د. غــازي حسيـن

بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لاغتيال الكونت برنادوت أصدر المؤلف السويدي يوران بورين كتاباً بعنوان «مقتل فولك برنادوت»، مستعيناً بوثائق جديدة اطلع عليها في وزارة الخارجية السويدية. وألقى المؤلف في كتابه الضوء على مهمة الأمير السويدي والوسيط الدولي في فلسطين، الذي عينه مجلس الأمن الدولي ودفع حياته ثمناً لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وأشار فيه إلى عدم اهتمام إسرائيل بالجريمة وبمعاقبة مرتكبيها وإلى تقاعس الحكومة السويدية تجاهها، وهذه هي الصورة النمطية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم في التعامل مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والاغتيالات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي وردود الفعل عليها..
وتناول الأسباب التي أدت إلى مقتله على يد العصابات اليهودية الإرهابية المسلحة وموافقة الحكومة الإسرائيلية عليها، ومدى تأثير مقتله على العلاقات ما بين السويد وإسرائيل على المستويين الشعبي والرسمي.
والأمير برنادوت هو ابن أخ الملك أوسكار الثاني، وترأس جمعية الصليب الأحمر في السويد، ونجح في إنقاذ عشرات الآلاف من اليهود من المعتقلات النازية. لذلك أحبه اليهود جداً، مما دفعهم لتشكيل مجموعة ضغط في الأمم لاختياره لمهمة الوسيط الدولي في فلسطين بدلاً من المرشح الآخر باول فان زيلاند واعتقدوا بأنه سينحاز لهم ويبرر لهم كل ما يرتكبونه بحق الشعب الفلسطيني من عنصرية واستعمار استيطاني وجرائم ضد السلام.
ناضل الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطاني ووقف الهجرة اليهودية وإقامة الدولة المستقلة لكل مواطنيها في كل فلسطين التاريخية.
وعندما أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين في القرار /181/ وافقت عليه بعض القيادات اليهودية ورفضته أكثريتهم، وكانت موافقتهم نظرياً ومرحلياً على طريق إقامة دولة اليهود في كل فلسطين وشرق الأردن أو من النيل إلى الفرات، إذا تمكنوا من تحقيق ذلك عن طريق الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية وأتباعهم من الأمراء والملوك العرب.
إذاً لماذا قتل اليهود الوسيط الدولي برنادوت رغم اختيارهم له كوسيط دولي لإيجاد حل لقضية فلسطين؟
يورد المؤلف في الصفحة 142 اقتباساً من كتاب برنادوت «إلى القدس» قال فيه: «تعرفت في حياتي على الكثير من معسكرات اللاجئين، لكني لم أر أبداً مشهداً أفظع مما شاهدته هنا في رام الله» وطالب بعودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم وتعويضهم عن الخسائر والأضرار التي لحقت بهم.
وورد في الكتاب السويدي في الصفحة 111 ما ذكره المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بأن العصابات اليهودية الإرهابية المسلّحة قد دمرت حوالي (200) قرية ومدينة فلسطينية قبل إعلان تأسيس إسرائيل.
وأدت مطالبة برنادوت بعودة اللاجئين إلى ديارهم، وضم النقب إلى الدولة الفلسطينية ووقف اليهود تهريب السلاح من تشيكوسلوفاكيا إلى حملة من الحقد والكراهية قادتها الحكومة الإسرائيلية أدت إلى مقتله.
فكيف بدأت قصة الأمير السويدي برنادوت مع قضية فلسطين واغتياله على يد عصابة شتيرن الإرهابية، التي كان يقودها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق شامير؟
على أثر تصاعد المجازر الجماعية التي قامت بها العصابات اليهودية الإرهابية المسلحة وبلغت 74 مجزرة جماعية على غرار مجزرة دير ياسين قبل تأسيس الكيان الصهيوني، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعيِّن وسيطاً دولياً لتنفيذ قرار التقسيم وإحلال السلام في فلسطين واتخذت القرار رقم 186 بتاريخ 14 أيار 1948 وجاء فيه:
«إن الجمعية العامة... تخوِّل وسيطاً تابعاً للأمم المتحدة في فلسطين، تختاره لجنة من الجمعية العامة مؤلفة من ممثلي الصين وفرنسا واتحاد الجمهوريات السوفييتية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية سلطة للقيام بالمهمات التالية:
1 ـ استعمال مساعيه الحميدة لدى السلطات المحلية والطائفية في فلسطين في سبيل: ... تشجيع إيجاد تعديل سلمي في مستقبل وضع فلسطين(1)».
