حوار مع الأستاذ عز الدين سطاس 6/4/2015
الأستاذ عز الدين سطاس كاتب وباحث وأديب سوري، ابن الجولان؛ حيث تفتحت مداركه ورؤيته على بياض جبل الشيخ القمة المزينة بالثلج، نهل من مياه الجلان، أحب تراب الجولان وحياة أهله وناسه، لذلك اهتم بالتراث وحكمة الأجداد، فكان الإنسان أولاً والأديب والكاتب ثانياً وثالثاً، عمل في التدريس والثقافة والعلم، له أبحاث ودراسات وكتب عديدة، ولكن السؤال الحياة والموت والعلم والجهل، والنور والظلام والشرق والغرب، يشغل فكره وكناياته؛ هو شبيه ببيئته خزن العلم والثقافة في فكره وروحه، كما يخزن جبل الشيخ الأمطار والثلوج، ويعطيها بكرم وسخاء في الربيع والصيف، وهكذا كانت مسيرة الأستاذ عز الدين سطاس فهو ابن الجبل الأشم، حرمون جبل الشيخ، يزيده البياض والشيب وقاراً وحكمة وعلماً، وللحديث عن اهتماماته وكتاباته كان لنا معه الحوار الآتي:
25/3/2015 الأربعاء
مجلة الشهباء: مجلة تصدر في حلب.
حوار مع الأستاذ عز الدين سطاس
س1: متى كانت قراءاتك الأولى، ثم كتاباتك الأولى...؟!
ج1: لاشك أنك تقصد المطالعة، بمعنى الكتب غير المقررة في المناهج المدرسية.
بدأت أطالع بعض المجلات والجرائد في أواخر المرحلة الابتدائية، كمجلة الجندي مثالاً. وتابعت في المرحلة الإعدادية، وهي مرحلة المراهقة، المميزة بروح التمرد والتحدي، فكان من الطبيعي أن أعطي الأولوية للعناوين التي تتحدث عن مفاهيم البطولة والشرف والشهامة، وصولاً إلى الفكر الثوري بالمعنى الواسع في المرحلة الثانوية. وبدأت أناقش مسائل كبيرة في وقت مبكر، كالخلق وغاية الحياة ودور الإنسان فيها والحرية والعدالة والمساواة. فرسمت لنفسي صورة يساري متطرف من دون أن أدري.
خطرت لي فكرة الإضراب وأنا في الصف الخامس، بوحي من الأيام الأخيرة لعهد الشيشكلي. وأضربنا يوماً واحداً. ونلنا في اليوم الثاني ما أدمى أيادينا. وفي صيف عام 1959، اتهمني بعضهم بتهم لها علاقة بالدين والسياسة، وحرضوا الناس على طردي من القرية، قبل أن تغور في أعماق الأرض بسبب بقائي فيها برأيهم. وواجهت الموقف بجرأة لا أدري من أين جاءت. ونجحت في كشف اللعبة بالقرائن الدامغة، وفي فضحهم أمام الملأ، وانحسبوا من ساحة المواجهة، كلّ يلوم الآخر.
واسمح لي أن أتوجه بالشكر للمدير الذي تمردنا على أسلوبه التربوي. كان قاسياً حازماً. اسمح لي أن أعبّر من هنا عن تقديري واحترامي له، وعن تمنياتي له بالصحة والعافية. كان غيوراً على مصلحتنا، وكنا جهلة. أيضاً، اسمح لي أن أشكر مَنْ صدّق التهم الموجهة إلي، فتحمس حتى كادت أوداجه أن تنفجر. كان جاهلاً مقرراً به. وكنت على بصيرة. والعفو عند المقدرة. لقد أشرت إلى ما سبق، لما لهما من دلالات توضح بعض جوانب مسيرتي.
