في حوار مع الدكتور محمد بهجت قبيسي - سوريا


يجب أن نفرق بين اللغة والكتابة


الخميس ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧، بقلم بشار خليف


الدكتور محمد بهجت قبيسي باحث وأستاذ في اللغات العربية القديمة، بدأ بالتعبير وطرح منهجه منذ حوالي عشر سنوات أو أكثر، عبر كتابه ((فقه اللهجات العربيات ))الصادر عن دار شمأل بدمشق .


ويعتبر الدكتور قبيسي باحثا" لغويا" لا يأخذ بما طرحته أدبيات الاستشراق حول اللهجات العربية القديمة إلا بما كان موضوعيا" ويماشي الحقائق العلمية والتاريخية .


والحقيقة أن منهجه ساهم في خلخلة السائد من المفاهيم التي تعوّدت عليها الأدبيات التاريخية العربية .
هذا الحوار هو رصد ورؤية بانورامية لمنهج الدكتور قبيسي.


- لو شئنا مقاربة التطور اللغوي – الكتابي في منطقة المشرق العربي وبحسب دراساتكم وأبحاثكم، هل نحن أمام لغة أم انبثقت عنها لهجات عديدة؟ ما هي هذه اللغة العربية القديمة جداً؟ الأكادية أم السومرية؟
- طبيعة السؤال يجب أن نقف عندها، أولاً، يجب أن نفرق بين اللغة والكتابة، فأنت دمجتهما معاً وكأن الموضوع موضوع واحد. فاللغة شيء والكتابة شيء آخر، يجوز أن أكتب اللغة العربية الفصحى بخط لاتيني وتسمى لغة عربية، وهذا دليل ذلك: قبل عشرون عاماً كانت كافة البرقيات ترسل من سورية إلى أمريكا اللاتينية بلغة عربية لكن بحرف لاتيني.


إذاً يجب أن نفرق ما بين الكتابة واللغة، وهنا نرجع إلى الثابت الأساسي الذي نعتبره من البدهيّات، بأن اختلاف نمط الخط لا يدل على اختلاف اللغة، كما أن وحدة نمط الخط لا تدل على وحدة اللغة. والأمثلة من التاريخ القديم لدينا واضحة جداً. وسأتكلم فقط عن العربية الفصحى وهي معروفة لدينا.
لقد كتبت العربية الفصحى بعدة أنواع من الكتابات، كتبت بخط الجزم الذي نسميه الخط العربي، وكُتبت بالخط السصرياني السطرنجيلي وسميت بالكرشونية نسبة إلى قريش والتي كان يتكلمها بنو ربيعة في شمال العراق قبل الإٍسلام، وهذا هام جداً فقبل الإسلام، العرب موجودون في شمال العراق.


إذاً كُتبت بخط الجزم، وكتبت بالخط المسند، وكتبها ورقة بن نوفل أيضاً بما سمي بالخط الآرامي المربع أو الخط العبري، هذه ثلاثة أمثلة...
رسالة الرسول محمد (ص )لأهل اليمن كانت بالخط المسند، الوثائق موجودة، تجدها في الكتاب لديّ.
لدينا الكثير من الأمثلة، ومنها نقش هام جداً يدعى نقش "رم 2 "، نسبة لجبل رم شمال خليج العقبة، وجدوا نقش مكتوب باللغة العربية " باللهجة العربية العدنانية كمصطلح دقيق ".


كانوا يتكلمون اللهجة العربية العدنانية أي الفصحى، وكُتبت بخليط من المسند السبئي أو اليمني، ومن خط الجزم، والهيروغليفي. نقش واحد، عد إلى كتابي تجد: " قاد علي جيشه، وانتهى بأرض ترى لكلب، جيشه عدا إلى الكمه (الكمه تعني مصر، فاسم مصر بالنقوش هو الكمه )سطر كوم (وما أكثر الكومات في مصر " إشبين الكوم " مثلاً )، الراعي الرب.


قاد أتت بخط مسند، عليّ أتت بخط الجزم، الراعي الرب أتت بالخط الهيروغليفي.
إذاً اختلاف نمط الخط لا يدل على اختلاف اللغة كما أن وحدة نمط الخط لا تدل على وحدة اللغة.
وكمثال على وحدة نمط الخط، فإن كافة اللهجات الجرمانية اللاتينية تكتب بخط واحد سميناه الحرف اللاتيني، لكن هذه لغة والأخرى لغة. إذاً الموضوع الكتابي شيء واللغوي شيء آخر.


عندما أجد أي نقش بالكتابات القديمة سواء كانت مقطعية كالأكادية التي كتبت بالمقطعية المسمارية، أو ما بين المقطعية والهجائية كما في الهيروغليفية، الآن لدي مشكلة كبيرة جداً في عملي وهو ما نسميه إشكالية اللفظ، مثلاً عندي نقش أجاريتي أي بالأبجدية الأجاريتية، وجدت حرفي صاد وضاد، هنا قد يستغرب البعض وجود حرف الضاد!! نقول نعم ويجد صوت الضاد، وسنأتي على أمثلة، وجدنا الصاد أو الضاد تلفظ باللفظتين، وسنعطي مثال على ذلك، وأيضاً على الراء والتاء.


مثلاً صرّة وضرّة، إذا قرأتها حسب قراءة البعض الذي ينكر وجود الضاد، تقرأها صرّة، ليثبت صوت الضاد تقرأها ضرّة، وجاء في القاموس ضرّة هي الزوجة الثانية للرجل. فهل الزوجة الثانية للرجل أقرب لأن تكون ضرّة أم صرّة؟ بمعنى آخر اللفظ السليم يجب أن أسمعه في الأذن أولاً وفي اللسان ثايناً، أما الكتابة فهي وسيلة للتذكير فقط.


- إذاً، أنا أمام مشكلة في الكتابات القديمة حيث أنني لا أسمع كيفية اللفظ، فكيف أغطي هذه المشكلة؟


- الواقع لدينا وسائل مقبولة نوعاً ما، بقي لدينا من هذه الألفاظ المتداولة سواء آرامية أو كنعانية أو أكادية أسماء المدن والقرى، فاسم دمشق، فيه تواتر لفطي، أذكر مرة كنا في مؤتمر المؤرخين العرب في القاهرة، اختلفوا في قراءة جِدّة أم جُدّة أم جَدّة، وقامت المشاكل بين المؤرخين العرب، فكانت لي مداخلة بسيطة جداً، وقفت وقلت لهم أنا لست من الحجاز، من منكم ابن جِدّة أو جَدّة؟ وقف أحدهم وقال أنا، قلت له كيف يلفظها العامة لديكم؟ قال جِدّة (بالكسر)، قلنا هذا هو اللفظ السليم لأن فيه تواتر لفظي.


مثلاً في تونس للآن يقولون " حنا بعل " ولا يقولون " هنيبعل".
سأستشهد بالمستشرقين أيضاً، لدينا كتاب اسمه " ليشانوم أكاديتموم" لريشارد كابس، أظن في الصفحة 112، يشير بأنه لدي مقطع من المقاطع وهو يمثل الـ أ الألف نفس الشكل يمكنك لفظه بخمس حالات تلفظه: ألف، ها، حاء، عين، غين. أي إن أتتني كلمة وقرأها مستشرق " إقلم " أنا لي الحق أن أبدلها: " حقلم " أو " هقلم " أو " عقلم " أو " غقلم ". لكن يقول لي بجانب هذه الكلمة " إقلم " معناها " حقل "، وبالتواتر اللفظي أنا عندي كلمة " حقل "، إذاً أستطيع أن أقرأها " حقلم ". المشكلة في الكتابة الأكادية واضحة جداً في ثلاث حالات، لدي المقطع الأكيد ذي الخمسة ألفاظ:


1- المقطع الذي قلته سابقاً " هاء أو عين .. " همزة أو هاء أو حاء أو عين أو غين.


2- المقطع " القاف, والكاف، والجيم، وال " تستطيع أن تقرأه بالحالات السابقة جميعاً.


3- المقطع الذي لم يأتوا إليه وهو صوت الصاد إذ يمكن أن أقرأها ضاد.


فيجب إذن أن أستعمل ما هو متواتر. أيضاً، وجدنا في الكتابات الإبلاوية كلمة " حامضوم " = حامض، وكلمة
" وضاءوم " = وضاء، فهل من المعقول أن تكون " وصاءوم " بمعنى استعمال الماء؟ ، وهل من المعقول أن تكون " حامدوم " بمعنى الطعم الحامض !!. لا يمكن لأنه لدي مدلول آخر لهذه الكلمة مثلاً كلمة " حَمَدَ "، هذا ما تقف أمامه في هذه الكتابات.
سأرجع إلى سؤالك مرة أخرى، نقول نعم لدي لغة أمّ.


هنا يأتيني بعض الكتاب العرب، ويقولون أن اللغة العربية هي اللغة الأم، بمعنى الفصحى، وهي لغة أهل الجنة، هذا كلام بعيد عن المنطق، وحين رجعت إلى بعض من ينسبوها بأنها حديث وجدت بأنه حديث ضعيف لا يؤخذ به.
لا شك تختلف اللهجات حتى باختلاف القرى من قرية إلى أخرى، قد تكون المسافة بنهما لا تتجاوز العشر كيلومترات.
ابن دمشق يقول " لبنان "، وابن عربين يقول " لبنون "، ابن لبنان يقول " لبنين " .
الموضوع أنه هناك لهجات تختلف وخاصة بالأحرف الصوتية، أو بالأحرى ألف المدّ، الألف والواو والياء هنا لدي إبدالات، فأقول [دار ]أو [دور ]أو [دير]، صحيح أنه بعد ذلك أخذت كل منها مدلول آخر مختلف لكن الأساس واحد وهو البيت الدائري. ونحن نعلم من خريطة مكة القديمة، أن كافة البيوت في مكة كانت تبنى بشكل دائري، بخلاف الكعبة، وهذا شيء ثابت لدى الكتّاب، لذلك نقول لدينا لغة أمّ لا نعرفها تفرّعت إلى لهجات، ومنها هذه اللهجة الأكادية أو الإبلاوية أو الأجاريتية، وأيضاً العربية الفصحى، فهي لهجة حوت أكثر هذه اللهجات لكنها ليست اللغة الأم (اللغة الأم لا نعرفها ).
- هل هي قبل السومرية؟
- أنت هنا وصلت إلى بيت القصيد، من العته بمكان أن أقرر لغة أو حضارة أمة قبل 3200 سنة قبل الميلاد، وهو ما عُرف بتاريخ الكتابة.
فوجئنا نحن عندما قالوا لنا أن اللغة السومرية هي اللغة الأم ! وبعدها أتت الأكادية وكأنهما لغتان مختلفتان، توجد نظرية قديمة أشار إليها د. نائل حنون وأثبتها علمياً، وأنا مع هذه النظرية بأن الكتابتين أو اللغتين هما لشعب واحد.


