فضاءات الأمكنة
في (فُتّيشات) عبدالرحيم جداية


بقلم - محمد فتحي المقداد


فضاءات الأمكنة تتّسع بما لايدع مجالًا للشكّ، للكثير من ذكريات الماضي والأحلام والآمال، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من حياة أيّ فرد، بما ارتبطت بذهنه من أماكن يحنّ إليها، سواء من عاد إلى رحابها، أو من يُحرّقه الشوق والحنين إلى تلك المنازل.


ومن أشهر ما وردنا في هذا الصّدد، من قول شاعر الحماس أبي تمّام:
"نقّل فُؤادكَ حيثُ شئتً من الهوى ** ما الحُبّ إلّا للحبيب الأوّل
كم مَنزلٍ في الأرض يألفُه الفتـى ** وحنيـــنُه أبـدًا لأزّل منـزِلِ".


جاءت تجربة (عبدالرحيم جداية) بداية فنيّة، من خلال دراسته الجامعيّة للفنون الجميلة، وحاز شهادة الماجستير في الآثار الكلاسيكيّة، وتابع دراسته وحصل على دبلوم عالٍ في مجال تدريس التربية الفنيّة من جامعة اليرموك.


منذ بداياته اتّجه للتثقيف الذاتيّ، ونَهَل من معينه ليُلبّي رغبة حقيقيّة ناشئة في أعماقه؛ أهّلته ليتّجه إلى ميدان الشّعر بخطوات خجلى، مستفيدًا من مناخ نجاحاته وعثراته، بخطوات واثقة مليئة بالتطلّعات حالمًا بالوصول، ومن الطبيعيّ أن يكون له ذلك خلال سنوات دأب على نفسه، وحَدَب على كلماته وحروفه وقصائده تشذيبًا وتجويدًا، ويحينُ موعد القِطاف ليكونَ اسمًا مرموقًا على السّاحة الشعريّة والثقافيّة محليًّا وعربيًّا. حيث صدر له عدد من دواوين الشّعر:
(ديوان الخيل على مشارف قلبي - حتف الكلمات - سندباد في رحلته الاخيرة - ثالثة الأثافي - كيف أمسي - ما لون الوقت - ذاكرة تحمل ازرقها - دوائر حيرى).


في مجال النثر صدر له (نشيد الدوالي - طفولة حرف - زمن بلا حكايا)، وجاءت تجليّاته الفكريّة في مجال النقد؛ لتتوّج تجربته من خلال كتابيْن مُهمّيْن، صبّ فيهما خبراته المكتسبة وأضاف لها بصمتةً المميّزة لنتاجه (قراءات في الشعر الأردني الحديث - ملامح الشعر الأردني)، وهذه السباحة في الخضّم الثقافيّ أضافت له مساحة واسعة من الحركة الرّشيقة في مجال الإعلام المسموع، من خلال برنامجه الأدبيّ والثقافيّ، الذي استمرّ على مدار عقد من الزمن، من على أثير إذاعة إربد الكبرى.


*


لابدّ من هذه المقدّمة التعريفيّة، كي لايكون القارئ متفاجئًا بما انبثق من أفكار عبدالرحيم جداية العبقريّة، خاصّة بما نشر مؤخّرًا تحت عنوان (فُتّيشة)؛ فكانت بدايتها بنصٍّ واحد، ثمّ استمرّ لما وجد من قبول لدى متابعيه، وانتظارهم لما ستكون عليه الفُتّيشة المقبلة.


كما أنّ دلالة كلمة (فُتّيشة) غير القاموسيّة بهذا اللّفظ، بينما عُرفت من استخدامها وتداولها؛ على أنّها من الألعاب الناريّة خاصّة المفرقعات منها، وهي شبيهة بشكلها بالسيجارة تحتوي على فتيل مرتبط بباطنها، مُهمّته توصيل النّار المشتعلة به، لكي يحصل انفجار بدوّي بصوت مُفزِع، ربّما يصمّ الآذان إن كان قويًّا.


لكن الشّاعر والنّاقد عبدالرحيم جداية، لجأ لهذه اللفظة باستخدامها المجازيّ، ليُحدِث عَكرا من خلال تحريكه للماء الرّاكد؛ لإحداث مفاجأة صادمة بذهن المُتلقّي؛ ويسوقه عُنوة للبحث فيما وراء الكلمة، حينما كسر بلادة إدمان واقعٍ قاسٍ مُعاشٍ بلا اكتراث ولامبالاة عند الكثيرين، وقراءة ما خلف السّطور بترميز واضحٍ مُنفتح على عالم من القراءات والتأويلات عبر فضاءات الزّمان والمكان، مُتأرجح بأفكاره ما بيْن الجدّ والهزَل، ربّما يأخذنا بسلاسة لنوبة ضحك، ربّما تدمع العين منها ضحكًا، أو بكاء مريرًا على واقع مؤلم.