ومارست كتابة ما يمكن أن نسميه شعراً في وقت مبكر. ولم أحاول النشر لأكثر من سبب، لعل من أهمها: غياب الموجه، وعدم توفر وسائل النشر في المحافظة، والانشغال بالدراسة والرياضة والأنشطة الاجتماعية، وتابعت الكتابة من حين لآخر كهواية أعبر من خلالها عن الأفكار التي كانت تشغلني. إلى أن عملت في مؤسسة بحثية، في بداية العقد الثالث من عمري. وكان أول كتاب ساهمت فيه مع باحث آخر، تحت عنوان "إسرائيل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً"، ثم تلاه كتاب لي تحت عنوان "الجولان دراسة مختصرة" وعلى أساس أن يترجم إلى اللغة الفرنسية.
س2: ما هي ذكرياتك عن الجولان كونك ابن القنيطرة...؟!
ج2: الجولان مسقط رأسي، ومرتع طفولتي ومراهقتي وشبابي، وفي هذا ما يكفي من الدلالة والمغزى. ومع ذلك أقول ما يلي:
نيال اللي عندو ضيعة
تَ يزورها بالسنة
ولو مرة
تَ يسرح ويمرح
بها المرج الأخضر
ويشمشم بها الزهر
والندى عَ رموش الشجر
دمعة عطر.
ويسمع بها الغجر
صيحة ديك عمّ يبشر
عرفُ أحمر
أخي الكريم. زرت الكثير من البلدان في أوروبا وإفريقيا. ورأيت الكثير فيها من الأشياء الجميلة، لكنها ليست بجمال قريتي التي كنت في كل مرة أعود فيها إليها، أراها أحلى من السابق. سيبقى الجولان في الذاكرة مهما جار الزمان. لن أنسى رائحة خبز أمي، ولا رائحة شوي العرانيس في الحقول بنار (الجلة)، ولا مشاوير الصبايا إلى مناهل الماء وكروم الخمرة والتين، ولا سهرات الشتاء. لا، لن أنسى البيادر التي كانت عامرة بتلال من الغلال، ولا قطعان البقر والغنم والماعز، وهي تخرج في الصباح إلى المراعي، وتعود في المساء راضية مرضية بما جنت.
لا، لن أنسى روح السمح والتسامح، التي تسابق عليها أبناء القرية، إلى درجة أن هذه القرية لم تشهد في تاريخها صراعاً دموياً، سواء على الصعيد الفردي، أم العائلي أو القبلي، رغم انتماء أبنائها إلى قبائل عدة. كان الاحترام المتبادل ديدن الجميع. كباراً وصغاراً على حد سواء. فعاش أبناؤها كأسرة واحدة. وقد كتبت كتاباً عنها، وفاءً وتقديراً لها ولأجدادنا وآبائنا، الذين زرعوا فينا بالممارسة قيم الحياة الكريمة.
يا صاحبي، أوصاني جدي أن لا أنسى أغنية المهد. فهل أخيب أمله...؟! لا، ورب الكعبة لا.
س3: لماذا اخترت البحوث والدراسات من بين الأجناس الأدبية، ولم تتفرغ للشعر والقصة...؟!
ج3: يذكرني هذا السؤال بقول الشاعر العربي:
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ويدفعني إلى الحديث قليلاً عن مسألة تشغل بال الإنسان، منذ أن بدأ يفكر عن دوره في الحياة، وعما إذا كان مخيراً أم مسيراً...؟!
شخصياً، أميل إلى أن الإنسان مخير بما أوتي من العقل، ومسير بإملاءات الظروف والأوضاع التي يعيشها. فالعبد لا يملك خيار الحرية. وما نراه خياراً هو في الحقيقة خيار اللاخيار.
فالإنسان لا يملك خيار المجيء إلى الدنيا، ولا مسألة تكوين أساس شخصيته. وهو محكوم بسقف المفاهيم السائدة في مجتمعه. وما نراه من إرادة تبدو خياراً، هي في الحقيقة نتاج قانون التراكم.