سأضرب لك مثلاً، لأن المثال يختزل الجواب ويختزل المقال: لديّ في مصر لغة، تدعى لغة السيم، وهي لغة تعتبر شيفرة، وتختص بين مهنة وأخرى، فبائعوا الصاغة لهم لغة، وهم يتكلمون أمامك ولا تفهم شيئاً، بينما يفهم عليه الصائغ الذي يعمل لديه، فلا يقول عن القطعة أمامك أنها غالية ويقول له لفظ آخر، إذن لدي لغة دعني أسميها لغة كودية ونحن نعرف سابقاً، حتى الهيروغليفية، " أنا الآن شتّيت بين السومرية والهيروغليفية لأنه لدي مثال واحد " كانت هذه الكتابات من اختصاص الكهنة ودليل ذلك أن اللغة المصرية / لغة السيم / بعد كل جملة صغيرة يضع لي المخصص، ما هو المخصص؟ ، مثلاً موضوع جنسي يضع الذكر البشري، موضوع مدينة يضع دائرة بداخلها مصالبة أي مدينة، فحتى لو كان الشخص مختص بهذه اللغة الكودية المشفرة لكن يمكن أن ينسى، لذا وضع الرمز المخصص لها، إذاً هي لم تكن لغة منطوقة، إنما هي كتابة سرية ما بين الكهنة ليعرفوا مضمونها وهذه تحتاج إلى الكود.


الآن النظرية عن السومرية هي كذلك، إلى الآن لا نعرف من أين أتى السومريون، إذا اعتبرناها كلغة..


- هل هناك في السومرية نصوص كهنوتية مثل اللغة الكودية؟
- نعم وأكبر دليل أن السومرية بقيت مستعملة حتى سنة 79 ميلادي، وأنا أعتبر اللغة السومرية لغة مكتوبة تكتب ولا تنطق، وقد تنطق لدى المختصين فقط.


طيب، كيف أقرأ نصاً مسمارياً. كافة المستشرقين يأخذون هذا الرمز ويحولونه إلى الرمز الحديث، لأنه لدي تطورات الشكل " الشكل تطور " ، فيكتبون بكتابة حديثة نسبياً وهي كتابات الدولة الحديثة أو العصر الحديث أو العصر الكتابي، إذاً المقطع نفسه حوله إلى مقطع ثاني، المقطع الثاني أخذ لفظه، أحياناً كثيرة يأتيني اللفظ سومري، أي مقطع من المقاطع سومري لكن أحوله إلى لفظ أكادي، الموضوع متشعب لكن السؤال المطروح من المعروف بأن اللغة السومرية هي لغة ملصقة يعني غير متصرفة، عندما أكتب شيفرة مثلاً، عندما أريد أن أتي لعندك، أكتب لك اليوم عندك وإشارة بيت، هذه شيفرة لكن أنا متفق معك، لذلك أنا مع النظرية التي أثارها د. نائل حنون أن السومرية والأكادية هما إن صح التعبير لغتان لشعب واحد.
الأكادية لغة منطوقة أو السومرية لغة غير منطوقة، هي كتابية مشفرة يعرفه أصحاب الاختصاص والكهنة.


- إذن لا يوجد شعب اسمه الشعب السومري؟
- لا يوجد شعب سومري، عندنا أرض سومر وأكاد. حتى كلمة سومر ليست سومرية، بل هي أكادية، لا أنسى بأن الكتابات مهما تجردت لا بد أن تحمل بعض الكلمات الفعلية.


عندي عدة كلمات موجودة مثلاً: " ريعوم " بمعنى " راع " ، كلمة " قصّاروم " بمعنى " قصّار أي نساج " ، كلمة " نجاروم " بمعنى " نجار "، هذه كلمات أكادية، هنا لنا وقفة مع بعض المحللين الذين يقولون أن هذه الكلمات استعيرت من لهجة حضارة العبيد، ودليل ذلك كلمة " حرثوم " بمعنى " محراث "، والمحراث عُرف بفترة العبيد بالألف الخامس قبل الميلاد .


من هنا المقارنة، بمعنى أخر، لو سميناها لغة مستقلة لكن لابد أن تحمل بعض الملامح، لدينا كلمات كثيرة موجودة، هذا ما أود أن أقوله، إن سميناها لغة كتابية غير منطوقة اسمها السومرية، أصحابها الكهنة والمختصين، كتابة ذوي الاختصاص تعلموها، وهم الشعب الأكادي، الذين سميناهم أكادي بفرعيه الآشوري والبابلي، والذين نسميهم العرب القدامى..


نصل على أنه توجد حضارة عبيدية، ولا نستطيع أن نقول توجد حضارة سومرية، نقول توجد حضارة أكادية، كيف ننظم هذه الفكرة؟
- الآن حللنا المشكلة نحن نعمل، لكن قد أعطيك رأي وأغيره بعد يومين من ناحية الشكل وليس المضمون، لأنه موضوع جديد، إنما مبدئياً أقول، الشعب هو شعب واحد، وكلمة أكادية هي مصطلح جديد فابن أكاد لم يطلق على نفسه أكادي، والفن ببلاد ما بين النهرين أعتبره فناً مقبولاً، إنما لا يقارن بالفن المشرقي المصري.


- من حيث ماذا؟ من حيث القيمة والإبداع؟
- لديهم تقنية جميلة وراقية جداً.
نعود للحديث: فالأهم، الدكتورنائل حنون جاء بـ 52 دليلاً، سأذكر اثنين، أولهما أن " إي – إن – غ " ، هو اسم السومريون الذين سموا أنفسهم هكذا، فكلمة سومر كلمة أكادية هذا أولاً، إذا اعتبرنا أن هذه اللغة اندثرت لماذا بقيت مستعملة حتى عام /79/ ميلادي بمعنى أنها (وأشار إليها د. نائل )تستعمل في الكتابات الدينية في المعابد أي كان لها جو معين، ولا أنسى بأن المسافة الآن بين الحدود المصية والعرقية هي 480 كيلو متر فقط، إذاً أخذتها ابتداء من سيناء حتى الحدود العراقية أي الفكر واحد، وهو ما أود أن أصل إليه، هناك منهجية لكتابة التشفير والتي سميناها هناك سومرية ولدي كافة الكتابات.


الآن توجد نظرية جديدة تقول: حتى اللغة المصرية القديمة، وحتى الهيروغليفية، بقيت كلمات وكتابات تشفيرية غير منطوقة، مثال على ذلك، كلمة " فتَكَ " بأسلوبهم وضعوا الفاء أولاً ثم الكاف ثم التاء أخيراً، فأنا أقرؤها " فكت " لكن هم يقرأونها " فتك " وهو شيء موجود بمعنى فتك وقتل.
كلمة النيل مثلاً، لم أجدها في الكتابات المصرية بل وجدناها " حابي "، استغربت فالعرب العدنانيون لا يعرفون شيء معناة النيل، فهذه عملية تواتر، أيضاً كلمة " هرم " اسمها " مِر " ويقرأها لك " مِر" ويكتبها " مِر "، لكن أين التواتر؟ هل من المعقول أن تخفي هذه الحضارة العظيمة - أهم معلمين في مصر؟ فاسم نهر النيل وجدتها في الكتابات " حابي "، وكلمة " هرم " وجدناها " مِر "، فهل هذا معقول؟
- لماذا لم يختف اسم دمشق من الكتابات القديمة منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الآن أجد دمشق؟، ووجدنا " دمشقا " في الكتابات الأكادية، لأنه ليس لدي مقطع للقاف وحده في اللغة الأكادية، الموضوع هو بحث لغة السيم، ما تزال فكرة هذه اللغة مستعملة في مصر في المهن وهي كلام سري لا يعرفه الآخرون.


تجار الصاغة هنا في دمشق، لديهم لغة خاصة بهم ولا سيما في تحديد نوعية وهوية زبائنهم.


هذا هو ما نسميه لغة السيم، إذن وصلنا إلى لغة أم موجودة، وفرقنا بين اللغة والكتابة، التطور اللغوي موجود. مثلاً هل لغتك عندما كنت في الثانوية مثل لغتك الآن؟ لديك تعابير تستخدمها أنت لكن غيرك لا يستخدمها، أذكر مرة كان لدي كلمة في اتحاد الآثاريين العرب، في تكريم أحدهم، فكتبت صفحتين وكان معي الدكتور مصطفى جطل وكان عميد كلية الآداب في حلب واختصاصه اللغة العربية، فطلبت منه أن يضع التشكيل على خطابي فسألني أن يغير فيه قليلاً فوافقت، غيّرها ثم أخذتها لأقرأها فلم أستطع لفظها، قلت له: ما كتبته أنت فإن فيزيائية صوتي، لا تستطيع أن تلفظه. فقال لي: ارجع إلى كتاباتك.


إذاً لكل شخص وقفة معينة في حديثه، أنت لك لهجة، ونحن نختلف في الاستفهام والإنكار وفي النبرة وفيزيائية الصوت، فكل إنسان له فيزيائية معينة وبالتالي هناك تطور لا شك.
- اللغة الأم هل نستطيع أن نطلق عليها اللغة العربية؟ أنتم رفضتم السومرية..
- ليست مسألة رفض.
نحيّناها جانباً. دائماً فلسفة التاريخ لها ثلاثة أمور:


أولاً: أن نستعمل مادة المنطق أي 1+1= 2 .


ثانياً: يجب أن يكون لدي خيال علمي سليم، مثلاً سباق الماراتون، هو أن الفرس دخلوا ليهاجموا أثينا، الماراتون سهل شمال أثينا، وأثينا في خصام مع إسبارطة، لكن يوجد عدو مشترك، فأرسلوا إنساناً يسمّى " فيدي بيدس " جرياً من أثينا إلى إسبارطة التي هي في الجنوب، والماراثون بالشمال، خلال يوم وليلة عاد، فسموه سباق الماراتون، لنأخذ مادة المنطق والخيال العلمي، خيال علمي، يجب أن يكون لدي سلم تاريخي سليم، وساحة جغرافية سليمة، إذاً لماذا سمي سباق الماراتون بدل أن يسمى سباق أثينا أو إسبارطة؟، قبلنا أنه بمناسبة وجود قوات فارسية بسهل الماراتون سمي بسباق الماراتون، هنا نطرح تساؤل آخر، الخيول كانت معروفة في اليونان، الإسكندر المقدوني دخل المنطقة بتسعة آلاف فارس، هنا يجب أن أقف عند حقيقة علمية واضحة اعترفت فيه اليونان، وهو موضع الأسطورة، في الأسطورة هناك حقيقة لكن هذه الحقيقة مضخمة ومبالغ فيها وقد أخذت بذلك المدرسة التوراتية، ونحن حبيسين هذه المدرسة التوراتية والمدرسة الإغريقية.


ثالثاً: المادة التاريخية، نأتي للسومرية، فالسومريون حتى الآن، الكل يقول لك لا نعلم من أين أتوا، هنا نريد أن نحل المشكلة، فإذن توجد لغة أم انبثقت عنها لهجات. لدينا لغة عربية أم لا نعرفها.


- ألا نستطيع أن نطلق عليها هوية؟
- الهوية عربية، حيث نأخذ آثارها في لهجات كلها تقوم بتشكيلها.
- يعني لغة عربية أم ماذا؟ هل هي / سامية / أم عربية؟
- الواقع لم نكن سابقاً ضد كلمة سامية لأنها مدلول شمل الناس كلهم، أما وأنه قد استعملت كلمة السامية لحصرها باليهود فقط، فنرجع للحقيقة التاريخية حيث لم أجد في النقوش كلمة سام، عندي كلمات أخرى، هل ندعوهم عموريين إذ ظهر عندي كلمة عمور، هل نسميهم كنعانيين لأنه ظهرت لدي كلمة كنعان، أم نسميهم أجاريتيين لأنه ظهر لدي أجاريت، إبلاوية ظهر عندي إبلا، مصريين ظهر عندي مصر.


