ذلك على الجغرافيا التي ألت إليها الدولة التركية وريثة الدولة العثمانية , لقد أثبت التاريخ صحة كلمات بالمرستون فقد نشا عن ضعف الدولة العثمانية ثم إنهيارها حربان عالميتان بين الأوروبيين بشكل أساسي وتم توريط كل البشرية في تلك الحروب .
لقد كان إنهيار الدولة العثمانية زلزالا جيوسياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وتاريخيا , كانت دول أوروبا تؤجل هذا الإنهيار لتعطي نفسها فرصة لترتيب أحوالها لتعظيم مغانمها من هذا الإنهيار كل حسب إمكاناته , كان لكل من الدول الإستعمارية الفاعلة وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا من العملاء من أبناء المنطقة ما يشكل أساسا تستطيع أن تبني عليه ما يلزم من ترتيبات لحفظ مصالحها في العالم الإسلامي ولكن هذه الشبكة من العملاء لم تكن تصلح لبناء توازنات إقليمية ودولية تحفظ مصالح الدول الإستعمارية بدون تعريضها للخطرلأن المدى الذي يستطيع مثل هؤلاء العملاء الذهاب إليه في خدمة أسيادهم كان محدودا لأنهم ينظر إليهم في داخل مجتمعاتهم كخونة وأدوات للإستعمار وستنبذهم مجتمعاتهم عند إنكشاف علاقتهم بأسيادهم على قاعدة أنهم يتولون من كفر وأيضا فإن بلوغ هؤلاء العملاء درجة معينة من القوة قد يهدد مصالح القوى الأوروبية لأنهم جزء طبيعي من مكونات المنطقة ولهم إمتداداتهم العميقة في مجتمعاتهم والتي قد يستخدمونها هم أو أسلافهم بطريقة قد تهدد مصالح أسيادهم , من هنا كان لا بد من صناعة كيان يجمع بين القوة والضعف في أن معا , لا تقوم له قائمة بذاته ولا تقوم لمن حوله قائمة لوحدهم وتكون خيوطهم جميعا بيد أسيادهم وليس فيما بينهم .
في ظل السعي لصياغة منظومة توازنات جديدة مطلوبة وبشكل ملح إستعدادا لما بعد إنهيار الدولة العثمانية الحتمي صنعت أوروبا الحركة الصهيونية في قلب أوروبا وفي أوج قوة أوروبا وبالتالي لا يستطيع أحد القول بأن الصهيونية أرغمت الأوروبيين على تنفيذ مطامحها , بل كانت الصهيونية حركة عميلة للقوى الأوروبية قادت يهود نحو جزء من بلاد المسلمين أسماه الأوروبيون فلسطين من أجل إنشاء كيان لليهود لحماية مصالح الإستعمار الأوروبي ولاحقا الأمريكي , لو كان القادة السياسيون للمشروع الصهيوني مخلصون لأمتهم لما أوقعوها في هذا الشرك التاريخي الذي نصبته لهم المسيحية الأوروبية , لماذا نسمي هذا المشروع شركا تاريخيا ؟ : إبتداء لن يستطيع اليهود أن يبنوا إمبراطورية على غرار القوى العظمى فهم يحملون فكرا دينيا وقوميا عنصريا لا يمتلك في طياته أي خطاب تجاه الأخر , فهم لا يقدمون عقيدة قابلة للتبني من طرف البشر وبالتالي هم غير قادرين على التمدد العقائدي في المنطقة عبر كسب المؤيدين لفكرهم وهم من ناحية العدد محصورون ببضعة ملايين وسط بحر هادر من المسلمين كاد يبلغ مليارين , تحت الأرض التي يعيش عليها هذه المليارات من المسلمين بركان يغلي منذ مئات السنين ينتظر لحظة تضعف فيها القشرة الأرضية ليتفجر معيدا بناء الكيان السياسي للأمة الإسلامية وعندما ينفجر هذا البركان سيكون هؤلاء اليهود أول ضحاياه , يعلم دهاة السياسة من الأوروبيين هذه الحقائق وهم إذ وضعوا اليهود في هذا الموقف في ميزان القوى الدولية يكونون قد حققوا غايتين إستراتيجيتين بضربة واحدة : حماية مصالحهم في بلاد المسلمين أثناء ضعف الأمة الإسلامية , أما عندما يتغير حال الأمة الإسلامية نحو إستعادتها لكيانها وتستعيد عافيتها فسيكون أول أثار هذا التغيير القضاء بلا رحمة على هذا العنصر الإحتلالي الطارىء على جسم العالم الإسلامي فيكون الأوروبيون قد ربحوا أيضا بخلاصهم من العنصر اليهودي الذي كان مصدر أرق في داخل مجتمعاتهم .
