نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



عبدالنور شرق

‎عبدالنور شرقي‎'s photo.
عبدالنور شرقي to ‎الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية
September 30 at 9:55pm ·
مقال حول المفكر كريبع النبهاني نشر سابقا في مجلة دراسات فلسفية العدد الأول ونعيد نشره هنا حتى يتعرف القارئ أكثر على هذا المفكر
وللاشرة فان الاستاذ اليزيد بوعروري أستاذ الفلسفة بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية جامعة سطيف بصدد اتمام رسالة دكتوراه حول المفكر كريبع البهاني


المفكر كريبع النبهاني


الأستاذ: اليزيد بوعروري
كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية
جامعة سطيف
------------------------------------
مدخل:


تعدّدت المسائل الفكرية التي عالجها كريبع النبهاني خلال حياته بكل روح متواضعة، وبعيدا عن الشوفينية، المثالية، التعصب والانغلاق، مشكلات تتوزع على مستويات: محلية تمسّ الجزائريين وعلاقتهم بالأوروبيين أثناء التواجد الفرنسي بالجزائر وبعده، مشاكل المسلمين بعد وفاة النبي (ص) إلى زمن الخلفاء الراشدين مرورا بالأمويين والعباسيين وصولا إلى الفترة المعاصرة (بداية الألفية الثالثة) واضعا الأصبع على مكامن الدّاء التي يراها سبب اندحار المسلمين من المشهد الحضاري العالمي.
وإذا كان الأمر كما وصفت فمن هو نبهاني كريبع وما هي المؤلفات التي حملت أفكاره؟ وكيف عالج المشكلات التي تعرض لها؟
1- حياته:
نبهاني كريبع من مواليد أولاد جلاّل ببسكرة عام 1917م، تلقى تعليمه الابتدائي هناك، وأكمل تعليمهالثانوي بالجزائر العاصمة، ثم في باريس بثانوية لويس الأكبر أين نال شهادة البكالوريا. وعاد إلى الجزائر بأمر من أبيه الذي أراده أن يكون تاجرا في التمور، ولكنه فضّل الدخول إلى الجامعة لينال الليسانس في الفلسفة. واشتغل لحوالي عشر سنوات في بيع التمور، ثم عاد إلى فرنسا ليشتغل في المطبعة الوطنية الفرنسية. نال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السربون يوم 09 جوان 1967م. عمل أستاذا للفلسفة بجامعة الجزائر1 إلى أن وافته المنية عام 2005م.*
2- مؤلفاته:
كتب نبهاني باللغة الفرنسية فقط، وكتبه لم تعرّب –في حدود علمي- إلى غاية كتابة هذا المقال.
- أشعار صبي، صدر عن دار فرنسا-إفريقيا سنة 1935م.
- شكاوى العربي، صدر عن كراريس النزعة الإنسانية الجديدة، بفرنسا سنة 1954م.
- الأفارقة يتساءلون، صدر في باريس عام 1955.بالاشتراك مع الجنرال جان شاربونو.
- برومثيوس هو ملك مستقبل الإنسانية، صدر عام 1957م. وبرومثيوس هو شخص في الميثولوجيا اليونانية سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، فهو محسن إليهم لما للنار من قيمة في تطور حضارة الإنسان. وللكتاب نفسه عنوان آخر هو: برومثيوس أو الخلاص بالعلم.
- التحديد الجمالي للإنسان، وهو النص الأصلي لرسالة الدكتوراه في الآداب التي نوقشت في السربون ونشرت بالتعاون بين فرنسا والجزائر، نشرت سنة 1967م. ونشر الكتاب بعنوان آخر هو: الإنسان الشامل- فلسفة الجمال، بالمؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1989م.
- الخير والشرّ من خلال القرآن، صدر سنة 1968م، وأعيد طبعه مرتين سنة 1970، وسنة 1984 عن المؤسسة الوطنية للكتاب.
- الإسلام والاشتراكية، صدر في الجزائر سنة 1972.
- فلاسفة الإسلام، صدر عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1980.
- دفاع عن النبي (ص)، صدر في الجزائر عام 1978، ثم في 1982.
- الغزالي، صدر عن ديوان المطبوعات الجامعية، سنة 1985.
- عمر الخيام-رسول إيران العالمي، صدر في فرنسا سنة 1988.
- الخوارج-ديمقراطي الإسلام، صدر كذلك في فرنسا سنة 1991.
- أهل السنة أو الإسلام المصادق عليه، صدر في فرنسا، د ت.
- فلاسفة الإنسانية، صدر في فرنسا سنة 1995.
- الإنسان في الإسلام-تاريخية وانفتاح، صدر في فرنسا سنة 2001.
وكتب في مجلات وجرائد في فرنسا والجزائر، ففي فرنسا كتب في: Climat, France-outre-mer, Cahier Charles de Foucault. وفي الجزائر كتب في: دراسات فلسفية وهي مجلة يصدرها معهد الفلسفة بالجزائر العاصمة، وكتب مقالات في Algèrie-actualité, Horizons...
