مشكلة السلطة لا المجتمع

حين ينتقد الشعب المصري لأنه مستمر في الإنجاب فتلك شهادة لصالحه نعني أنه ما يزال متشبثا بالاستمرار في الحياة رغم صعوبة الاستمرار فيها في ظل الظروف القاهرة الراهنة.

في الوقت ذاته فإن ذلك بمثابة اعتراف غير مباشر يؤكد فشل مؤسسات الدولة المسؤولة عن التخطيط والتنمية في أداء مهامها.
لذلك أزعم أن ما في مصر ليس مشكلة سكانية ولكن مشكلتها الحقيقية تكمن في عجز الإدارة وسوء التخطيط مما أدى الى الفشل في استثمار الموارد وتلبية احتياجات المجتمع.

هذا النقد للمجتمع تردد أخيرا علي السنة بعض المسئولين في مصر، وهو ليس جديدا لأننا نسمع الحجة ذاتها تطلق وتسوق في مواجهة كل أزمة اقتصادية.
وقد ذهب الرئيس الأسبق حسني مبارك في نقده الى حد التعبير عن حيرته إزاء استمرار المجتمع في الإنجاب وقوله ضاحكا :
هل نضطر الى وضع شرطي الى جانب كل سرير؟!

في بلادنا ما أسهل أن يشير المسؤول بأصابع الاتهام أن مسؤولية الشعب عن الأزمة، وما أصعب أن يحاسب المسؤول على فشله.
ومن رابع المستحيلات أن يعترف من جانبه بمسؤوليته عن الفشل.

أدري أن ذلك التقصير ليس مسؤولية حكومة بعينها، لأن ما نعاني منه هو تراكم ملفات الفشل التي تتابعت في ظل حكومات عدة سابقة.

لذلك فإن رد النقد لا يراد به توجيه الاتهام الى الحكومة الحالية بقدر ما انه يستهدف المنازعة في التشخيص والدعوة الى تفكير على نحو آخر في توصيف المشكلة.

في هذا الصدد لا نستطيع أن نتجاهل الإنجاز الذي حققته حكومتا الصين والهند في مجال النهوض وتوفير الاحتياجات الأساسية للمجتمع، رغم أن سكان كلا البلدين تجاوز مليار نسمة،
حيث اعتبر كل منهما أن البشر مصدر للقوة إذا أحسن استثمارهم بقدر ما أنهم يصبحون عبئا على النظام إذا ما أسيء استثمارهم.
ولا ننسى في هذا الصدد أن دول عدة مثل اليابان وروسيا وألمانيا تحث الناس على الإنجاب لزيادة الأيدي المنتجة.
كما أن تركيا تعمل على ذلك وتوفر مكافآت عدة للمواليد الجدد.

وقعت على تحليل رصين للمشكلة أورده عالم الاقتصاد المصري الراحل الدكتور رمزي زكي في كتابه عن المشكلة السكانية «في سلسلة عالم المعرفة الكويتية».
ذلك أنه عارض نظرية القائلين إن المشكلة تعبر عن سباق غير متكافئ بين نمو السكان من ناحية ونمو الموارد المحدودة من ناحية أخرى.
وهي الفكرة السائدة التي يرددها اتباع السياسي والاقتصادي البريطاني توماس مالتوس.
وقدم الدكتور رمزي تشخيصا مغايرا اعتبر بمقتضاه أن المشكلة بمثابة سباق بين النمو السكاني المرتفع
وجمود وتخلف التشكيلات الاجتماعية المهيمنة بالبلاد المتخلفة التي عجزت عن تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، بما يوفر الغذاء والكساء والتعليم والخدمات الصحية وفرص العمل الشريف لكل مواطن.
والمشكلة السكانية بهذا المعنى هي قضية صراع هذه التشكيلات ومؤسساتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية.
أما الحقائق الديموجرافية التي تعكسها المشكلة «معدلات الإنجاب والمواليد والوفيات..» التي لا يمل اتباع مالتوس من الإشارة إليها، فليست سوي «ترمومتر» يشير الى ارتفاع درجة حرارة المريض، دون أن يشخص حقيقة المرض.

من هذه الزاوية فإن أصل الداء يصبح في جانب السلطة التي تنكره وليس المجتمع الذي هو ضحية له.
..........