كان لا بد من هذه المقدمة التاريخية التي توضح ملابسات نشأة الكيان الصهيويني في منطقتنا وعلى أرضنا .
الكيان الصهيوني الموجود حاليا لا يستطيع ان يقوم بالأعمال التالية مجتمعة والمطلوبة لبقائه وإستمراره منفردا :
1- حماية حدوده الشرقية والتي تبلغ مئات الكيلومترات .
2- حماية حدوده الجنوبية من أهل مصر التي يبلغ تعداد سكانها مائة مليون نسمة .
3- حماية حدوده الشمالية المطلة على مرتفعات الجولان .
4- حماية واجهته البحرية الغربية وأهمية ذلك في حركة الشحن البحري وبالأخص مشروعه الإستراتيجي المتعلق بإستخراج الغاز من البحر الأبيض المتوسط وما يستلزمه ذلك من : حفر , نقل موظفين , وأمن منشأت , أمن خطوط نقل , فتح أسواق ونقل الغاز لهذه الأسواق .
5- تأمين العبور من البحر الأحمر عبر منفذ إيلات العقبة .
6- حماية أمنه الداخلي بنفسه وعبر أجهزته بدون تقديم المساعدة له من الداخل من بعض أهل فلسطين . هو في الحقيقة يستطيع لكن بتكلفة عالية جدا وبتعقيدات لوجستية وأمنبة ضخمة جدا .
7- الإستفادة من الأحواض المائية المشتركة مع دول الجوار
8- إستخراج الغاز من البحر الأبيض المتوسط وما يستلزمه ذلك من : حفر , نقل موظفين , وأمن منشأت , أمن خطوط نقل , فتح أسواق لبيع الغاز ونقله ليصل إلى أسواقه .
9- رحلات النقل الجوي سواء الفردية أو الشحن التجاري .
10- إستيراد المواد التي تلزم للغذاء والصناعة .
11- تسويق منتجاته .


وإنطلاقا من هذه الحقائق قلنا أن هذا الكيان لا بقاء له من دون دول منظومة سايكس بيكو التي تمده بأسباب الحياة .
أما دول منظومة سايكس بيكو الموجودة حاليا فإنها لا تستطيع أن تقوم بالأعمال التالية منفردة :
1- الحفاظ على الحدود القائمة بين ملكياتها وإماراتها وجمهورياتها بإمكاناتها الذاتية لأن هذه الحدود المصنعة كما إحتاجت إلى قوة غاشمة لصناعتها فهي تحتاج قوة مضاعفة للحفاظ عليها ولفرضها على أهل المنطقة لأنها ببساطة حدود عابرة لثقافة واحدة ولروح واحدة تجمع بين أمة واحدة ولا يمكن الحفاظ عليها بدون قوة قاهرة تقف في وجه طموحات أهل المنطقة المنبثقة من وحدة شعورية منبثقة من وحدة ثقافية حضارية وروح واحدة ضاربة لجذورها في أعماق التاريخ .
2- خدمة المشروع الإستعماري في المنطقة بشكل علني ومكشوف .
3- تفتقر إلى القدرة الذاتية على الإستمرار عند إستنفاذها لمهمتها الوظيفية التي أوكلت لها عند صناعتها .
4- ردع القوى الداخلية الواعية والمخلصة التي تعمل للتغيير .


إذا علمنا أن حجم القوة اللازم وضعها بيد أنظمة سايكس بيكو من أجل تمكينها من القيام بالأمور الأربعة التي ذكرناها أعلاه تبلغ حدا يشكل تهديدا لأسيادها لو حصلت إضطرابات داخلية فيها وألت هذه القوة لكيانات معادية للقوى الإستعمارية لعلمنا لماذا يجب أن توجد إسرائيل , فهي وجدت من أجل أن تحوز على الكم اللازم من القوة التي المطلوبة لإخضاع المنطقة ولكن من دون أن تبلغ حدا يشكل تهديدا إذا كانت مفاتيح هذه القوة في أيدي العملاء من أبناء المسلمين ومن هنا قلنا أنه لا بقاء للكيان الصهيوني بدون أقطار منظومة سايكس بيكو ولا بقاء لأقطار منظومة سايكس بيكو بدون الكيان الصهيوني فهو حجر الزاوية في هذه الكيان أو هو كما قال صديقي " العصا التي يهش بها الراعي على غنمه " فلا العصا يستقيم حالها بدون الغنم ولا الغنم يستقيم حالها بدون العصا والعصا والغنم لراعيها .
منقول