لقد شاءت الظروف أن أعمل في مركز للبحوث والدراسات، فكان علي أن أندمج مع هذا العمل وأن أتقنه قدر الإمكان. ولا سيما بعد أن استهواني بالموضوعية، التي تكشف الحقائق الغائبة. إضافة إلى أن محور العمل في هذا المركز هو الصراع العربي الصهيوني، الذي يمسني مباشرة، ويهمني من منطلق وطني وقومي وإنساني. فهذا الصراع صراع وجود لا صراع حدود كما يعتقد البعض جهلاً أو تجاهلاً. وبالتالي يشكل العمل البعثي في هذا الصراع أهمية كبيرة، ويلعب دوراً لا غنى عنه، في دعم وتعزيز قوة السلاح.
نعم. لقد انشغلت بهذا العمل إلى درجة الفرق، إن جاز لنا التعبير، تاركاً مجال الأدب لمرحلة أخرى من مراحل العمر. وربما اعتقاداً مني بأن العمل الأدبي، يأتي أكثر عمقاً وتأثيراً مع توفر الذخيرة البحثية.
س4: السيرة الأولى، المحطات الرئيسة في حياتك...؟!
ج4: سيرة حافلة بسلسلة محطات تتواصل من زحمة الأحداث. طفولة حظيت فيها بالدلال، ربما أكثر من أقراني. سواء من أبي وأمي من أقربائي. ومراهقة ربما كنت فيها أكبر من عمري، ومرحلة شباب تميزت بالعنفوان والطموحات التي لم تكن معادلة الرغبة والقدرة متوازنة. وباختصار. كنت كحصان جامح في البراري، وهو لا يدري أن الزمن كفيل بترويضه.
نجحت في مجالات معينة، وأخفقت في أخرى. وهذا أمر طبيعي، ولاسيما في الظروف والأوضاع التي عشناها. فعلى سبيل المثال: نلت بطولة الجمهورية في رمي الرمح، في صيف عام 1961.
وأخبرني قائد معسكر الفتوة في الزبداني، بأنني سأمثل سورية في هذه اللعبة في دورة المتوسط لألعاب القوى، وطلب مني أن أتابع التمارين الرياضية، لأسجل رقماً يرفع العلم السوري في هذه الدورة. كان رجلاً وطنياً، غيوراً على سمعة سورية وصورتها.
انتهى المعسكر. عدت إلى القرية وأحلام كبيرة تراودني. وضعت برنامجاً، تقيدت به ورمحي أغصان شجر. زرت ذات يوم أحد أقربائي في مدينة القنيطرة. فتحت المذياع لأسمع نشرة أخبار الظهيرة. فإذا بالمذياع يقول: اليوم غادرت بعثتنا الرياضية إلى... صدمة تهز الجبال. كان جرحاً ترك ندباً.
حصلت بعد ذلك على الشهادة الثانوية. فتقدمت بالأوراق المطلوبة لإيفادي إلى الخارج. واحتياطاً أو تحوطاً قابلت المسؤول لأستخرج رأيه، فرحب بي وأكدلي بأنني المُرشّح الأول لكوني بطل الجمهورية، فطمأن قلبي. صدرت قائمة المقبولين، إلا أن اسمي لم يرد فيها. راجعت المسؤول فإذا به ينحرج ويتهرب. جرح آخر ترك ندباً آخر.
يا عزيزي، تركت الرياضة منذ ذلك اليوم. كرد فعل قد لا يرى فيه القارئ صواباً.
يا صاحبي، لم يكن المؤهل من دون حظ كافياً، في جاهلية القرن العشرين.
س5: كنت متفرغاً لمسألة الحرب والسلام... فماذا تقول...؟!
ج5: الحرب سياسة تقوم في كل الأحوال، على سفك الدماء والتشريد والدمار. هي سياسة العنف بأقصى درجاتها وأبشع صورها. هي كارثة ومأساة، سواء كانت عادلة بدوافعها أم غير عادلة. ومن هنا كان بالضرورة تجنبها قدر الإمكان، وإعطاء الأولوية للحوار، سعياً إلى السلم والتعايش. وتعد الحروب الداخلية أو الأهلية، التي تقوم على أساس عرقي أو طائفي أو مذهبي أخطر أنواعها. وهي إما حروب عدوانية، تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو جغرافية على حساب طرف ما، كالحروب الاستعمارية بمختلف أشكالها المدانة والمرفوضة جملة وتفصيلاً. وإما حروب دفاعية عن حقوق مشروعة كالحرية والاستقلال ووحدة الأراضي، وهي حروب لاشك في عدالة دوافعها.