- ولكن أكاديين غير موجودة !!
- كلمة أكاد كلفظ أغاد أو أكاد هل أسميها بونية، كل هذه الكلمات مقبولة لدينا، لكن أيها أكثر قبولاً وأيها أكثر انتشاراً جغرافياً وأيها أقدم مصطلح وجدته في الكتابات لا يجوز أن أؤلف من عندي، كلمة عرب وردت في نقش لـ نازان والد نارام سين، ابن شاروكين يتكلم عن عرب ملوكا وعرب مكان..


- هل ورد في النقش حرف العين أم..؟
- أتت بحرف العين، على كلّ هذا ما أقره " إسرائيل ولفنسون " في كتابه " اللغات السامية " وما نقله عنه " أنوليتمان " ، هذان الاثنان لم ينكرا هذا النقش والاثنان قرآها، عرب، يعود هذا النقش إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد (2200 ق.م )، وللأسف إلى الآن أدمغتنا مغسولة بأن نقش " جنيديبو العربي " الذي قام بألف جمل في معركة قرقر، هو أول نقش يذكر العرب لكن هذا كلام غير صحيح.


ارجع إلى الكتابات الإبلاوية، ليس لدينا شيء عنها كله بالحرف اللاتيني وكله إمّا بالإيطالي أو بالإنكليزي، شخص واحد لدينا يهتم بهذه الأمور، وهذا لا يكفي، يجب أن يكون لدينا مدرسة أو مجموعة ما، لديها على الأقل فكرة عن الكتابات القديمة، أقول كتابات ولا أقول لغات، عندي الآن كتابات إبلا، يجب أن يكون لدينا شخص مؤسس لغوياً على الأقل وأن يكون أيضاً مؤسس باللهجة العربية العدنانية لأن اللغة لغة، ثم نعلمه شكل الخط.


- يلاحظ أنه تعتمد على اللغة في مناقشتك، ترى إلى أي حدّ تشكل اللغة عاملاً أساسياً في تحديد هوية مجتمع ما؟ فإذا كان سكان السنغال مثلاً يتحدثون الفرنسية كلغة رسمية فهل يعني هذا أن السنغال فرنسية الهوية؟ أو مثلاً أن اللغة المالطية تحتوي على جذور / سامية / فهل يعني هذا أن المالطيين ساميين؟
- اسمح لي أن أقول هنا أن قومية فئة من الناس، أو على من تنتمي، الموضوع الأنثروبولوجي هذا هو موضوع غير علمي، لأنني لا أستطيع أن أعرف صفاء دمي لمن يبتع ولا أنت كذلك، ولو أن نسب العربي معروف لكن من خلال هذا النسب قد توجد امرأة تركية أو امرأة شركسية في سلالتي.


الموضوع الأنثروبولوجي، مثلاً عندك الأستاذ " إبراهيم يموت " (وهو من الحزب القومي السوري )، له بحث جميل في هذا الموضوع وضع لك احتمال واحد من عشر ملايين كي يتطابق معك النسب لكن ما هي الدلائل؟ لدينا دليلين هما اللغة والجغرافية، اللغة هي مسبار وكشاف الشعوب، هي ورقة عباد الشمس التي أضعها في المادة فأعرفها إما قلوية أو حامضية، تكلم أقل لك من أنت، أحدهم في يوم من الأيام وأنا أقول[إن تكلمت العربية فأنت عربي ]فدخل بمداخلة وقال أنا أتكلم الفرنسية فهل أنا فرنسي؟ قلت له حسب المنام (الحلم )الذي تراه إن رأيته بالفرنسية فأنت فرنسي.


الموضوع إذن فكري، اللغة هي التي تجمع الناس، اللغة أولاً والوحدة الجغرافية ثانياً هما كشاف الشعوب، حتى تطور اللغة وحتى مدلول الكلمة، مثلاً كلمة / كفر / مدلولها الفعلي عند الجميع مدلول واحد في كل من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا.


الآن نجد الفكر الديني مختلف، فكلمة / كفر / أجدها في كافة اللهجات وخاصة الآرامية والكنعانية تعني غطى، ولها معنى ديني صغير بمعنى غطى الحقيقة، من يغطي الحقيقة فهو كافر، فهو مدلول صغير من مدلول كبير سأقف عنده، فالتعنت الديني الذي صار لنا في مجتمعاتنا.. فنحن نقول فلان كافر لكن السؤال المطروح: تفسير القرآن الكريم والإنجيل اللغة أساس فيهما أم لا؟، الكل يقول نعم، لكن إن دعيت بوذي إلى الإٍسلام وكانت حجتي ضعيفة ولم يقتنع، فهو لم يغطي الحقيقة أي ليس بكافر، لأن الكافر هو من يعلم ويغطي الحقيقية.


مثلاً فلان غطى الحقيقة لكنه أنكر ذلك، والله لم يسمح لي أن أدخل إلى قلبه إذاً لدي ظاهرة فقط لذا لا يجوز لي أن أقول عنه أنه كافر.


نأتي إلى كلمة / كفر / تعني غطى، هل هناك صلة لغوية ما بين الكلمات التالية: كَفَر، كَفِرْ، كفرون، كفير، كافور؟ نعم هناك صلة، الأولى، شرحنا معناها سابقاً، الكٍَفْر في مصر معناها القرية، الكافور نوع من العطور يوضع على الميت ويغطي رائحته الفاسدة، وسميت الأرض الجرداء التي حُرثت وبُذرت فكفرت ثم كفرت بالنبات سميت الأرض كَفْر، إذاً أساس معنى الكفر هي الأرض الجدباء التي زرعت فكفرت بالنبات فهي كفر. ماذا جاء في القرآن الكريم [كمثل غيث يعجب الكفار نباته ]. عد إلى التفاسير معناها الزرّاع وليس الكفار، الكافر هو المزارع، لاحظ انتقل مدلول الكلمة، أنت عندك أرض كفر، وأنا عندي أرض كفر، من أجل الأمان أنا بنيت غرفتين وأنت بنيت غرفتين بجانبي فانتقل المدلول من الأرض الزراعية على معنى القرية، هذه القرية يجب أن يكون من مواصفاتها أن بجانبها أرض زراعية، المدلول من أجمل البحوث لغوياً، بحث فيه " ابن جني " لكن لا يزال ينقص هذا البحث الكثير، وبحث فيه " محمد إنطاكي " من حلب، و" صبحي الصالح " بلبنان. بحث فيه الكثير لكن هذا موضوع جميل جداً ليس هذا مجاله.


نأتي للمجتمع في دمشق، يوجد فيه 4 ملايين نسمة حالياً، لدي في دمشق ما ينوف عن العشر مداليل لغوية، فلغة الطبيب خلاف لغة المهندس، لغة الأثري خلاف لغة المؤرخ، نأخذ مثلاً كلمة الموسم: الموسم عند الزراعي غير الموسم عند الصناعي وغير الموسم عند الأثري، هذه المداليل تختلف لكن تستطيع أن تكشفها، لماذا نقول تكلم أقل لك من أنت، أولاً تتعرف على شخصيته وتكلمه على مستوى عمقه وفكره ولهجته.


- دكتور قبيسي.. القرآن كتاب على حدّ علمي لم يكن منقطاً ومشكّلاً في أول الأمر، وحسب اعتمادكم في دراساتكم وأبحاثكم عليه في المنحى اللغوي.. كيف تنظرون إلى هذه المسألة وكيف يمكن أن نناقش أو نعتمد على القرآن في هذا الموضوع؟ أطرح سؤالي ليس بنية التشكيك بقدر ما بنية التأكيد والحقيقة الموضوعية.
- الواقع أنه يجب أن نتكلم وهل هذا ممنوع من أن أفكر فيه، لا سأفكر فيه، نأتي إلى موضوع القرآن الكريم فله في ذهني قصة عجيبة، وهي التالية، عندما بدأت أهتم في الكتابات القديمة وكنت في بداية دراستي في سنة /1959/ في الكلية الحربية في القاهرة كنا نأخذ اللغة العبرية، ومرت علي هذه الجملة / آني عشخاف هوليخ عا ها بيت / (أي : أنا الآن ذاهب إلى البيت) فلم أستغرب هذه الكلمات، ففيها شيء قريب للجرس الذي أتكلم فيه بلغتي العربية، (عا ها بيت )يعني عَ البيت، آني: أنا، فهنا أخذ هذا الموضوع حيزاً من تفكيري، اسم حرستا أو دوما أو دمشق فيها جرس عربي لم نعرف أن نفسره، أسمع أنا عن شيء اسمه القرارءات العشر للقرآن الكريم، فبدأت أستفسر عن القرارءات العشر ورجعت إلى كتاب سعيد الأفغاني، محقق لكتاب " ابن زرعة " وهو مهتم بالقراءات، أقرأ كالعادة المقدمة ثم الفهرست ثم أقرأ الكتاب. فتحت كتاب " ابن زرعة " لسعيد الأفغاني، أذكر أنه بنصف الصفحة الأولى في المقدمة يقول ما يلي: [من أراد أن يعمل في اللغة ولم يقرأ القرآن الكريم فإن عمله واهٍ ]، أنا كنت صغيراً ولم أكن أحفظ إلا بضعة آيات صغيرة فوقفت عن إكمال قراءة الكتاب، عدت ووضعت القرآن الكريم أمامي ستة أشهر وأنهيته مرة واحدة.


- وعودة إلى سؤالك، جاءنا القرآن الكريم له تشكيلات كيف عرفنا أن هذه التشكيلات هي الصحيحة، كان القرآن غير منقط وغير مشكل فكيف أثق بذلك؟ الآن أنا لدي قرآن مشكل ومنقط سأعطيك هذه الآية أرجو أن تقرأها بصوت عال..


أعطاني الدكتور قبيسي القرآن وطلب مني أن أقرأ هذه الآية من سورة النساء، ولأعترف أن قراءتي كانت رديئة (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً )(النساء: 119).


أنا أيضاً قراءتي الأولى لم تكن صحيحة، وحاولت ما ينوف عن العشر مرات رغم تشكيل القرآن الكريم فلم أستطع، فكان أن استعنت بحافظ للقرآن الكريم وطلبت منه أن يقرأها لي ثم أعدتها وراءه، إذن العبرة في النطق لا في الخط كما يقول " ابن جني ". أعود لأذكّر أن أساس اللفظ السليم، السمع في الأذن والإعادة في اللسان، لذلك نجد عند أكثر الفقهاء يقولون لقد قرأن فلان عن فلان، سآتي خلاف لهذا النص بمثال بالإنكليزي كلمة /enough إيناف / وهي إن قرأتها تلفظ (إينوغ )، العبرة في النطق. أيضاً، كلمة عمرو، أكثر المذيعين يقولون عمرو موسى (بمد الواو )، لكن هذا مصطلح إملائي، نضيف الواو لنقرأها (عَمْر )بدلاً من (عُمَر )، إذاً العبرة في النطق لا في الخط.


الآن كيف نثق في هذا القرآن. لم يكن هذا أساسياً، فالأساس هو التواتر اللفظي جيل بعد جيل، الخط للذكرى ليس إلا، لكن كله أخذ بالتواتر أحدهم عمّا قبله، نجد خلافات بسيطة أحدهم يدغم والآخر لا يدغم، مثلاً. هذا كله بسيط، لذلك حُفظ القرآن بعد ذلك في هذا التشكيل لأنه أيضاً مصطلح مثلاً: (لأمُرَنَّهُمْ )أين الألف؟ يجب أن تكون الألف ممدودة لكن لم أجدها، بمعنى آخر، القراءة تنتقل من جيل إلى آخر، لذلك أنا أثق في لفظ القرآن الكريم ليس بسبب القرآن وتشكيله بل بسبب عملية التواتر اللفظي الذي أتاني جيلاً بعد جيل.