وطلبت الأمم المتحدة من الوسيط الدولي أن يرفع تقارير شهرية عن تقدم مهمته إلى مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة لرفعها إلى أعضاء الجمعية العامة.
اختارت اللجنة التي عينتها الأمم المتحدة من ممثلي الدول الخمس الكبرى، دائمي العضوية في مجلس الأمن الدولي في 20/5/1948 السويدي الكونت فولك برنادوت، وهو ضابط سويدي لعب دوراً في إنقاذ آلاف اليهود من الاضطهاد النازي.
وقد استطاع أن يحقق الهدنة الأولى في 11/6/1948 التي ساعدت القوات الصهيونية على استيراد كميات هائلة من الأسلحة والعتاد الحربي من تشكوسلوفاكيا والولايات المتحدة الأميركية، والتي أثرت تأثيراً مباشراً في المراحل اللاحقة على حرب عام 1948 لصالح القوات الصهيونية.
ونجح في مساعيه لدى الجانبين العربي ـ والإسرائيلي بعقد مفاوضات في جزيرة رودوس في نهاية عام 1948.
قدم مقترحاته الأولى للأمم المتحدة حول الوضع في فلسطين في 27/6/1948 لتطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 181 ونصت النقطة التاسعة منها على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم واسترجاع ممتلكاتهم وتضمنت ما يلي:
«لسكان فلسطين إذا غادروها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم الحق في العودة إلى بلادهم دون قيد واسترجاع ممتلكاتهم(2)».
وتضمنت مقترحاته حول حدود الدولة الفلسطينية والدولة اليهودية ما يلي:
1ـ ضم منطقة النقب بأكملها أو جزء منها إلى أراضي الدولة العربية.
2 ـ ضم منطقة الجليل الغربي بأكملها أو جزء منها إلى أراضي الدولة اليهودية.
3 ـ إعادة النظر في وضع مدينة يافا.
4 ـ ضم مدينة القدس إلى الأراضي العربية، أي إلى الدولة الفلسطينية(3).
رفض زعماء الحركة الصهيونية مقترحات الوسيط الدولي الكونت برنادوت لأنها تعطي مدينة القدس ومنطقة النقب للدولة العربية الفلسطينية، وتنص على إنشاء ميناء حر في حيفا ومطار جوي حر في اللد (والمعروف حالياً بمطار تل أبيب)، واقترح إقامة اتحاد بين فلسطين وشرق الأردن.
رفض الأمين العام للجامعة العربية مقترحات برنادوت أيضاً، وأصر على عروبة فلسطين.
وبالمقابل أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية تأييدها للمقترحات في حين عارضها الاتحاد السوفييتي.
أعدّ برنادوت صيغة معدّله لمقترحاته على ضوء ما تلقاه من ردود وملاحظات، وما لاحظه من انطباعات ومشاهدات عند زيارته لفلسطين، وأنجز صيغة معدّلة لمقترحاته عرفت باسم «مشروع برنادوت» بعث بها قبل اغتياله إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
غضب الصهاينة عندما علموا بأن برنادوت أوصى بضم النقب إلى الدولة الفلسطينية وتدويل مدينة القدس في مقترحاته الجديدة، على الرغم من أنها احتوت على ضم الجليل الغربي إلى الدولة اليهودية. واعتبروا أن ضم النقب إلى الدولة الفلسطينية، بينما نص قرار التقسيم على إعطائها للدولة اليهودية يعني طعنة في صميم الأهداف الصهيونية، لأنه يعني عدم تمكنهم من تهجير أعداد كبيرة من المستعمرين اليهود إلى الكيان الصهيوني.