وإذا كان لابد من شيء جميل في الحرب، فهو انتهاؤها، من دون المساس بحقوق الطرف البريء فيها، أو المعتدى عليه، وهي عموماً حصيلة تضخم الأنا في خلفية دينية كاليهود والتكفيريين، أو عرقية ـ قومية كالنازية، أو الشعور بالعظمة كالرومان وأباطرة الصين.
وتندرج الأزمة التي نعيشها منذ سنوات، في إطار الحروب العدوانية. لقد بات واضحاً بأن هذه الأزمة حرب عدوانية على سورية. جاءت في سياق قرارات مؤتمر لندن، الذي دعا إليه رئيس الحكومة البريطانية آنذاك (كامبل بانرمان) وانعقد خلال المدة /1905-1907/ تحت عنوان "التحديات التي تواجهها أوروبا، وسبل مواجهتها". وتوصل هذا المؤتمر إلى نتيجة تقول بأن الخطر الذي يتهدد أوروبا، سيأتي من الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
أي المنطقة العربية. ودعا إلى دعم الصهيونية لقيام إسرائيل، والحيلولة دون وحدة هذه المنطقة وتطورها.
وكذلك جاءت في سياق ما يعرف بمشروع أو مخطط (عوديد يانون)، الذي يدعو إلى تقسيم سورية إلى أربع دويلات. الأولى في المنطقة الساحلية، والثانية في المنطقة الجنوبية الغربية، أي في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة. والثالثة في منطقة دمشق، وصولاً إلى حدود مشتركة مع الرابعة في حلب. وبشرط أن لا تتفق الدويلتان الأخيرتان.
ومن هنا، وجب على كل الأطراف السورية إعادة النظر، من أجل السعي إلى حوار موضوعي، وعلى أساس مفهوم الأخذ والعطاء للسياسة، والاتفاق على برنامج انتقالي، يدعو إلى إعطاء الأولوية لحشد الإمكانات المتاحة، في مواجهة الفصائل الإرهابية ودحرها.
س6: رجال وشخصيات ورموز فكرية وأدبية استوقفتك...؟!
ج6: ترعرعنا في مرحلة، شهد العالم فيها تحولات كبيرة على الصعيدين المادي والروحي، وأحداثاً لا تزال تتفاعل بشكل أوبآخر. منها مثالاً: الحرب العالمية الثانية، التي عانت البشرية من ويلاتها، وأسفرت عن إعادة تشكيل الخارطة السياسية في بعض المناطق، وتنامي حركة التحرر الوطني، وحصول العديد من الشعوب على الحرية والاستقلال.
وتطورت التكنولوجيا في هذه المرحلة في مختلف المجالات، وبدأ السباق على السلاح النووي، وغزو الفضاء، فحط الإنسان لأول مرة على القز. وأصبح القرار الدولي رهن العلاقة بين قطبين عملاقين. الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي، والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وبرزت حركة عدم الانحياز، التي كان من أبرز قادتها، الزعيم الهندي نهرو، واليوغسلافي تيتو والأندونيسي سوكارنو والعربي عبد الناصر. وكان لابد من انعكاس هذه التحولات والأحداث على الفكر، وظهور مدارس وتيارات ومذاهب، تعبر عن مرحلة مخاضية.
في الساحة العربية، شهدت هذه الساحة حركة وطنية مع تنامي الفكر التحرري، فنالت الأقطار العربية الحرية والاستقلال، على خلفية قومية ـ يسارية عموماً.