أرجو أن أكون وفّقت في الإجابة عن السؤال، القرآن الكريم قبل التنقيط تثق فيه إذا أخذته عن طريق التواتر اللفظي، في دمشق ما ينوف عن العشر قرّاء يعطون شهادات، أي الأمر لا يتوقف إلا على اللفظ السليم نطقاً وبالتواتر.


كلنا يذكر فيروز في بداية الخمسينيات حيث كانت أكثر أغانيها غير مفهومة، عرفت هي والملحنين العلة، فأول شرط من شروطهم أن يتعلم المغني تجويد القرآن الكريم، التجويد وليس الغناء، فالتجويد هو لمخارج الحروف، لذا اعتنت فيروز بمخارج حروفها فأصبحت أغانيها كلها مفهومة.
أعود لألخص السؤال ليست العبرة في التشكيل والكتابة فهما للتذكير فقط، العبرة فميا سمعته في أذني وأعدته في لساني، إن سمعته في أذني ولم أعده في لساني فما تزال العملية ناقصة. [العبرة في النطق لا بالخط ]كما يقول " ابن جني ".


- من المعلوم أن / محمد / كاسم علم، لم يكن موجوداً، أو بالأحرى كان الاسم نادراً، وفي كتابك / فقه اللهجات العربيات / تورد أن وثائق أجاريت تدل على ورود اسم / محمد /، هل من الممكن أن توضح لي ذلك؟
- الشهير أن اسم / محمد/ كان نادراً، وعبد المطلب جدّ الرسول هو من سماه، لأن أباه كان متوفى، وكان أصحاب هذا الاسم في شبه الجزيرة العربية بحدود الخمسة.
نأتي على الكتابات القديمة وخاصة ما نسميها بالعربيات بدل الساميات، حيث نجد في قاموس أجاريت فعل / حَمَدَ/ واسم علم / محمد/ أو / محمود/ حيث تقرأ بدون أحرف صوتية [م – ح – م- د ]، تستطيع أن تقرأها محمد أو محمود، فمن الأرجح أن هذا الاسم كان مستعملاً، وأنا بحثت وذكرت في قاموس أجاريت الذي أوردته في كتابي [ملامح في فقه اللهجات العربيات من الأكادية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية ]، بحثت بحدود الصفحتين أو ثلاثة، بأن قريش كما يُشاع، لم تأتِ من جنوب شبه الجزيرة العربية، أظن أنه من الناحية العلمية، هذا شيء فيه خرافة، لكني أرجّح أن قريش جاءت من الشمال ولم تأتِ من الجنوب.
- ماذا تقصد بالشمال.. بلاد الشام؟
- لا من شمال مكة بما فيها بلاد الشام، فنحن نعلم أن قريش ليست أصيلة في مكة، إنما هي وافدة، وكانت قبلها قبيلة (جرهُم ).
وكما قلنا بأن اللغة هي كشاف ومسبار الشعوب، أجد تقارب العربية الفصحى [ما سميناها باللهجة العربية العدنانية ]مع اللهجات العربية الأجاريتية والأكادية والآرامية. فأجد النسب التالية:


90.5 % من لغة أجاريت أجدها في قاموس لسان العرب، وهنا لي وقفة، فقد سمعت أنه في لغة أجاريت يوجد بحدود 700 لفظ موجودة في قاموس لسان العرب، وهنا أحب أن أوضح عن هذا الكلام، ففي الواقع قد أحصل على نقش فيه عشرين كلمة، هذه العشرين قد أجعلها نسبة مئوية فأقول العشرين تساوي 100%، وبالتاي أجد منها خمس كلمات متطابقة فتكون النسبة 20 %، فما وجدناه في أجاريت نعم بحدود الـ 918 كلمة، فوجدنا نسبة 90.5% من هذه الكلمات تجدها في لسان العرب، و 4.2 % هي الكلمات العاميات مثل: برّا، جوّا، خشِّة، فلان ليس لديه خشة أي ليس لديه غرفة، المجموع إذن 95% تقريباً، بقي لدي 5% من الكلمات نسميها الكلمات المتجمدة أو الكلمات الميتة الاستعمال، على الأقل ميتة الاستعمال بالنسبة لي أنا، وهنا يجب أن أشير إلى نقطة، فما أعلمه أنا بثقافتي العامة هذه، هي لغتي الخاصة فاللغة الخاصة ما أعلمه أنا لنفسي وما تعلمه أنت لنفسك من قراءاتك، أما اللغة العامة هي لغتي ولغتك ولغة كافة أفراد الوطن العربي الذين يتكلمون هذه اللهجات إلى جانب ما هو مطمور في الكتب ككلمات، هذه هي اللغة العامة. أنا على حدّ معلوماتي وجدت : 90.5% و4.2 % أما الـ 5% فلم أجدها، ربما إن عدت إلى قواميس أخرى سأجدها، أعود الآن لأسأل: لماذا أساس قريش كلغة يتطابق مع أجاريت بنسبة 90.5%؟، ومع الآرامية بنسبة 86%؟، ومع السبئية بنسبة 55%؟، لذلك نقول أتت من الشمال. ولا أنسى ما ورد في التراث أن قصي أحد جدود الرسول كانت له دار في دمشق، بمعنى أنه مقيم في دمشق، وما ورد في القرآن الكريم وهو ثابت، رحلة الشتاء والصيف، فكانت هذه الرحلة بالصيف حيث يقيمون في دمشق من أجل البرودة، وفي الشتاء يقيمون في مكة من أجل الدفء.


- ذكر لي الصديق الدكتور محمد محفل أن نسب الرسول يعود لأبي زيد الشامي.. بمعنى أنه يعود لبلاد الشام.. هل لديك أفكار حول هذه الفكرة؟
- لم أقرأ هذا البحث، والدكتور محفل ثقة.
- لم يكن هذا في بحث، بل في جلسة اجتماعية..
- إذاً اسم محمد كان موجود بأجاريت لكن يبدو لم يكن يستخدم كثيراً بأسماء العلم وقد أتى كاسم علم وأيضاً جاء بصيغة فعل (حمد ). وهناك أسماء أخرى بأجاريت مثل (أبي ذر ).
- هل توجد كلمات آرامية في القرآن. .وما نسبتها؟
- عندما أقول 86%، وعندما أقول كلمة آرامية، أقول العربية الآرامية، نعم لدي كلمات كثيرة في القرآن ليست موجودة في العدنانية وفي لغة قريش، سأعطيك أمثلة: في الفاتحة، نجد لهجة عربية آرامية [الحمد لله رب العالمين ]، نحن بالفصحى نجمع كلمة [عالم ]بكلمة [عوالم ]، الياء والنون هي صيغة الجمع في الآرامية كما نقول: جسر = جسرين، جمل = جملين، فصيغة الجمع لكلمة عالم في سورة الفاتحة هي عربية آرامية.
كلمة ثانية: عندما أتت الآية الكريمة، [وفاكهة أبّا ]، وقف أكبر ناقد لغوي في سوق عكاظ وهو عمر بن الخطاب ليقول ما معنى [أبّا ]، إلى الآن في عاميتنا نقول [أبّت إيدي ]، يعني (انتفخت يدي بسرعة بسبب كدمة ما )، بلدة / إبين / في حلب، وبلدة / أوبين / في اللاذقية، تأبَ أبَا، سألت صاحبي وصديقي العميد عبد الحميد غباري، وهو كردي فقال أن اسم بلدة إبين كردي !! قلت له: هل أرضها زراعية خصبة؟ فقال لي إنها تعطي ثلاثة مواسم في السنة. وهذا يدل على أن اسم هذه البدلة عربي آرامي.


إذن عندنا كلمات كثيرة من العربية ليست قرشية عدنانية، لكن هي من اللهجات العربية الأخرى، فهنا لعبة خطيرة، هل أسميها العربية الآرامية أم أعتبرها دخيلة، هي ليست دخيلة قد تكون إحدى المعجزات، لا أؤمن بالمعجزة أنها هكذا أتت، لكن ما بين يدي من التراث اللغوي في القرآن يعطيني المدد.


مثلاً / الحق الحق أقول لكم / هذا نحو عربي آرامي واضح ورد في الإنجيل وفي القرآن أيضاً / الحق الحق أقول /.
- أنا أعرف رأيك بما اتفق عليه في الأدبيات التاريخية بفكرة الهجرات / السامية / حيث قرأت رأيكم في كتابكم / فقه اللهجات العربيات/، بحيث تميل إلى الأخذ بفكرة أنها حركة جولان وليست هجرات منظمة.. وهذا يتقاطع مع رأي الدكتور محمد محفل أيضاً. هل من أفكار جديدة حول هذه الفكرة؟
- تكلمنا سابقاً سوياً، في هذا الموضوع وقد أقنعتني بما طرحته أنت، لديّ جَولان وهناك هجرات بسبب الطبيعة، لكن هذا لا ينكر أنه يوجد أناس يعيشون أصلاً في هذه المنطقة.


فدمشق مثلاً، في عام /1960/ كان عدد سكانها 375 ألف نسمة، ومنذ عشر سنوات أصبح عدد سكانها 5 ملايين، والآن توجد لدينا هجرة من العراق بسبب الوضع الأمني هذا الموضوع يكبر ويصغر حسب الظروف. نظرية كيتاني أن شبه الجزيرة العربية كانت ذات أنهار ومياه، وحدثت حركات تكتونية ومجاري المياه طالها الجفاف، ففي شبه الجزيرة العربية، عندنا نهر /لار /، ذكره هيرودوت، ووجدناه في وادي الدواسر، دواسر من اندثر، يقال على جانب وادي الدواسر يوجد الكثير من الآثار. عن الحركات التكتونية مثلاً، قبل سنة /1994/ حدثت هزة أرضية في سوريا، يقال أن قرية جانب تدمر زادت مياهها، لكن زادت المياه في منطقة، مقابل نقصانها في منطقة أخرى.


الموضوع هناك هجرات وهناك جَولان بسبب الطبيعة، لكن هذا لا ينفي إقامة شعوب على هذه الأنهار، لحالات طبيعية مؤثرة جرت الهجرة، وزادت من شبه الجزيرة إلى منطقتنا لكن هم أتوا عند أبناء عمومتهم وإخوانهم وكانوا يتكلمون لغة واحدة.


è بمعنى أنه لم تكن منطقة المشرق فارغة، وأتوا إليها وأقاموا حضارة أي كانت الحضارة موجودة أصلاً وفي تفاعل مستمر؟ طيب.. اسمح لي أن أنتقل إلى موضوع آخر..كيف تنظر إلى اللغة العبرية القديمة والكتابة العبرية؟
بداية يجب أن أفرق بين عبريتين، العبرية الأولى هي عبرية التوراة، والعبرية الثانية هي ما ألفت عام /1922/ ميلادي على يد أليعازر بن يهودا. نعم في القرن العشرين أي قبل / 90/ عاماً فقط.


الأولى: لغة التوراة وسنتكلم عنها.


