أصابتنى القشعريرة من الرهبة حين دخلتُ أول مرة إلى مصنع النصر لفحم الكوك فى التسعينيات. لعله الامتداد الشاسع للمصنع، مع أنى لست بالغريبة عن المصانع المصرية الكبيرة الواسعة، فقد جبت معظمها شمالا وجنوبا. أو لعله تاريخ المصنع الذى ارتبط بنهضة التصنيع بغرض إحلال الواردات التى شهدتها الستينيات فى إطار التحرر من الاستعمار والاستقلال الاقتصادى. أو لعل ما أربكنى هو حال «عزيز قوم ذل» الذى رأيت عليه المصنع. فقد كانت الشركة تكابد خسائر فادحة كل عام. حتى صارت على وشك الإغلاق والتصفية وتشريد العاملين.
دخلت المصنع كخبيرة مسئولة عن وضع نظام لتأكيد وإدارة الجودة (الأيزو) للشركة وتطبيقها، كمحاولة أخيرة من الإدارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل تصفيتها. هى شركة من أصل 30 شركة عامة وخاصة قمت بتأهيلها، بصفتى كبير الاستشاريين لنظم إدارة الجودة فى مجموعة حازم حسن، ومن قبلها عضو هيئة منح شهادات الجودة بوزارة الصناعة.
كانت الشركة تمد شركة الحديد والصلب وصناعات أخرى بفحم الكوك. وتضم عددا كبيرا من المهندسين والفنيين. بدأت عملى بالاستماع إلى شكاوى العاملين، وذلك بعد تعريفهم على متطلبات نظام الجودة من خلال عدد من المحاضرات. كما قمت بدراسة المنتجات غير المطابقة للمواصفات وأسباب عدم مطابقتها. واكتشفت أن المنتجات غير المطابقة منتجة معظمها فى الوردية الثالثة. وعند تحديد العاملين بتلك الوردية، اتضح أن معظمهم من العاملين بالوردية السابقة ويستمرون بالعمل لنقص العمالة فى الوردية الثالثة. وحين استفسرت عن سبب نقص العمالة، وجدت أنه بسبب صدور قرار سيادى بوقف التعيينات بشركات القطاع العام، وبمزيد من الدراسة لأوضاع الموارد البشرية بالشركة اتضح أن الكثير منها قد اقترب من سن المعاش، وأنه لا يوجد من يحل محلهم بعد تقاعدهم.
هكذا، ذهبت لمقابلة المهندس عادل الموزى، رئيس الشركة حينذاك، لأشرح له وضع الموارد البشرية فى المصنع الذى هو مسئول عن إدارته. استطاع الرجل انتزاع الموافقة على استثناء المصنع من القرار إياه، وتم تعيين المهندسين والعمال اللازمين وتدريبهم، واستكمل المصنع إجراءات تأكيد وإدارة الجودة، ليتحول من الخسارة إلى الربح، بدون شراء آلات أو معدات جديدة مكلفة. فقط تطبيق تعليمات نظام تأكيد وإدارة الجودة، وهو نظام يستغرق من عام إلى عامين على حد أقصى.
ما أسهل أن نلقى باللوم على إهمال العمال حين تصيب الكوارث مؤسسة أو شركة ما. ولكن الدراسة المعمقة هى ما تعطينا مخارج وحلول علمية. فالعامل وفق خبرتى من أكثر الحريصين على صون مصدر رزقه. أعتقد أن هناك وضعا شبيها لوضع النصر للكوك نجده اليوم فى هيئة السكة الحديد.
نظام جودة للسكة الحديد
اتجهت معظم الدول المتقدمة منذ بداية القرن العشرين إلى وضع وتطبيق نظم تأكيد وإدارة الجودة، التى تطورت مع الوقت بتطور الصناعات والمؤسسات. وهى صادرة عن المنظمة الدولية للمواصفات القياسية المعروفة اختصارا بـISO، ومقرها جنيف. وبدأت مصر فى تبنيها فى الثمانينيات. وتتضمن تلك النظم عدة بنود رئيسية يجب أن توفرها الهيئة أو المؤسسة، وعلى جميع العاملين تطبيقها، بدءا من الرئيس وحتى أصغر عامل بها. وتعمل وفقا لإجراءات وتعليمات عمل مكتوبة وموثقة لكل مهمة أو عمل ــ وتضمها وثيقة دليل الجودة quality manual. وتحدد تلك الوثيقة، التى هى بمثابة عقد ملزم، متطلبات النظام، ومن ضمنها: مسئولية الإدارة بالتفصيل، مراجعة إبرام العقود ووصف الخدمات، تصميم المنتج أو الخدمة، ضبط وقياس عملية الإنتاج أو تقديم الخدمة لمنع الخطأ أو عدم المطابقة، ضبط المواصفات وسجلات الجودة وتحقيق إمكانية التتبع لكل منتج أو خدمة، والتدريب السنوى لكل العاملين. وتتضمن كل البنود الإجراءات وتعليمات عمل مفصلة لجميع العمليات اللازمة للنشاط، كما تضم إجراءات وتعليمات عمل النظافة والصيانة الوقائية للمعدات بشكل أساسى.