ونجحت الحركة الصهيونية بدعم الإمبريالية في إقامة "إسرائيل"، فدخل الصراع العربي الصهيوني مرحلة جديدة. كان من أبرز محطاتها عدوان الخامس من حزيران من عام 1967، الذي أسفر عن احتلال الجولان والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء. والذي جعل من حرب تشرين في عام 1973 أمراً لا مفر منه.
في موضوع الشخصيات والرموز. نجد في سيرة كل شخصية ما يستدعي التوقف والتأمل. فالرمز شخصية مميزة بفكر أو نهج أو موقف أو طبع ما. لقد حملنا هموماً كبيرة وطنية وقومية وإنسانية. فكان من الطبيعي أن نتأثر بكل من تبنى هذه القضايا والأسماء كثيرة، متنوعة الهويات والاتجاهات. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الرموز:
- في مجال الفلسفة: فلاسفة اليونان ـ ماركس ـ إنجلز.
- في مجال القصة والرواية: تولستوي ـ ليرمنتوف ـ غوركي ـ هوغو ـ همنغواي.
- في مجال الشعر: شعراء الجاهلية: صدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي. محمود سامي البارودي ـ الجواهري ـ السياب ـ أبو ريشة ـ أبو ماضي ـ نزار قباني ـ شعراء المقاومة ـ بابلو نيرودا ـ ناظم حكمت ـ عمر الخيام.
- في المجال العسكري: كلاء فيتز ـ صلاح الدين ـ خالد بن الوليد ـ عزيز المصري ـ جياب.
وثمة شخصيات سياسية، منها مثالاً: لينين ـ غاندي ـ كاسترو ـ جيفارا ـ ديغول ـ عبد الناصر.
وباختصار. لا تتجزأ الحرية، لافي المكان ولا في الزمان، ومن هنا أراه رمزاً كلّ من طالب بها ودافع عنها، سواء بالقلم أم بالسيف.
س7: ماذا يتبادر إلى ذهنك عندما تتذكر سورية، ثم حلب حصراً...؟!
ج7: أتذكر التاريخ والحضارة. أتذكر كيف استقبلت سورية أجدادي، حين احتل الغزاة بلادهم، وساقوهم بالتواطؤ مع الغباء العثماني إلى أنياب الفناء. أتذكر أغنية المهد، التي سمعتها على لسان الجولان. هذه الأغنية التي يتردد صداها في أعماقي، وتؤكد لي حقيقتين. هما:
1- الاستعمار واحد في المكان والزمان.
2- تبقى سورية حاضنة المقهورين من رواد الحرية.
وتبقى حلب منارة حضارية بحيوية أبنائها وقوة انتمائهم وولائهم، وطنياً وقومياً. تبقى مع دمشق توءمان لا غنى لأحدهما عن الآخر على دروب الحرية والكرامة.
حلب سيف الدولة و(أبو فراس الحمداني) منارة لن تخبو شعلتها الوطنية. حلب الموشحات والقدود أغنية خالدة. حلب التجارة والصناعة عصب أساس في الجسد السوري. لا، لن تركع حلب للغزاة.
نعم أتذكر الأمن والاستقرار. والثورة السورية ورموزها الكبيرة، من الأطرش وهنانو والعلي والشهبندر والجابري والقوتلي وغيرهم. أتذكر شعار "الدين لله والوطن للجميع" أتذكر ميسلون وكعوش وتل العزيزيات والقنيطرة. أتذكر فيروز و(أبو ريشة) والبدوي والمردم والقباني والعجيلي ومينا وونوس وغيرهم من رواد الفن والقلم. أتذكر مقابر الشهداء. أتذكر أحلام الصبا. أتذكر مشاوير (السيران) على ضفاف بردى، وفي أروقة الغوطة.أتذكر البسيط ومزيريب وبصرى وتدمر والفرات والعاصي والحمة والطبرية ومسعدة (رام).
أيامنا بيضاء كانت
سوداء صارت
فيا ليت شعري،
من يزيل الشحوار
عن وجه حبيبتي...؟!
س8: الحياة والموت، والروح والمادة، والأنا والآخر. ماذا ينقصنا ثقافياً وفكرياً...؟!