الثانية: عام /1922/ هي لغة الصحف والإذاعة الإسرائيلية وهي لغة حديثة مؤلفة، كتبت بالخط العبري وما سموه بالآرامي المربع وهذه مشكلة أخرى في موضوع الخط.


موضوع الخط هي خليط من لغة اليدش، ولغة اليدش بالمناسبة، هي خليط من البولوني والألماني والروسي، لذلك أنا وأنت لا نفهم هذه اللغة، أما عبرية التوراة حسب مقولتهم ودراستنا، يقولون أن التوراة كتبت باللهجتين الكنعانية والآرامية، ما كتب بالآرامية هو سفر دانيال وأجزاء من سفر عزرا، وهي ملامح، مثلاً وجدت فيها أداة التعريف الآرامية مثلاً [حرستا ](الألف في آخر الكلمة هي أداة التعريف )، وجدت في عملية التعريف هذه الملامح الصغيرة، فالعبرية للأسف أقول وأنا ليس لدي بكل تواضع نص عبري بالخط الآرامي إلى الآن، ما قبل القرن العاشر الميلادي. وأقدم نسخة للتوراة كتبت عام /950/ ميلادي، ارجع لأي مقدمة في الكتاب المقدس تجد ذلك، ولكن هذا لا ينفي وجوده. لكن بماذا كُتب؟ هم صادروا الحرف الكنعاني واعتبروه عبري قديم، ارجع إلى كتاب " إسرائيل ولفنسون "، أيضاً صادروا الحرف النبطي واعتبروه عبري، وثائق قمران وتوجد مصادر كبيرة.


- السؤال المطروح: سميناها اللهجة العربية الآرامية واللهجة العربية الأكادية، فهل يجوز لي أن أسميها اللهجة العربية العبرية؟
- نقول: أولاً سأجاوب جواب علمي ودبلوماسي، ما دامت التوراة مؤلفة من جزئين كنعاني وآرامي، وما دمت أبحث في الأصل فلا داعي للفرع، إذا أحبوا أن يقولوا عن العبرية بأنها عربية فنحن ليس لدينا مانع (وهذا يخص التوارة فقط وليس لغة الإذاعات والصحف)، ولا أنسى بأن بني قريظة وبني قينقاع، هم عرب، لكن ديانتهم يهودية. صادروا وأرادوا أن يجعلوا من الدين قومية، هذا شأنهم، يقولون المسيح يهودي لكن كيف؟ هل هو يهودي بالدم، اليهودية دين أم عرق؟ هذا سؤال مطروح. فاليهودية دين، والمسيح ولد مسيحياً. أما أن نقول يهودي، فاليهودية ليست عرق ودم ونسب، لكنها دين وفكر والمسيح ولد مسيحياً ديناً وفكراً ولم يكن يهودياً من الناحية الفكرية. واليهودية ليست نسب ودم.


مثلاً اليهود في السودان وفي أثيوبيا هم سمر البشرة، يهود الخزر والأشكيناز بيض، لعبتهم الآن أنهم يريدون أن يجعلوا من الدين قومية، هذا كلام غير مقبول أرجو أن أكون وفيت السؤال حقه.


- بناء على ذلك نجد في الدراسات أو بالأدبيات التاريخية التي تحكي عن اليهود أو عن بني إسرائيل، نجد أن أول ذكر لإسرائيل ورد في نقش الفرعون / مرنبتاح /، وفي لقاءاتنا تحدثتم عن وجود مغالطة حول ورود ذكر لإسرائيل في هذا النقش، هل يمكن أن توضحوا لنا ذلك؟
- نعم، قالوا بأن ذكر أورشليم ورد في نصوص [اللعن المصرية]في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، كما قالوا أن ذكر إسرائيل ورد في نقش [مرن بتاح ]كما يلفظوه باللفظ المصري، على كل لا نعرف اللفظ السليم لأن الأحرف الصوتية لم تكتب.


عدنا إلى نقش عين سلوان، عدنا إلى سبعة نقوش تقريباً، وكلها نقضناها.
سأقف عند نقش [مرنبتاح ]، حيث ورد فيه أن فرعوناً يسمى [مر، / النون للإضافة /، بتاح أو بطاح ]، لك الحق أن تقرأها كما تريد، لدينا نقش يعود لزمن هذا الفرعون وهو محفوظ بالمتحف المصري في القاهرة، طوله بحدود المترين وعرضه بحدود المتر وعشرين، في أسفله، موجود كلمة [إسرائيل ]، هكذا قالوا!!..وحين تزور المتحف المصري الآن، تجد عند الكلمة المفترض أنها [إسرائيل]، ومن كثرة اللمس أصبحت براقة خلاف ألوان النقش تبركاً !! وكعادتي أردت أن أرجع إلى قراءة هذا النقش وفعلت، وأعدت قراءته وتكونت لدي ملاحظات أولها أنه في بداية النقش جاء: [لقد سيطر (مرن بتاح )على الأقواس التسعة التالية ]، كلمة تسعة أقواس، و(التاسوع )هو تعبير مصري قديم يستدل به إما على مناطق أو شعب، إذا كان للشعب فله مخصصه في الآخر حيث يضع له شكل يوضح أنه اسم شعب، وإذا كانت منطقة جغرافية يضع شكل جغرافي في آخره، عددت هذه الأسماء التسعة فوجدت: كنعان، تحنو، الآن لم أعد أذكر الباقي، يقولون [إسرائيل ]وجدتها [يازيريار]، عددتهم فوجدتهم ثمانية وليس تسعة، إذا فصلنا هذه الكلمة إلى كلمتين [يازير ]هي [يازور]في فلسطين، و[يار = يارين أو يارون ]في جنوب لبنان. وبعض المستشرقين يقولون سهل [إسرائيل ]، ليس شعباً، أي في النقش / سهل يازيريارون / إن صح التعبير.


ولكن إذا كنت غريباً فكن أديباً، فأخذت هذه الملاحظة وذهبت إلى مصر، إلى علماءها، " د. عبد الحليم نور الدين "، " د. علي رضوان "، وبعض المختصين في الكتابات المصرية وليس اللغات، قلت لهم وجدت في النقش تسعة مناطق وعندما عددتهم وجدتهم ثمانية، قال أحدهم: لا يمكن هذا، هذه الموضة تسمى موضة التاسوع، أي أن كلمة تاسوع موضة عندهم، فعندما يأتي إلى تاسوع يجب أن يذكر تسعة أو ما يزيد عن التسعة ولا يجوز أن يكون ناقصاً عن التسعة.
الآن، وجدنا اسم [يازور ]وارد في نقوش مصرية أخرى، مرة وجدناها [يازور ]، ومرة وجدناها [هازور ]، والمنطقتين قريبتين من بعضهما البعض


يازور )و(يارين
من الناحية الجغرافية، [يازور ]بفلسطين الآن في جنوب شرق عكا، شمال حيفا، هذه المسألة لا تتجاوز حدود الـ 100كم في أقصى حد، حتى الآن الموضوع لغوي بحت.


صدر كتاب عن دار قدمس باسم القدس، لمارغريت شتاينر إحدى مساعدي الباحثين وهي باحثة أثرية عملت في القدس تقول ما يلي: لا وجود للقدس قبل القرن السابع قبل الميلاد.
- إذاً كيف قالوا أن أورشليم مذكورة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد؟
- عدنا لكلمة أورشليم وجدناها [أ شام ]مثل [أ جاريت ]أي أن هذه الـ / أ / سابقة، وشام، أي لا توجد شليم، لا توجد لام ولا راء، أي [أ شام]، أي لا وجود لها قبل القرن السابع قبل الميلاد، فهذا دليل آخر.
شيء آخر يجب أن أؤكد عليه وهو أن أقدم اسم للقدس أو أورشليم هو القدس وليس أورشليم، دليلنا على ذلك كتابات هيرودوت يقول: [وفي فلسطين مدينة كبيرة تسمى قديتس ]، أنا ذكرتها بكتابي، ووضعت صورة عنها باليونانية وبالإنكليزية وبالعربية، ثم هل أورشليم هي القدس، بقي الشعب اليهودي غريباً عن المنطقة وعن القدس من عام /135/ ميلادي إلى فتح القدس سنة /1184/ ميلادي، من قبل صلاح الدين كحد أدنى، هذا شيء ثابت، كان ممنوع على اليهود أن يدخلوا المنطقة، ولا سيما العهدة العمرية، حيث ورد فيها ألا يدخلها اليهود مع بطريرك القدس عندما دخل عمر بن الخطاب.


إذاً الغياب عن الساحة الجغرافية لا بد أن يثير التساؤل؟ نأتي إلى " يوسيفيوس " الكاتب اليهودي بالقرن الأول الميلادي، عد إلى كتابه فيه شيء مثير، يعيد مرتين بما معناه: [وكنت أرى أورشليم من القدس ]!!. إذاً فأورشليم غير القدس، وكثير من الكتّاب يقولون ذلك، الآن ليبحثوا تحت المسجد الأقصى، كما يشاؤوا، فهم إلى الآن لم يجدوا إلا آثاراً إسلامية وآثاراً رومانية، حتى جبل الهيكل، من الذي عيّن جبل الهيكل في مكان المسجد الأقصى؟، لقد دخلوا فينا كالسوس فالذي عيّن هذا المكان هو " إسحق نيوتن "، صاحب نظرية الجاذبية عام /1725/ ميلادي، وليس هناك دليل سابق لهذا التاريخ.


كثير من إخواني المسيحيين حزينين، وخاصة أتباع المدرسة الأرثوذكسية لأن هذه المدرسة كانت تطبع الإنجيل لوحده، الآن وللأسف يطبع الإنجيل والتوراة معاً، وللأسف في آخر كل كتاب مقدس نجد تحديد أن مكان الهيكل هو مكان المسجد الأقصى زوراًً وبهتاناً معتمدين على إسحق نيوتن.
وأثرياً أود أن أشير إلى ناحية أثرية هامة جداً، وهي لجهة البناء في المسجد الأقصى، حيث نجد أن اتجاه الحائط باتجاه القبلة، فهذا دليل أنه إسلامي، أي أنه بني بعد الإٍسلام هذا كلام علمي بعيد عن أي هوى. الحائط المسمى القبلي أو الجنوبي وهو باتجاه القبلة.
- ثمة دراسات عديدة تشير إلى وجود حرف الضاد في الكتابات المشرقية القديمة.. وهناك دراسة للدكتور حميدو حمادة حول ورود حرف الضاد في كتابات إبلا.. من خلال أبحاثكم هل توصلتم إلى شيء جديد يختص بهذا الأمر؟
- كما قلنا أن الكتابة منذ فجر التاريخ وحتى الآن هي عاجزة عن تلبية متطلبات الصوت، الأساس في اللفظ، ثم السماع في الأذن، ومن ثم الإعادة في اللسان، وأما الكتابة فهي واهية تأتي للتذكرة فقط، هذا أولاً.


ثانياً: أود أن أقول أن العربية الفصحى أو خط الجزم الذي كتب به القرآن الكريم، هل كان يُفرق ما بين الصاد والضاد كتابة؟ كلا، لكن نعرف أن هذا صاد وهذا ضاد حسب اللفظ، وحرف الضاد أخذته كافة العربيات سابقاً لم يُمثل في حرف لوحده، فهل كان موجود أم غير موجود؟
أيضاً، أشير إلى ناحية أخرى وهي أنه يجب أن نفرق ما بين الصوت وما بين الكتابة، فهناك حرف لا تسميه حرفاً من ناحية المصطلح، فمثلاً، هل صوت الضاد موجود في الإنكليزية؟ نقول: هو كحرف غير موجود، لكن الصوت موجود. أيضاً الطاء موجود كلفظ وليس موجود كحرف مثلاً، [What تلفظ واط ]، إذاً الصوت شيء والكتابة شيء آخر، وكلمة [ Doubleنلفظها ضبل ]، إذن الصوت موجود ولم يكن ممثلاً بحرف.