وقد تنبهت مع بداية القرن الـ21 الشركات الكبرى المتخصصة فى السكك الحديدية خاصة فى الدول المتقدمة إلى ضرورة استخدام نظم إدارة الجودة فى كل مجالات الإنتاج والتشغيل، فهى خطوة مهمة إلى الأمام، تؤدى إلى قطارات جيدة وآمنة، خاصة بعد انتشار الحوادث وتردى خدمات القطارات الذى ترافق مع خصخصة السكك الحديدية.
وتؤدى مواصفات الأيزو المصادرة حديثا لمساعدة السكك الحديدية حول العالم للوصول إلى مستوى أفضل من التنمية المستدامة.
وقد سبقت الأيزو فى هذا الاتجاه «المواصفات العالمية للسكك الحديدية IRIS، الصادرة فى عام 2006، التى حصلت معظم الشركات والدول المتقدمة على شهادة التأهيل الخاصة بها، نحو 1500 شهادة فى 50 دولة على مستوى العالم، منها البرازيل والهند وجنوب إفريقيا وعدد من دول شرق آسيا. كما توجد أيضا المواصفة الأوروبية UNIFE. وتلك الأخيرة بدورها معتمدة على أحدث مواصفة لـ ISO 9001، الصادرة فى عام 2008.
وقد أصدرت منظمة الأيزو خلال الأعوام القليلة الماضية، وما زالت تعمل على إصدار، الوثائق اللازمة لتطوير نظم جودة السكك الحديدية، والتى تتطلب التركيز على الجودة فى كل خطوة من الخطوات، مع تقسيم الخدمة إلى ثلاثة أقسام: البنية التحتية وإدارة المخزون وأخيرا العمليات والخدمات. وكما يشير موقع منظمة الأيزو، صدرت منها بالفعل وثائق مواصفة تطبيقات السكك الحديدية ــ متطلبات نظم إدارة الجودة ISO/TS 22163 وISO9001: 2015. وقد ساهم فى كتابة تلك الوثائق 35 مصنعا، وخبراء فى وضع المواصفات من 11 دولة. ومن أهم مميزات هذه المواصفة التركيز على الأمان وإدارة المشروعات، مما يجعلها واجبة التطبيق فى مصر. هذا بالإضافة إلى ما ينتج عن التطبيق من خفض لتكاليف التشغيل، وفقا لرأى چيل شوپار ــ جيومون، خبير فرنسى فى نظم الجودة وأحد أهم المشاركين فى وضع المواصفات القياسية. كما أن تكاليف التأهيل والحصول على الشهادة ليست مرتفعة قياسا بتكاليف خسائر الحوادث.
***
فى مصر وقع 1780 حادث قطارات خلال العام 2017، بحسب بيانات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء. وهو الرقم الأعلى خلال العقد الماضى. وترافق ذلك مع تضاؤل الميزانيات المخصصة لهيئة السكك الحديدية.