وزعموا أن الكونت برنادوت فعل ذلك خدمة لبريطانيا وهو عميل لها وشنوا حرباً إعلامية عليه، ومن المعروف أن بريطانيا صاحبة وعد بلفور غير الشرعي ونظام الانتداب البريطاني على فلسطين الاستعماري الذي مهّد إلى إقامة إسرائيل.
أرسل الكونت برنادوت مشروعه إلى الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة. ووصل في 16 أيلول 1948 مطار بيروت في طريقه إلى فلسطين. وفي 17 أيلول توجه بالطائرة من بيروت إلى مطار قلندية في القدس، وما إن وصلت الطائرة أجواء القدس حتى تلقى عامل اللا سلكي بالطائرة إشارة لا سلكية سلمها للكونت برنادوت وصلت إليه من مكتبه في حيفا تحذره من الهبوط في مطار القدس، حيث لديهم معلومات أن محاولة ستتم لحرق طائرته ومهاجمته لدى هبوطها. وطلب منه تغيير مكان الهبوط لكنه لم يقبل بنصيحة مكتبه وهبط في مطار القدس(4).
توجه برنادوت من مطار القدس العربي مطار قلنديا إلى مدينة رام الله. واجتمع هناك مع قائد القوات الأردنية البريطاني لاش، الذي أمر بتأمين حراسة مصفحة لبرنادوت إلى القدس.
وصل برنادوت إلى القدس بحراسة أردنية، وعندما وصل القطاع المحتل من القدس العربية عادت الحراسة الأردنية وتسلمت حراسته مجموعة إسرائيلية ورافقه ضابط الاتصال الإسرائيلي الكابتن هيلمان.
توجه برنادوت رأساً إلى الكلية العربية في القدس التي احتلتها «إسرائيل» خلال فترة الهدنة، وطلب من الإسرائيليين مغادرتها وقدم لهم احتجاجاً على احتلالها.
كانت قافلة الكونت برنادوت وهي تسير في القدس الغربية التي احتلتها «إسرائيل» مؤلفة من ثلاث سيارات، وتحمل على مقدمتها علم الأمم المتحدة. وكان الكابتن الإسرائيلي هيلمان يجلس في السيارة الأولى وبرنادوت في السيارة الثالثة، وجلس بجانبه الكولونيل الفرنسي سيرو، رئيس المراقبين الدوليين في القدس.
مرت القافلة عن نقطتين إسرائيليتين للتفتيش داخل القدس الغربية المحتلة ولم تتوقف، لأن ضابط الارتباط الإسرائيلي هيلمان كان يطل برأسه من السيارة الأولى ليتعرف الحرس الإسرائيلي عليه، ومرت القافلة بدون توقف أو تفتيش.
وعندما كانت القافلة تسير في طريقها فوجئ الموكب بسيارة جيب إسرائيلية تقف في عرض الطريق.
تحدث ضابط الارتباط الإسرائيلي هيلمان مع شخصين بجوار سيارة الجيب وأخبرهما بأنها قافلة الوسيط الدولي برنادوت. تقدم شخصان آخران وطلبا هويات الركاب في القافلة، وعندما عرفا شخصية الكونت برنادوت أطلقا عليه الرصاص من رشاشاتهم في صدره فمات على الفور، وأصيب الكولونيل الفرنسي سيرو بجراح خطيرة توفي على أثرها.
حاول قائد المراقبين الدوليين الكولونيل بيغلي القبض على أحد القتلة فأطلقوا النار عليه وأصيب بجراح بالغة. وهكذا انتهت مقترحات برنادوت بمقتله.
ثبت فيما بعد أن القتلة هم من عصابة شتيرن التي كان يرأسها السفاح اسحق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما بعد، وهم:
1 ـ ناتان فريدمان يلين. 2 ـ يهوشع زيتلر. 3 ـ إسرائيل شهيب 4 ـ اسحق عايزرنتسكي 5 ـ جوشوكوهين. 6 ـ ستيلي غولدفوت.