الآن دعنا نأتي إلى صوت الضاد في كتاباتنا العربية القديمة، من سياق الكلام كلمة [حامض ]، لا يقولون [حامد ]لأن لها معنى آخر لكن من سياق الجملة أخذوها بمعنى حامض، أيضاً [صرّة ]و[ضرّة ]: الضرة هي الزوجة الثانية وليست صرّة.


أتى عالم منذ عشر سنوات إلى المركز الثقافي البريطاني لكن العالم كان أمريكياً، وأجرى محاضرة مع أشخاص آخرين، وقف هو مباشرة وقال بأن لغة أجاريت هي أقرب اللهجات للعربية دون سواها، سألته: هل صوت الضاد موجود لديهم، قال: نعم.


- معنى ذلك أن قراءة الكتابات المسمارية في أجاريت أو إبلا وغيرهما، إذا قرأها المستشرقون أو الباحثون الغربيون في كتاباتنا ولغاتنا القديمة، فهناك حاجزين، الأول في اللفظ والثاني في محاولة ترجمة النص ذاته، مما سيخلق حاجة ماسة كي نقرأها نحن تجنباً للبلبلة والفوضى المعرفية؟
- ذكرتني بالدكتور محمد محفل عندما كان في باريس كان أستاذه البروفسور " دوبون سومير "، وهو أكبر عالم بالآراميات، فحين كان يصل لقراءة نص ما، يقول لهم اسمعوا اللفظ من محمد محفل، هذا هو اللفظ السليم، أي أجنبي إن طلبت منه قراءة [حامض]سيقول [حامد ]أو [هامد ]حيث سيتغير المعنى كلياً.


سأعطيك مثلاً عن قراءة نقش قديم بلساننا.. هناك نقش سردينيا الذي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد أي حوالي تأسيس روما /753/ قبل الميلاد، على ما يبدو أصاب / نورا / عاصمة سردينيا غزو أو جائحة ما، فترسل مدينة صور رسالة إلى سردينيا، حيث يقول النقش بالكنعانية: [بيت راس (هذه الكلمة تعني العاصمة، وقد انتقلت إلى اليونانية وأصبحت كابيتولاس بنفس المعنى أي العاصمة )سنجير رأسها بسردينيا، سلامها سلام صور، صور أم مملكة نورا، ننسب (من النسب)، ونجير (من الإجارة )، لفمي (لفمي تعبير بما معناه كلام رجال أو كلام موثوق فيه )]. هذه لغة واضحة. كيف انتشرت الفصحى في شمال أفريقيا والعراق ولم تنتشر في إيران، لأنها لم تكن غريبة عن أخواتها، مثلاً زيد بن ثابت، تعلم العبرية في 15 يوماً، والسريانية في 17 يوماً، ورد هذا في كتاب د. بديع بشور، فهو تعلم شكل الكتابة ليس إلا.
- دكتور قبيسي، اسمح لي بهذا السؤال القاسي إلى حدّ ما.. بعض الباحثين ينظر إلى منهجكم في دراسة الكتابات واللغات القديمة، على أنه مغامرة ربما لا تستند إلى ركائز علمية متينة، ويضربون مثلاً أنك فسّرت كلمة الـ (هكسوس )بـ [هيك سوس ]، و[هيك ]هي كلمة عامية !. كيف تنظر إلى ناقديك، وهل نحن أمام غيرة علمية، أم أننا استمرأنا ما تعلمناه على يد الاستشراق على قاعدة / وكفى المؤمنين شر القتال /، أم فعلاً أنكم تخوضون مغامرة علمية إن لم تلصق فهي ستعلّم على حائط المعرفة؟.
- أولاً: لا أعلم بأن أحداً يخالفني، وإن كان هناك من يخالفني فلم أسمع ذلك جهراً من أحد.
ثانياً: إن كنا نتكلم عن المنهجية، فلا أظن أكثر منهجية من أنني عندما أستلم النقش وبالأمانة العملية التي أتبعها دائماً، أضع (سواء بالكتابات الكنعانية أو بالآرامية )، أضع الحرف الآرامي أولاً، وما يناسبه كشكل حرف من حروف الجزم ثانياً، فهذه أمانة منهجية وعلمية سلمية، ولا أؤلف من بين يدي أو من خلف ظهري.


لكن للأسف لم يواجهني أي إنسان، ربما هذا الموضوع جديد، الموضوع كما قلت لك بدأ منذ عام /1959/ م، وهذا الموضوع يشغلني منذ أن تعلمت العبرية في الكلية الحربية، وأنا أتبع المادة، لنأخذ كمثال مادةعلمية منهجية أخرى، اتبعنا منهجية تسمى المنهج التجريبي. في المنهج التجريبي أجرّب أكثر من مرة، فإذا ثبتت على قاعدة واحدة أعتبرها منهجاً، ودعني آخذ مثلاً في الطب والصيدلة، فعندما تكون حرارتي 40 درجة، وآخذ ورق الكينا، وتنخفض حرارتي، ثم يتكرر الأمر معي، فسأستدل على أن استخدام الكينا أدى إلى انخفاض حرارتي، حينها أتأكد أن ورق الكينا هو خافض حرارة.


نأتي على تجربتي في أسماء المدن والقرى القديمة: حرستا، حمص، حلب، دمشق، بيروت..إلخ. فمن خلال الملاحظة وهذا منهج علمي ثاتب، أجد الأسماء لها ثلاث حالات لا رابع لها، 80% يجب أن تأخذ معنى طبيعياً، 10% معنى عسكرياً، و10% معنى دينياً.
لدينا مثلاً منطقة [عاريّا ]في لبنان، ماذا تجد في [عاريّا ]، تجد منطقة تعرية كاملة لا يوجد فيها حتى الجدران الاستنادية فيها مهدمة جراء عملية التعرية، فالاسم يطابق هذه المنطقة إذاً الاسم طبيعي.


أيضاً لدينا [جسرين ]وهي جمع آرامي، تعني [جسور ]نجد فيها: جسر نهر بردى، جسر نهر جعيطا، جسر نهر الملك، جسر نهر الداعياني، جسر نهر الزابون، فهذه حقيقة واقعة.
- وفي تفسيرك لكلمة الهكسوس ..؟
- كلمة هكسوس ليست كلمة مصرية، لا أجدها في الكتابات الهيروغليفية، بل هي كلمة يونانية مؤلفة من مقطعين [هيك ]و[سوس ].
- إذن من أين وردت كلمة الهكسوس؟
- اخترعها " مانيتون " الكاتب المصري ذو الثفافة اليونانية، والذي كتب باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، لكن في الكتابات المصرية لم نجد كلمة هكسوس، ومع ذلك هم سموهم الرعاة، من أين أتوا بالرعاة، من كلمة سوس فهذه الكلمة اليونانية. فالفكر الاستشراقي فسرها من العربيات.
- إلى أين تريد أن تصل في منهجك؟
- أريد أن أصل إلى الحقيقة العلمية، وهي أن هذه الأرض عربية من فجر التاريخ، إذا شئت أن تعطيها أي مصطلح فأنا لست ضد ذلك، لكنني ضد أن تعطيها مصطلح السامية لأن الموضوع الآن أخذ توجه آخر.


- النقش الذي يذكر العرب في الألف الثالث قبل الميلاد هل هو نقش موثق ومعترف فيه؟
- الآن هذه هي مشكلتنا كما يجري في سرقة متحف بغداد كثيرمن النقوش ألغيت ويقول البعض غير موجودة، من له مصلحة في إيجاد نقش [نازان ابن شاروكين (صرغون )والد نارم سين]، أن يقول [عرب ملوكا وعرب مكان ]، هل هم القوميون السوريون؟، هل قبل 100 عام كانوا يعرفون شيئاً عن هذه الكتابات؟، وهل العرب يعرفون؟ هذا من أقوال ودراسات الغرب، هناك تقاطع بين هذه الكتابات نوقشت من قبل علماء آخرين لم ينكروها، الآن كله سرق، مصيبتنا في بغداد أن المشكلة إيديولوجية في العراق وليست اقتصادية، هم سرقوا نقوش من أماكنها وهم يعرفون ما تحويه، ونحن لا نعلم، لذلك نحن نسعى الآن لأي شخص يجد نقش لكي نصوره ونصنّفه فوراً. مصر لا خوف عليها، أما نحن في العراق وسوريا فلا يزال الأمر غير سوي من ناحية التوثيق. على كلٍّ: من أتى على ذكر هذا النقش [عرب ملوكا وعرب مكان ]هو اليهودي " إسرائيل ولفنسون "، وقد حقق ودقق وراجع كتابه العالم " أنو ليتمان ". فقد نقد الكثير في كتاب " ولفنسون "، (اللغات السامية )ولم يتطرق إلى هذا النقش بالنقد. فهذا دليل على صحة نقش [عرب ملوكا وعرب مكان ].


أعود للمنهج ثانية لأهمية السؤال:


الواقع لدينا أربعة مناهج علمية متكاملة يتمم بعضها بعضاً، المنهج الأول هو فلسفة التاريخ والمنهج الثاني هو المنهج التجريبي والثالث هو اللغة والجغرافيا والرابع هو اتساق النص في قراءة النقوش والكتابات القديمة.


ونعود للتذكير أن فلسفة التاريخ مادة صعبة لكن إذا ما التزم الإنسان بها يجد نفسه بأنه في مجال علمي سليم لا يستطيع أن يحيد أبداً. وفلسفة التاريخ تتألف من ثلاثة أركان: علم المنطق – الخيال العلمي – المادة التاريخية.


لنقف جيداً أمام المنطق، فنبدأ بالأسلوب الديكارتي 1+1 = 2، هذا أولاً، ثانياً: التجريد: أن أجرّد نفسي من العاطفة تماماً وأضرب على ذلك مثلاً عام /1956/ ذهبت إلى المرحوم الأستاذ أكرم خلقي والذي كان ممثلاً في الإذاعة السورية مع أبو رشدي وكان رساماً في منطقة عرنوس وكان عمري ستة عشر عاماً وطلبت منه أن أتعلم الرسم فرحّب بي رحمه الله. قطعاً، رفض أن يأخذ أي قرش أتعاباً لذلك. علمني طريقتين في تكبير الصور:


- الطريقة الأولى طريقة المربعات: بأن نقسّم الصور إلى مربعات (2/1 سم مثلاً )ثم نكبّر هذه المربعات إلى المجال الذي نريده (ا سم أو 2 سم مثلاً).
- الطريقة الثانية : أن نأخذ خطوطاً مستقيمة متفاوتة الأبعاد (فوق الحاجب – تحت الحاجب )عرضانياً، (أول الحاجب- آخر الحاجب )طولانياً.


اشتريت مسطرة نصف ميليمترية وبدأت أرسم، وعندما وصلت على العين لم أنجح. تركني أول يوم وثاني يوم وثالث يوم وسألني: لم تنجح في رسم العين أليس كذلك. قلت نعم. قال لي رحمه الله: اقلب الصورة. قلبت الصورة، قال: الآن نبدأ الرسم.