الطريق السهل فى حالة شح الموارد هو تجميد التعيينات ووقف تدريب العاملين، وعدم تجديد العمالة بأخرى شابة، وتجميد الأجور. ولكنه طريق التقشف الغبى. الإصلاح الجيد هو الذى يقتفى أسباب التدهور ويعالجها، وتدار المنشأة وفقا لأعلى معايير الجودة، وهو طريق بدوره يؤدى إلى تقليل النفقات. هذا ما رأيته بعينى فى القطاعين العام والخاص، فى عشرات الشركات والمصانع التى تبنَّت الطريق الأصعب. لا داعى لإعادة اختراع العجلة. الحل الوحيد للسكة الحديد فى مصر هو البدء فورا فى وضع منظومة لإدارة الجودة.أصابتنى القشعريرة من الرهبة حين دخلتُ أول مرة إلى مصنع النصر لفحم الكوك فى التسعينيات. لعله الامتداد الشاسع للمصنع، مع أنى لست بالغريبة عن المصانع المصرية الكبيرة الواسعة، فقد جبت معظمها شمالا وجنوبا. أو لعله تاريخ المصنع الذى ارتبط بنهضة التصنيع بغرض إحلال الواردات التى شهدتها الستينيات فى إطار التحرر من الاستعمار والاستقلال الاقتصادى. أو لعل ما أربكنى هو حال «عزيز قوم ذل» الذى رأيت عليه المصنع. فقد كانت الشركة تكابد خسائر فادحة كل عام. حتى صارت على وشك الإغلاق والتصفية وتشريد العاملين.

دخلت المصنع كخبيرة مسئولة عن وضع نظام لتأكيد وإدارة الجودة (الأيزو) للشركة وتطبيقها، كمحاولة أخيرة من الإدارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل تصفيتها. هى شركة من أصل 30 شركة عامة وخاصة قمت بتأهيلها، بصفتى كبير الاستشاريين لنظم إدارة الجودة فى مجموعة حازم حسن، ومن قبلها عضو هيئة منح شهادات الجودة بوزارة الصناعة.
كانت الشركة تمد شركة الحديد والصلب وصناعات أخرى بفحم الكوك. وتضم عددا كبيرا من المهندسين والفنيين. بدأت عملى بالاستماع إلى شكاوى العاملين، وذلك بعد تعريفهم على متطلبات نظام الجودة من خلال عدد من المحاضرات. كما قمت بدراسة المنتجات غير المطابقة للمواصفات وأسباب عدم مطابقتها. واكتشفت أن المنتجات غير المطابقة منتجة معظمها فى الوردية الثالثة. وعند تحديد العاملين بتلك الوردية، اتضح أن معظمهم من العاملين بالوردية السابقة ويستمرون بالعمل لنقص العمالة فى الوردية الثالثة. وحين استفسرت عن سبب نقص العمالة، وجدت أنه بسبب صدور قرار سيادى بوقف التعيينات بشركات القطاع العام، وبمزيد من الدراسة لأوضاع الموارد البشرية بالشركة اتضح أن الكثير منها قد اقترب من سن المعاش، وأنه لا يوجد من يحل محلهم بعد تقاعدهم.
هكذا، ذهبت لمقابلة المهندس عادل الموزى، رئيس الشركة حينذاك، لأشرح له وضع الموارد البشرية فى المصنع الذى هو مسئول عن إدارته. استطاع الرجل انتزاع الموافقة على استثناء المصنع من القرار إياه، وتم تعيين المهندسين والعمال اللازمين وتدريبهم، واستكمل المصنع إجراءات تأكيد وإدارة الجودة، ليتحول من الخسارة إلى الربح، بدون شراء آلات أو معدات جديدة مكلفة. فقط تطبيق تعليمات نظام تأكيد وإدارة الجودة، وهو نظام يستغرق من عام إلى عامين على حد أقصى.
ما أسهل أن نلقى باللوم على إهمال العمال حين تصيب الكوارث مؤسسة أو شركة ما. ولكن الدراسة المعمقة هى ما تعطينا مخارج وحلول علمية. فالعامل وفق خبرتى من أكثر الحريصين على صون مصدر رزقه. أعتقد أن هناك وضعا شبيها لوضع النصر للكوك نجده اليوم فى هيئة السكة الحديد.
نظام جودة للسكة الحديد
اتجهت معظم الدول المتقدمة منذ بداية القرن العشرين إلى وضع وتطبيق نظم تأكيد وإدارة الجودة، التى تطورت مع الوقت بتطور الصناعات والمؤسسات. وهى صادرة عن المنظمة الدولية للمواصفات القياسية المعروفة اختصارا بـISO، ومقرها جنيف. وبدأت مصر فى تبنيها فى الثمانينيات. وتتضمن تلك النظم عدة بنود رئيسية يجب أن توفرها الهيئة أو المؤسسة، وعلى جميع العاملين تطبيقها، بدءا من الرئيس وحتى أصغر عامل بها. وتعمل وفقا لإجراءات وتعليمات عمل مكتوبة وموثقة لكل مهمة أو عمل ــ وتضمها وثيقة دليل الجودة quality manual. وتحدد تلك الوثيقة، التى هى بمثابة عقد ملزم، متطلبات النظام، ومن ضمنها: مسئولية الإدارة بالتفصيل، مراجعة إبرام العقود ووصف الخدمات، تصميم المنتج أو الخدمة، ضبط وقياس عملية الإنتاج أو تقديم الخدمة لمنع الخطأ أو عدم المطابقة، ضبط المواصفات وسجلات الجودة وتحقيق إمكانية التتبع لكل منتج أو خدمة، والتدريب السنوى لكل العاملين. وتتضمن كل البنود الإجراءات وتعليمات عمل مفصلة لجميع العمليات اللازمة للنشاط، كما تضم إجراءات وتعليمات عمل النظافة والصيانة الوقائية للمعدات بشكل أساسى.