ج8: سؤال كبير. ومع ذلك أقول:
الحياة على صعيد الفرد، وتعريفاً بسيطاً لها، هي زمن يعيشه الإنسان، منذ ولادته وحتى مماته. وهي شعورياً، سلسلة من الأفراح والأتراح، من النجاح والإخفاق. ويخضع فيها الإنسان لإملاءات خارج إرادته وأخرى بإرادته. وتحلو بالتفاؤل وفلسفة (أو فكر) يؤمن بها. وهي مسيرة لابد للإنسان أن يلعب فيها دوراً إيجابياً، يخدم الصالح العام. والخلود فيها بالأفعال المعززة بالقيم العليا حصراً. والموت حق لا مهرب منه، مهما علا شأن المرء. فلكل بداية نهاية. والعبرة في مواجهة الموت بابتسامة. فالحياة اختزالاً وقفة عِز.
والإنسان روح ومادة. فكان لابد من غذاء روحي، هو الفكر والثقافة. إذ "لا يحيا الإنسان بالخير وحده". ومن هنا جاءت مشكلة عجز الأنظمة، عن توفير نوعَي الغذاء الروحي والمادي، في آن واحد. والمادة جماد، رغم ما في النواة من حركة. جماد مسخر لصالح الإنسان. والروح أسمى منها، مهما كانت طبيعتها وأهميتها ودورها في الحياة. فهي، أي المادة، بلا قيمة من دون الكائن الحي.
وهنا أود أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية. وهي أن الحال يندرج ضمن قائمة المواد المسخرة للإنسان. وللأسف، تحول المال من وسيلة إلى غاية عند البعض. فبات معبوداً يستعبدهم، ويحلل لهم ميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة أو الواسطة".
نعمت كلاب من بؤس أهلها
صارت كالقطط السمان
أغلى من الإنسان فياويل أمة
"ضحكت من جهلها الأمم"
رقص من حماقتها
"كالديك مذبوحاً من الألم"
ولا أكون مبالغاً، إذا قلت بأن المال كان ومازال السبب الأساس، لموت الملايين من البشر، قتلاً أو قهراً أو جوعاً. إضافة إلى ما نعاني منه من مختلف أشكال التلوث وأنواعه. وما المنح أو الحسنات التي تقدم للبؤساء سوى جزء لا يذكر، من قيمة ما سلبه ويسلبه الأثرياء. فالربح في حدود المعقول لا يشكل تراكماً مليارياً.
وفي العلاقة بين الأنا والآخر. نجد أن (الأنا) طبيعة ملازمة للإنسان، فرداً كان أم جماعة. وهي إيجابية إذ بقيت في حدودها الطبيعية. أي إذا لم تتضخم إلى درجة الإساءة إلى الآخر. فالأنا المتضخمة تحت أي عنوان كان مرض خطير، عانى ومازال يعاني منه العالم، منذ أن ظهرت هذه الظاهرة المرضية، التي عبرت عنها قصة الأخوين قابيل وهابيل.
لقد تضخمت (الأنا) عند البعض، عبر مختلف مراحل التاريخ. من ذلك مثالاً لا حصراً:
- الصهيونية باعتمادها على خرافتي (الوعد) و(شعب الله المختار)
- الاحتقار اليوناني لكل ما هو غير يوناني، ووصفه بالبربري.
- الزعم الصيني بأن أباطرة الصين هم محور العالم.
- عقدة التفوق والامتياز عند الرومان.
- إدعاء الكاثوليكية بالعالمية.
- تفسير البعض للآية القرآنية "كنتم خير أمة أخرجت للناس" على أنها امتياز مكتسب، لا على أنها دعوة والتزام.
- النازية بانطلاقها من خلافة "الألمان نخبة عرقية فوق الجميع".
- الغطرسة الأمريكية.