بدأت الرسم والصورة مقلوبة أمامي، وعندما انتهيت من الصورة فإذا العين سليمة ومضبوطة منه في المئة. فسألته بعد ذلك: لماذا لم أستطع رسمها في وضعها العادي؟ قال لي: كانت عاطفتك في الصورة، فكنت ترسم (متأثراً بعاطفتك )من تحب كعين أمك أو أي إنسان آخر.
إذاً، التجريد هام جداً، أن أزيل العاطفة وهذا يتطابق مع مبدأ الإنكار والإثبات. بعد أن نصل إلى الحقيقة يمكن أن نوظف ما وصلنا إليه ونضع أنفسنا مكان من سينتقدنا. وموضوع الإنكار والإثبات كما أقول [لا إله إلا الله ]فـ [لا إله ]هو إنكار [إلا الله]هو إثبات.


بعد أن أجد هذا التجريد المنطقي السليم أنتقل إلى الخيال العلمي. الخيال العلمي يجب أن يعتمد على أسين هامين:


1- معرفة السلم التاريخي منذ الحضارة غير المكتوبة والواضحة إلى العصر التاريخي (3200 ق.م في منطقتنا و1200 ق.م في أوروبا).


2- أن أعلم الساحة الجغرافية بدقة، كمعرفة مكان المدن القديمة، طروادة. أين تقع قرطاجة،..إلخ.


هذا الخيال العلمي ضربت عليه مثلاً سابقاً موضوع سباق الماراتون. الماراتون في شمال أثينا، وفيدي بيدس ذهب من أثينا جنوب غرب إسبارطة. شرحت ذلك فيما سبق. هذا خيال علمي أوظفه.


إذاً هذه فلسفة التاريخ تعتمد على المنطق ثم الخيال العلمي ثم المادة التاريخية التي بين يدي. هذه المادة أيضاً تخضع لعدة تجارب، أولاً معرفة الحرف وأشكاله، ومكان وجود النقش إذا كنا نتكلم عن الكتابات. إذاً هذا هو المنهج الأول: فلسفة التاريخ، وأما المنهج العلمي الثاني فهو المنهج التجريبي الذي أتى عليه ابن حزم الأندلسي وأتى عليه ابن البيطار العشّاب المالقي في الأندلس.


يقول ابن حزم في المنهج التجريبي:


[والتجارب لا تكون إلا بتكرار الحال مراراً كثيرة جداً على صفة واحدة لا تستحيل أبداً، تكراراً موثوقاً بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به].
ويقول ابن البيطار العشّاب في المنهج التجريبي أيضاً (لقد أخذ جاليلو المنهج التجريبي وادّعاه لنفسه ولم يشر لصاحبيه ):
[فما صحّ عندي في المشاهدة والنظر، وثبت لي بالخبرة لا الخبر، اتخدته كنزاً سرياً، وأعددت نفسي عن الاستعانة بغير فيه سوى الله غنياً (أي بهذه الحالة لن يستعين بأحد سوى الله )، وما كان مخالفاً في القوى والبيئيّة والمشاهدة الحسية، في المنفعة والماهية، للصواب والتحقيق، وأن نقاله أو قائله عدّل فيه عن سواء الطريق، نبذته ظهريّاً، وهجرته ملياً، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئاً فرياً ].


وقد ذكرنا مثلاً على هذا المنهج (ورق الكينا الخافض للحرارة).
إذاً هذا هو المنهج التجريبي. ومع ذلك فعند تكرار الحال في منهجنا نقول: عندما أجد مظهر واحد فأقول: إني أظنّ.
وعندما أجد دليل آخر على هذا المظهر الأول فأقول: إني أرجّح.
وعندما أجد ثلاثة أدلة فأقول: إن أقرّر وبكل جرأة.


وهذا ما يرجّحه المنهج الرياضي أو العلمي وهو مبدأ الاحتمالات، وكما يقال: المثال يختزل المقال: لدي لون واحد في التلفزيون يعطيني لونين (أبيض وأسود )، ولونين يعطوني (16 لون )، وثلاثة ألوان (أزرق- أحمر – أخضر )يعطوني (256)لون.
إذاً، موضوع مبدأ الاحتمالات اتضح، ومع ذلك، وإمعاناً في التيقن لا نأت على قرار من هذا القبيل إلا إذا تكرر الحال أكثر من ثلاث مرات. وهذا مبدأ أخذناه في تفسير أسماء المدن والقرى كأسماء: دمشق وجسرين وكفرون ودمر، بعيداً عن المدرسة التوراتية والإغريقية في تفسير الأسماء. كأن اسميّ دمشق على اسم حفيد نوح وهو دمشق بن سام بن نوح.. إلخ. هذه التفسيرات التوراتية خارجة عن المنطق.


إذاً، هذا هو المنهج الثاني (المنهج التجريبي )والذي حددنا فيه أن أسماء المدن والقرى والأماكن في الوطن العربي تحمل ثلاث مداليل لا رابع لها فنجد أن 80% من الأسماء تقريباً تحمل معنى طبيعياً (مناخي – طبوغرافي )كاسم [جسرين ]، و 10% من الأسماء تقريباً تحمل معنى دينياً كاسم [بابل ]، و 10% من الأمساء تقريباً تحمل معنى عسكرياً كاسم [دمّر ].


أما المنهج الثالث فهو (وحدة اللغة والجغرافيا )، حيث اللغة هي كشاف ومسبار الشعوب.
أنا الآن أسأل سؤال بسيط: كيف حدّد لنا المستشرقون الشعوب الآرية، والشعوب الحامية، والشعوب السامية، حسب مبدئهم؟ قطعاً من وراء اللغة، وقد اعتبروا السنسكريتية هي هندو أوروبية، فإذا أخذنا موضوع الأنتربولوجيا (الأناسة )فشكل الإنسان الأوروبي علمياً لا يتوازن مع الإنتربولوجيا في الهند. إذاً، اللغة هي مسبار وكشاف الشعوب.


إلى جانب ذلك أخذنا الجغرافيا. أنا لا أقول إن وجدت كلمة في اليابان لها معنى في العربيّات أن العربي هو ياباني أو العكس بالعكس. بل يجب علينا أخذ الوحدة الجغرافية مع وحدة اللغة. نعم هذا هو المنهج الثالث: وحدة اللغة والجغرافيا.


إذاً، هذه المناهج الثلاثة: فلسفة التاريخ - المنهج التجريبي – وحدة اللغة والجغرافيا، محصلة حاصل. نعم لقد اعتمدنا على النقل والعقل، إنما البعض اعتمد – وللأسف أقول – اعتمد على النقل دون إشغال العقل، وأحياناً نجده نقلاً مشوهاً.


قالوا لنا هيك سوس = حقاً خاسوت، فقبلناها دون نقاش لأن كل (فرنجي برنجي )، وما قاله المستشرقون فهو الصحيح ولو كان بدون دليل. وهناك عدة أمثلة لدينا، والمستشرق " وايت كومب" هو باحث اجتماعي يعمل في الآثار في [قن نسرين ]فجعلوا [قن نسرين ]هي خلاف [خالكيس ]، وأن [قن نسرين ]الأثرية هي [خالكيس ]وليست [قن نسرين ]، علماً بأن اسم [خالكيس ]هو تبديل لأسماء المدن والقرى لأغرقة المنطقة العربية عندما أتوا في مرحلة من المراحل (وهذا موجود في كتابنا في تغيير أسماء المدن والقرى لقلب الهوية وفرض الأغرقة عام /167/ ق.م على يد " أنطيوخس الرابع " حيث فرض اللغة الإغريقية والآلهة الإغريقية وعمل بتبديل أسماء المدن والقرى لتأخذ الهوية الإغريقية، لكن العرب العدنانيون عندما أعادوا هذه البلاد إلى أبناء عمومتهم. فابن مدينة حلب أرجع الاسم [حلب بدلاً من بيروا ]، وابن مدينة حماة أرجع الاسم [حماة بدلاً من أبيفانيا]، وابن دمشق أرجع الاسم [دمشق بدلاً من داماسكوس ]، وابن بيروت أرجع الاسم [بيروت بدلاً من لاودكيا]..إلخ. وبقيت بعض الأسماء كاسم مدينة [اللاذقية (من لاودكيا أيضاً )]حيث اسمها القديم [راميتا ]، بمعنى آخر، أقول: لماذا نستهين بتراثنا. أودّ فقط التذكير بأن كافة المستشرقين أخذوا قواميسنا وبدأوا بقراءة هذه الكلمات وتفسيرها التي وجدت في النقوش واعتمدوا على ذلك ولم يشيروا إليها. أود فقط أن أشير إلى شخص اسمه [إدوارد لين ]إنكليزي أتى إلى القاهرة عام /1830/م في بداية الدراسات اللغوية للنقوش (أكانت أكادية بفرعيها الآشوري والبابلي أو آرامية، أو كنعنانية، أو المصريات )، أتى [إدوارد لين ]إلى القاهرة واعتنق الإٍسلام ودخل الأزهر، ولبس الجبّة والعمامة، وقام خلال دراسته وتعلمه العربية على ترجمة قاموس لسان العرب لابن منظور إلى الإنكليزية عن طريق (Adaptation )[ليس ترجمة حرفية مئة في المئة ]فأخذوا منها ولم يشيروا إليها.


- لماذا نحن مستهدفين في هذا التراث؟
- لدينا كم هائل. نقول: لدينا قواميسنا التي بين أيدينا، لدينا لهجاتنا العامية، وهذا لا يمنعنا أيضاً، وحرصاً على إعطاء كل ذي حق حقه أن نرجع حتى إلى القواميس اليونانية واللاتينية في بعض الأحيان، فمنهجيتنا عندما نجد كلمة: إن فهمتها فوراً لا داعي لأن نرجع إلى القواميس حيث همّنا الأول أن تتّسق بالجملة وأن تعطي جملة مفيدة في المعنى. وإن لم نجدها رجعنا إلى القاموس العبري والقاموس السرياني والقاموس اليوناني والقاموس المصري القديم والقواميس العدنانية كابن منظور، إلى آخره من هذه القواميس التي هي بين أيدينا، ولنبيّن بأن هناك لغة خاصة وهناك لغة عامة. فأنا لدي لغة خاصة وأنت لديك لغة خاصة، أما اللغة العامة فهي تلك اللغة التي تعرفها أنت والثاني والثالث وكافة سكان الوطن العربي بالإضافة إلى ما هو مطمور في الكتب (وبالمناسبة فإن كلمة " طومار " تعني كتاب )، وما دمت فتحت الجروح فلا بد أن أشير إلى موضوع هام آخر. الواقع فكرة اللهجات العربيّات وخلافه ليست بدعة اتخذها بهجت قبيسي، فقد ذهب في هذا المجال المرحوم الدكتور " معروف الدواليبي " أستاذ القانون الروماني في جامعة دمشق وكان رئيس وزراء سابق وله كتاب [دراسات في تاريخ العرب وحضارتهم الإنسانية ]. كما ذهب إلى ذلك " أنستانس الكرملي العراقي " وقال إنها من العربيات، وكذلك " عبد الحق فاضل " من المغرب.