*


ولعلّ فضاءات المكان هي المقصودة بمقالتي هذه، وحيّز المكان يفصح عن نفسه بجلاء وتمهّل بلا استعجال.
(أضحك كثيرا عندما يسألني أولادي.. زمانك كان تلفون.. فعلا وقتها أتذكر سقوط الأندلس)، وما سقوط الأندلس دولة عزّ وأمجاد العرب والمسلمين وازدهارهم، إلّا وهو الحزن العربيّ الدّائم على مجدٍ ضائع؛ فلبسوا العقال الأسود مُقسمين على استعادته، ولن يُنزلوا عُقُلَهم إلّا في إشبيلية وغرناطة وطليطلة، واستطالت الأحزان سوادًا؛ ليدخلوا أنفاق القهر والذلّ الإستعماريّ، الذي خلّف عُهود الدكتاتوريّات البغيضة، وسيرتها المقيتة.


*


(صبية قعدت بجنبي بالباص وقالت لي: والله ارتحت لك.. بعد سعادة غامرة تخبرني أني أشبه والدها المتوفي من سنتين.. مش أسافر الصين أحسن).
فالحافلة (الباص) حيّز مكاني يجتمع فيه المسافرون عُنوة، والمتوفّي في حيّز مكانيّ هو القبر، وجاءت مفارقة النص في الخاتمة، (مش أسافر الصّين، أحسن)، والصّين ديارٌ مُتباعدة جغرافيًّا عن ديار العرب، وقد عبّروا عن ذلك، بقولهم: (اطلب العلم و لو في الصّين)، لشدّة حرصهم على العلم وطلبه في أشدّ الظروف قسوة، حتى وإن تباعدت المسافات بهذا الشكل المُريع الذي يستنفذ الوقت والجسم والمال، والمسافات لزوم المكان.


*


(أصعب شيء في الحياة أن تُلاقي صبية حُلوة.. تضحك لها.. تضحك لك..، وتيجي لِحدّك. وتسألك: عمّو وين سرفيس البارحة..؟).
(وتيجي لحدك)، أي تأتي إلى جانبك، أي أنّها ستكون في حيّز مكانيّ،(وين سرفيس)، وهنا تتساءل: عن (السّرفيس) وهو يُعتبر حيّزًا مكانيًّا.


*


(استقبلتني بفرح غامر، عبأت النموذج بسرعة، فتحت المصعد المخصص للموظفين، أخذتني بيدي إلى غرفة، فتحت الباب وقال: عمو هون اللجان الطبية، وغبت في صورة الرنين).
الاستقبال لزومه مكان يحدث فيه، باب المصعد يفتح على حيّز ضيّق مكانيّ مُستحدَث لزوم الأبنية الشّاهقة، والغرفة أيضًا مكان، والباب يفتح ويغلق مكانًا، ووجود اللّجان الطبيّة، دليل على مكان المكتب والعيادة والمستشفى، وكلّها دلائل مكانيّة، وجهاز التصوير (المِرْنَان) يحتويه مكان مخصص له، مجهّز بتقنيّات حمائيّةمن آثاره الضّارة على صحّة المُستخدِمين.


*


(صعدت درجات الأحوال المدنية بهدوء وبطء، وما إن وصلت؛ حتى تهالكت على مقعد مُتهالك مثلي، وقفتُ في الصفّ الطويل مُتعبًا؛ حتى نادى أحدهم: قَدّم يا حج، أخذ الهويّة مني، وهو يدعو لي بطول العمر، وأنا أستعيد شَغَبَ الشباب اللذيذذذذذذذ).
(صعدتُ درجات) فالأدراج من لزوم الأسطح والأبنية الطابقيّة، (دائرة الأحوال المدنيّة) بناء يحتوي على سجلّات النّفوس والقيد وهو بذلك مكان، و(المقعد) حيّز يُستخدم ويكون في ردهة البناء للانتظار أو داخل المكاتب، و(الصفّ الطويل) يستلزم حيّزًا مكانيًّا.
*


(عبرت الشارع، لأجالس جارنا البقال، تلفتت، دارت حول نفسها يسبقها عطرها وشبابها، وأنا أقلب النظر فاجأتي بسؤالها عن صالون نادية، أشرت لها هناك، وقلبي يقول هنا، والبقّال يقبع في جُحره كأفعى فقدت أنيابها. غادرتنا، وعطرها يُغري عكازي باللّحاق بها.. هنااااااااك).
الشّارع مكان مشروع استخدامه للجميع كمرفق عام، والبقّال هو البائع في بقّالته التي هي مكان، وصالون نادية، هو من مكان بمهنة مستحدثة أخذت طابعًا عصريًّا لتجميل النّساء، والجُحر مكان ضيق تسكنه الأفاعي والسّحالي وغيرها من الحيوانات صغيرة الحجم ووالحشرات، وهو مكان تحت الأرض.


*


(فاجأني حفيدي بالسؤال: أين التقيت جدتي؟. ولهول الصدمة أجبته: لقد التقينا في الباص السريع. عاد لي بالسؤال: وأين الباص السريع؟ قلت له لقد غرق مع التايتنك في نفس السنة. لم يقتنع حفيدي، ولكن جدته اقتنعت).
(أين التقيْت جدّتي؟)، سؤال عن مكان اللقاء، وجاء الجواب في(الباص السريع)، وهو مكان أيضَا، و(التايتنك) باخرة غرقت قبل حوالي مئة عام تقريبًا، وهي حيّز مكان.
*


(حدثتني جدتي بأن السلحفاة والباص السريع تسابقا من أول محطة على المريخ إلى الأرض، بعد سنوات ضوئية وصلت السلحلفاة، وفي نبأ عاجل أعلنت الفضائيات …