والمشكلة في العلاقة بين (الأنا) والآخر، ليست في وجود الآخر. لأن الأخير ضرورة حياتية، ما دام الإنسان كائناً اجتماعياً. المشكلة في كيفية إدارة هذه العلاقة. فالآخر في الأحوال الطبعيية عنصر إيجابي، في كل ما يتعلق بالتأثر والتأثير.
وهنا لا يجوز أن يغيب عن البال أن "من طلب أخاً بلا عيب بقي بلا أخ" مثل شعبي رائع بما يؤكده من استحالة وجود الإنسان الكامل أولاً، ووجود ما هو إيجابي في محل إنسان ثانياً.
إن اعتبار الآخر جحيماً دعوة خطيرة على الصعيد الوطني والقومي والإنساني.
نحن بحاجة إلى الحد الأدنى على الأقل، لما يمكن أن يجمعنا في مختلف الساحات، المحلية والإقليمية والدولية. لا توجد بيننا وبين الآخر خلافات عصية على الحل، باستثناء إسرائيل وذوي التوجهات الإرهابية.
وحول ما ينقصنا ثقافياً وفكرياً. ويلاحظ ضعف العقلنة والعلمنة في هذا المجال، تحت ضغط الموروث. فهناك خط أحمر، سياسياً ودينياً واجتماعياً. ونجد أن المشكلة تكمن في النوعية لا في الكمية. تكمن في غياب الصدقية، فالمثقف قدوة بالفعل لا بالقول. في التكرار، فالأفكار مكررة بصياغات مختلفة. في التركيز على الشكل لا على المضمون. الذي هو الغاية. في التلقين على حساب الإبداع. في القولية المقدسة، واعتبار الجديد كفراً. في الخوف من الحقيقة. في الهروب من الحاضر والمستقبل إلى الماضي، في غلبة الطابع السياسي والأيديولوجي على حساب الواقعية والموضوعية. في غياب الناقد البناء، بتوفير فرص الإبداع للمبتدئ. ولاشك في أن كلّ هذا أو ذاك هو نتيجة وضع عام متخلف عموماً ولا يمكن إصلاحه من دون حرية التساؤل والإجابة. فالحياة سؤال والإبداع إجابة.
قبل أكثر من عشر سنوات، طرح علي أحد العاملين في مجال الفكر والثقافة السؤال التالي:
- نحن نطبع كماً هائلاً من المطبوعات المتنوعة. فهل ترى جدوى في هذا...؟!
أجبت من دون أي تحفظ:
- لا... مقارنة مع الجهد والاتفاق والحجم
رمقني معبراً عن استغرابه ودهشته، فتابعت حالاً:
- لا تسألني لماذا وكيف...؟! دع الإجابة لمن هو أدرى.
- ومن هو...؟!
- الزمن.
س9: وصيتك للشباب. القراء منهم والكتاب...؟!
ج9: أناشد الجميع أن تكون الثقافة ملح خبزهم اليومي. وتحديداً، الثقافة التي تكنس الغبار عن الحقائق. الثقافة التي تصنع اللحمة الوطنية، أساس المناعة القومية.
أوصي القارئ أن يقرأ بعقله لا بقلبه. أن يبدي رأيه بموضوعية، على الأقل لمن حوله. أن يشارك في الأنشطة الثقافية. على الأقل حضوراً.
وأوصي الكاتب، أن يعيش ما أمكن من التجارب. أن يقرأ ما أمكن من الكتب المتنوعة موضوعاً، أن يطلع على ما أمكن من الثقافات الأجنبية. أن يحمل معه حيثما كان المفاتيح الثلاثة (لماذا، وكيف، ومتى). أن يعطي للأفكار فرصة التخمر، فأطيب الخمر ما كان معتقاً. أن يطالع ما أمكن من الأساطير والحكايات الشعبية والأمثال والحكم. أن يكون موضوعياً. أن تكون الحقيقة غايته. أن يدع الشهرة تأتي إليه، لا أن يهرول إليها. أن يعمل على دفع الحاضر إلى التمهيد لمستقبل، لا ثقوب سوداء فيه كما في الماضي. أن يكون القدوة التي يُحتذى بها.