وقد تنبهت مع بداية القرن الـ21 الشركات الكبرى المتخصصة فى السكك الحديدية خاصة فى الدول المتقدمة إلى ضرورة استخدام نظم إدارة الجودة فى كل مجالات الإنتاج والتشغيل، فهى خطوة مهمة إلى الأمام، تؤدى إلى قطارات جيدة وآمنة، خاصة بعد انتشار الحوادث وتردى خدمات القطارات الذى ترافق مع خصخصة السكك الحديدية.
وتؤدى مواصفات الأيزو المصادرة حديثا لمساعدة السكك الحديدية حول العالم للوصول إلى مستوى أفضل من التنمية المستدامة.
وقد سبقت الأيزو فى هذا الاتجاه «المواصفات العالمية للسكك الحديدية IRIS، الصادرة فى عام 2006، التى حصلت معظم الشركات والدول المتقدمة على شهادة التأهيل الخاصة بها، نحو 1500 شهادة فى 50 دولة على مستوى العالم، منها البرازيل والهند وجنوب إفريقيا وعدد من دول شرق آسيا. كما توجد أيضا المواصفة الأوروبية UNIFE. وتلك الأخيرة بدورها معتمدة على أحدث مواصفة لـ ISO 9001، الصادرة فى عام 2008.
وقد أصدرت منظمة الأيزو خلال الأعوام القليلة الماضية، وما زالت تعمل على إصدار، الوثائق اللازمة لتطوير نظم جودة السكك الحديدية، والتى تتطلب التركيز على الجودة فى كل خطوة من الخطوات، مع تقسيم الخدمة إلى ثلاثة أقسام: البنية التحتية وإدارة المخزون وأخيرا العمليات والخدمات. وكما يشير موقع منظمة الأيزو، صدرت منها بالفعل وثائق مواصفة تطبيقات السكك الحديدية ــ متطلبات نظم إدارة الجودة ISO/TS 22163 وISO9001: 2015. وقد ساهم فى كتابة تلك الوثائق 35 مصنعا، وخبراء فى وضع المواصفات من 11 دولة. ومن أهم مميزات هذه المواصفة التركيز على الأمان وإدارة المشروعات، مما يجعلها واجبة التطبيق فى مصر. هذا بالإضافة إلى ما ينتج عن التطبيق من خفض لتكاليف التشغيل، وفقا لرأى چيل شوپار ــ جيومون، خبير فرنسى فى نظم الجودة وأحد أهم المشاركين فى وضع المواصفات القياسية. كما أن تكاليف التأهيل والحصول على الشهادة ليست مرتفعة قياسا بتكاليف خسائر الحوادث.
***
فى مصر وقع 1780 حادث قطارات خلال العام 2017، بحسب بيانات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء. وهو الرقم الأعلى خلال العقد الماضى. وترافق ذلك مع تضاؤل الميزانيات المخصصة لهيئة السكك الحديدية.
الطريق السهل فى حالة شح الموارد هو تجميد التعيينات ووقف تدريب العاملين، وعدم تجديد العمالة بأخرى شابة، وتجميد الأجور. ولكنه طريق التقشف الغبى. الإصلاح الجيد هو الذى يقتفى أسباب التدهور ويعالجها، وتدار المنشأة وفقا لأعلى معايير الجودة، وهو طريق بدوره يؤدى إلى تقليل النفقات. هذا ما رأيته بعينى فى القطاعين العام والخاص، فى عشرات الشركات والمصانع التى تبنَّت الطريق الأصعب. لا داعى لإعادة اختراع العجلة. الحل الوحيد للسكة الحديد فى مصر هو البدء فورا فى وضع منظومة لإدارة الجودة.