سادت موجة ألم وغضب واستنكار شديد في أوساط الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن الدولي، ولكن الصهاينة كعادتهم في التمويه والتضليل والكذب أعلن دافيد بن غوريون أن العملية الإجرامية التي قامت بها عصابة شتيرن المتمردة والخارجة عن القيادة الإسرائيلية باغتيال الكونت برنادوت «لاقت أشد الألم والاستنكار لدى الحكومة وأنها ستعاقب القتلة(5)».
ألقت الحكومة الإسرائيلية القبض على حوالي خمسين يهودياً منهم ناتان فريدمان يلين، قائد المجموعة المجرمة التي نفذت جريمة اغتيال الوسيط الدولي.
وأعلن بن غوريون أن المحكمة الإسرائيلية حكمت على القتلة بالسجن المؤبد لأن عقوبة الإعداد غير واردة في قانون «دولة إسرائيل» وسيقضي هؤلاء المجرمون حياتهم بين قضبان الزنازين.
أمضى الإرهابيون اليهود عدة أشهر في السجن ثم أصدرت حكومة بن غوريون عنهم قراراً بالعفو. وكافأهم الشعب الإسرائيلي بانتخاب قائد المجموعة الإرهابية ناتان فريدمان كعضو في الكنيست في أول انتخابات إسرائيلية جرت عام 1949.
عقد مجلس الأمن الدولي في 18 أيلول 1948 جلسة خاصة على أثر اغتيال الوسيط الدولي برنادوت وأعرب عن الصدمة العنيفة لاغتياله واتخذ القرار رقم 57 وجاء فيه:
«إن مجلس الأمن، وقد أصيب بصدمة عنيفة لموت وسيط الأمم المتحدة بفلسطين الكونت فولك برنادوت الفاجع، نتيجة عمل جبان يبدو أنه اقترفته جماعة مجرمة من الإرهابيين في القدس بينما كان ممثل الأمم المتحدة يؤدي مهمته سعياً للسلام في الأرض المقدسة، يقرر الطلب إلى الأمين العام إبقاء علم الأمم المتحدة منكساً مدة ثلاثة أيام...»(6).
امتنعت «إسرائيل» كعادتها في الاستخفاف بقرارات مجلس الأمن الدولي عن تقديم تقرير إلى الأمم المتحدة عن الجريمة النكراء التي ارتكبها الإرهابيون اليهود، مما دفع بمجلس الأمن اتخاذ القرار رقم 59 بتاريخ 19 تشرين الأول 1948 عبّر فيه عن قلق المجلس لعدم تقديم «إسرائيل» تقريراً عن اغتيال برنادوت جاء فيه:
«إن مجلس الأمن... 1 ـ يلاحظ بقلق أن حكومة إسرائيل المؤقتة لم تقدم حتى الآن تقريراً إلى مجلس الأمن أو إلى الوسيط بالوكالة حول تقدم التحقيق عن الاغتيالين (اغتيال وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت واغتيال مراقب الأمم المتحدة أندريه سيرو).
2 ـ يطلب إلى تلك الحكومة أن تقدم في وقت قريب إلى مجلس الأمن تقريراً عما أحرزه التحقيق من تقدم وتشير فيه إلى الإجراءات التي اتخذت بشأن إهمال الموظفين أو عن العناصر الأخرى المؤثرة في الجريمة(7).
وهكذا انتهت جريمة اغتيال الكونت فولك برنادوت، وسيط الأمم المتحدة، والكولونيل أندريه سيرو على أيدي عصابة شتيرن الإرهابية، وفي محاولة من القادة اليهود شطب حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم تنفيذاً للقرارين 181 و194.
ولا تزال إسرائيل تستخدم القوة والاحتلال ومصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويدها وجلب قطعان المستعمرين اليهود من جميع أنحاء العالم لإقامة إسرائيل العظمى الاقتصادية من النيل إلى الفرات.

المصــادر:

1 ـ قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1973، ص13.
2 ـ الموسوعة الفلسطينية، المجلد الأول، الطبعة الأولى 1948، ص380.
3 ـ المصدر السابق نفسه.
4 ـ علي سعادة الهولوكوست الفلسطيني، عمان 2000، ص72.
5 ـ المصدر السابق، ص74.
6 ـ قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين، مصدر سابق، ص106 ـ 107.
7 ـ المصدر السابق، ص107.