أعود ثانية وقبل أن أنهي موضوع كلمة [هيك سوس ]التي سألتني عنها سابقاً، أود أن أرجع إليها. للأسف أقول: لو أن المنتقد (كما تصفه )ذهب إلى أهم من تفسير كلمة [هيك سوس ]، لو رجع إلى مقالتنا عن ماهية الـ [هيك سوس ]، من هم الـ [هيك سوس ]وكشف الغطاء عنهم.


الـ [هيك سوس ]عرب عموريون، لكن إذا ذهبت إلى أي كتابة عن الـ [هيك سوس ]سنجد التالي عنهم: 1- بدو، 2- غزاة، 3- هندو أوربيين حكموا بين (1730-1575 ق.م ). ولكن وبعد عدة أسطر، ولدى أكثر المؤرخين المستشرقين، وبعض المؤرخين العرب، نجد بأن الـ [هيك سوس ]أدخلوا إلى مصر: 1- الحصان، 2- العربة، 3- صناعة الحديد، 4- طوروا صناعة البرونز، 5- طوروا الزراعة.


لقد بيّنا في محاضراتنا منذ أكثر من خمسة عشر عاماً أن هذه المقولات عن الـ [هيك سوس ]تخلوا من الصحة العلمية والتاريخية، وما هي إلا شتيمة توراتية، وقد نقضنا كل ذلك:


1- كيف يكونوا بدواً وأدخلوا العربة والحصان والحديد وطوروا صناعة البرونز والزراعة.


2- كيف يكونوا غزاة والنقوش الكتابية المصرية تقول: [لقد دخلوا ولم يضربوا ضربة واحدة ].


3- كيف يكونوا هندو أوربيين ولا سيما أنه قبل دخولهم مصر سنة /1730/ ق.م كان هناك سداً حضارياً عسكرياً عربياً عمورياً في الشمال:


‌أ. حيث دولة حمورابي العربي العموري بدأت سنة /1793/ ق.م من الكويت وحتى حلب.


‌ب. ودولة يمحاض العربية العمورية بدأت من سنة /1770/ ق.م وامتدت من حلب وحتى أجاريت على ساحل البحر.


بمعنى آخر كيف يكون الـ [هيك سوس ]هندو أوربيين وفي الشمال سد عربي عموري واضح سبقهم بنصف قرن على الأقل.
إذاً، قبل الاهتمام بتفسير كلمة [هيك سوس ](ما لها وما عليها )يجب الانتباه إلى ما هو أهم. أي نفي هذه الأقوال المغرضة التي أتى عليها المستشرقين لأغراض توراتية.


بعد هذا التقديم، سأرجع إلى كلمة [هيك سوس ]:


1- كلمة [هيك سوس ]ليست مصرية قديمة بل هي كلمة يونانية أتى عليها " مانتون " ولم نجد هذه الكلمة في النقوش المصرية، بل وجدنا كلمة [عمّو ]لتعني [عموري ]. وعندما يجد المستشرقين كلمة [عمّو ]في الفترة الزمنية من القرن الثامن عشر قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر قبل الميلاد يقولون [هيك سوس ]. ولا يشيرون إلى أساس الكلمة وهي [عمّو ]أي [عمّوري ].


2- ذهب " مانتون " الذي أورد كلمة [هيك سوس ](HEK- SOS)، نعم هكذا وردت بمقطعين، ففسرها بـ [الملوك الرعاة ].


3- ثم أتانا الفرنسي " دريوتون " ليقلب الكلمة حسب هواه ويقول: [هيك = حقا ]و[سوس = خاسوت ]أي أمراء الصحراء والجبال الصخرية.


هنا أتى دورنا فقلنا: لقد خسئ " دريوتون " في تفسيره حيث قلب كلمة [سوس ٍ]إلى [خاسوت ]، وكلمة [هيك ]إلى [حقا ]دون وجه حق لسببين:
أ‌- الكلمة يونانية يفسرها على الطريقة السامية حسب مصطلحه فجعل [حقا = حكّا = حاخام ]أي حكيم أو حاكم (بفكره التوراتي )، وبالمناسبة (في منهجنا نكره ونبعد عن عمليات الإبدال في الأحرف).


ب‌- ثم بدّل كلمة [سوس ]بكلمة أخرى هي [خاسوت ]وفسرها بالجبال الشرقية أو الصحراء.


قلنا: [وتماشياً مع الفكر الخاطئ بتفسير الكلمات اليونانية إلى العربيّات (السامية )، ورغم هذا الخطأ، وتماشياً مع فكرهم الخاطئ ]، قلنا:


1- كلمة [هيك]وردت في النقوش القديمة (التعرفة الجمركية التدمرية )لتعني [هكذا ]كما في عاميتنا.


2- كلمة [سوس ]تعني في الكنعانية والآرامية [الحصان ]، ومنها كلمة [كفر سوسا ]أي قرية الحصان، وهذا لا يختلف عليه مختصان, ومنها كلمة السايس .


أما كلمة [خاسوت ]فـ [الواو والتاء (وت)]هي للإطلاق مثل: [لاهوت – ناسوت ]، وهي تعني المناطق الخاسئة التي لا تحوي أنهاراً مثل نهر النيل مثلاً، فهي أراضي بعل تعتمد على الأمطار، فهي خاسئة لم تصبها الأمطار. والواقع أن تفسير " دريوتون " لكلمة [خاسوت ]هي صحيحة حيث الصحراء والجبال الشرقية تعتمد على الأمطار. لكننا كيف نقبل هذا التحريف من [سوس ]إلى [خاسوت ].
والسؤال هو: أين حرف الخاء في [سوس]وأين حرف [التاء]، لكننا جماعة نعتمد على النقل ولا نشغل العقل.


هذه قصة الـ [هيك سوس ]فقد اتبعنا منهجهم الخاطئ في تفسير الكلمة اليونانية إلى كلمة سامية، ونحن لسنا مع هذا التفسير لكن جرينا مجراهم لندحض كلماتهم.


أرجع لأقول: كل [فرنجي برنجي ].
هذه منهجيتنا. هذه كلمة [هيك سوس ]تاريخياً.


وكما قلنا: [لقد استُلب التاريخ القديم قبل أن تُستلب الأرض ]، و[لقد كتب التاريخ القديم حسب الفكر التوراتي والفكر الإغريقي ]. وإني يوماً بعد يوم، أزيد ثقة بأن هذه الأرض، لا أقول عربية، بل سمّوها ساميّة، سمّوها [إكس ]، كما تشاؤون، إنما هي لغة أمة واحدة بلهجاتها المتعددة وكتاباتها المختلفة، وهي بدهية يعترف بها القاصي والداني.


[إن اختلاف نمط الخط لا يدل على اختلاف اللغة ]


ومع ذلك، ومن له ملاحظات أدعوه بكل صراحة وبكل علمية إلى مناظرة علمية إما أن تكون في أحد المدرجات سواء في الجامعة أو في أحد المراكز الثقافية، فإني جاهز لذلك.
ولا بد لي أن أشير بأن مصطلح اللهجات العربيّات أو اللهجات العروبية، قد اتُخذ بهذا المصطلح توصية من مجمع اللغة العربية في ليبيا وضمّت هذه اللجنة كافة علماء الوطن العربي من المصريات (سواء ديموطيقي أو هيراطيقي أو هيروغليفي )، إلى الكنعاني إلى السبئي إلى الأكادي. وافقوا أن تكون لهجات وليست لغات، لأن كلمة لغة تحمل في طياتها معنى الانفصال، أما كلمة لهجة فلا تزال تضم معنى الوحدة بني اللهجات المختلفة. وكما نقول عندما نقول العربيات ليس نسبة إلى قريش أو العدنانية. نقول لدينا لغة عربية أم لا نعرفها توزعت إلى لهجات منها اللهجة العربية العدنانية، واللهجة العربية الآرامية، واللهجة العربية الكنعانية،.. إلخ.
لا أحد يعلم ما هي اللغة الأم، لكن أتى " فرديناند دوسوسير " وقال بأنه يستطيع معرفة أقدم لهجة، وليس اللغة الأم.
يقول " فرديناند دوسوسير ": [إن أقدم لهجة هي تلك اللهجة التي تحوي على قاسم مشترك أعظم من الكلمات والمفردات ].
هذا رأي " فرديناند دوسوسير "، ونحن نضيف إلى هذا الكلام كلام علمي جديد نقول: [والتي حافظت على جذر الكلمة الثنائي والثلاثي، وإن كان رباعياً أو خماسياً فهو كلمة مركبة قد نستطيع حلها وقد لا نستطيع ].


أعود إلى تعريفنا الجديد. لدينا لغة عربية أم لا نعرفها، أما العربية الفصحى فهي لهجة من هذه اللهجات ونستطيع معرفة أقدم لهجة حسب تعريف " فرديناند دوسوسير " والإضافة التي أضفناها بوجود الكمبيوتر حالياً، حيث نستطيع وبكل تجريد أن نعطي معلوماتنا للكمبيوتر ليعطينا النتيجة.


أود أن أشير إلى منهجية رابعة خاصة بقراءة النقوش، وهو اتساق المعنى، أي أن يعطيني جملة مفيدة. حيث عندما نجد كلمة يجب أن تعطينا مثلاً متكاملاً متسقاً بالمعنى، وضربت على ذلك كما تذكر يا دكتور بشار المثل الأجاريتي الذي قرأووه وقرأناه:


[إم يصدق بيرشيني تم ! أني ويّاعقشيني]


أي إن كان يصدق بأنه يرشيني، فهو صادق ولكن هناك شرط، أني وإياه [عشقيني]أي اجمعني به لإحراجه، حيث [عقش بمعنى جمع ].
كما أود أن أضيف أيضاً بأن " جاليلو " سرق المنهج التجريبي وادعاه لنفسه ولم يُشر إلى " ابن حزم الأندلسي " ولا " للعشاب البيطار ".
وأود أن أقول أيضاً بأن نسبة الاحتمالات التي قلنا بأن لون واحد يعطينا لونين، واللونين يعطينا /16/ لوناً، والثلاثة ألوان تعطينا / 256/ لون، بأن الموضوع ليس تربيعي وليس تكعيبي، إنما هي أكثر بكثير.


وأودّ أن أضيف أيضاً بأن أسماء المدن والقرى حسب دراستنا وجدنا بأنه بحدود 80% من الأسماء تحمل معنى طبيعي (إما مناخي أو طبوغرافي أو جيولوجي أو أسماء الحيوانات )، وبأن 10% من الأسماء تحمل معاني دينية، وبأن 10% من الأسماء تحمل معنى عسكري. أما الأسماء الشخصية (الأنانية )كاسم [الإسكندرية ]فهو اسم حديث عرف بعد دخول الإسكندر للمنطقة عام 333 ق.م.


آخر مثال أود أن أشير لما قاله " رينيه بواريل " مؤلف كتاب (الاختراع )وقد ترجمه المرحوم الدكتور " عادل العوا " بأن أشد أعداء المبدع والمخترع هم المدّعون بأنهم أصحاب الاختصاص [قطعاً أصحاب الاختصاص (الفايشين )بمعنى الذين لا يبحثون بعمق]، ويضرب على ذلك مثلاً " إبراهام بيل " مخترع الهاتف (التلفون )عندما أتى وقال بأنه سيحول الموجات الصوتية إلى تيار كهربائي استهزأ منه البعض، فما كان منه بعد ستة أشهر إلا أن عاد بجهاز الهاتف وحوّل الموجات الصوتية إلى تيار كهربائي، وهنا بُهت الذي لا يعلم.