وشارك في حصص إذاعية وتلفزيونية عن الثقافة والإسلام في الجزائر وفرنسا ،كما شارك في ملتقيات ومؤتمرات وطنية ودولية. ونال جوائز في فرنسا والجزائر نذكر منها:
- جائزة المثقفين الفرنسيين عن مقاله "فلاسفة بستان النخل الأربعة" سنة 1952.
- جائزة شعرية من الأكاديمية الفرنسية عن كتابه "شكاوى العربي أو أغاني العربي المأساوية" سنة 1954.
- الجائزة الأولى للتعليم العالي في الجزائر سنة 1991.
3- المحاور الكبرى لفكر نبهاني كريبع:
- فلسفة الجمال:
يقدّم نبهاني فلسفة جمالية شخصية في كتابه "الإنسان الشامل" وهي تحوم وتتعمق الإنسان الشامل ومفهومه. هذه الفلسفة تبلورت منذ أيام دراسته في الثانوية بالجزائر العاصمة، ثم في ثانوية لويس الأكبر في باريس، وبعدها اتضحت معالمها في مرحلة الدكتوراه التي أخرجت كتابه العميق والزاخر "الإنسان الشامل"، ومن أبرز محاور فلسفة الجمال لديه:
• مفهوم الإنسان الشامل: بعد أن ينتقد المفهوم العامي للإنسان والذي ينزع إلى البحث عن المنفعة والأمن، والمفهوم النتشوي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني نتشه) أي الإنسان الأعلى الذي يعلن موت الإله لينصّب نفسه إلها، يعتقد نبهاني أن الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يسعى إلى التخلّص من أخطائه وأنانيته، والزهد في المتع الجسدية، والذي لا يخضع لمجتمعه وقيمه الباطلة، يكشف عن إمكانياته وطموحاته. وهذا الإنسان كل منا يملكه في ذاته. وفي ذاته ذاتها تكمن إمكانية التطور.2
• الأعمال الأدبية: تنحصر الأحكام الجمالية في الأعمال الأدبية كالمسرحية، الشعر، القصة القصيرة، الرواية. وليس معنى هذا أنه يقصي العلم، الفلسفة والدين، ولكنه يعتقد بأن الأدب هو الوحيد الذي يعكس حقيقة الإنسان بموضوعية. والمتفق عليه أن الموضوعية درجة يأمل العلماء تحقيقها في البحوث العلمية، وإذا غابت هذه الصفة فالنتائج المتوصل إليها تحوم حولها الشبهات، ولكن نبهاني يؤمن بوجود موضوعية في الأعمال الأدبية متى كانت صادقة في تعبيرها عن الإنسان. ومن جهة أخرى هناك الأديب المبدع الذي بإمكانه توحيد الناس على اختلافهم في بوتقة واحدة، إذ يختزل التاريخ والجغرافيا، العرق والدين، لأن الفنان ليس من زمن محدّد أو بلد بعينه، ولكنه ينتمي إلى كل الأزمان وإلى كل البلدان، فوطنه ليس بالضرورة ذلك الذي وُلد فيه، ولكن يمكن أن يكون ذلك حيث يريد أن يعيش. ووراء أسيجة الأجناس، المعتقدات، الحضارات واللغات هناك الفنانون العباقرة الذين يعبّرون عن عمق إنساني مشترك، يلتقون في الذروات العالية وفي الأعماق، فالفنان المبدع يرى الأشياء على صعيد الإنسانية، ومثلما يعبّر عن كل ما يشعر به الناس سواء شعروا بذلك أم لا فهو يحرّك كذلك مشاعرهم.3
• الفردية: يركّز نبهاني في فلسفته الجمالية على الفرد المبدع، صحيح هو يحدّثنا عن الإنسان الشامل الذي تلتقي عنده كل الشعوب، ولكن الانعتاق، التفكير، اكتشاف الذات وتوجيه السلوك كل ذلك لا يكون مبنيا على أسس صحيحة إلاّ بتجاوز مرحلة الإمتثالية والخضوع لسيطرة الجماعة والعرق والتعصب الديني وغيره من المعيقات.
• المجتمع الروحي: إذا كان الناس يتعرّفون على تماثلاتهم الجسدية والغريزية، فلا بدّ أن يتعرّفوا على تماثلهم الروحي لأن من طبيعتهم الشعور بالتضامن إزاء القلق في حياتهم لذلك فهم يجتمعون في جماعات مما يوسّع إطار تفكيرهم وسلوكهم ويولد الحوار بينهم، ويوضّع (من الموضوعية) بطريقة ما حساسيتهم الذاتية المركز ويوجهها نحو الغير، والعيش المشترك في تجمعات يجعلهم يستشعرون شمولية الإنسان، ثم هناك اللغة التي يتواصل بها المجتمع تسمح بتحديد الفكر وصرفه في الزمان والمكان مما يخفف عن الذاكرة الفردية بغية استحداث نوعا من الذاكرة الإنسانية.
ويعترف نبهاني بأن مفهوم الإنسان الشامل الذي يدعو إليه لم يكن نابعا من ثقافته الأصلية (العربية-الإسلامية) وإنما يعود إلى قراءاته لعدد من الكتاب والأدباء الكلاسيكيين الغرب وهذا ما أكسبه الوعي بذاته وبالآخرين، لأنهم أثّروا فيه إلى درجة الاعتياد عليهم، لهذا فهو يشعر بأن هناك مجتمعا روحيا واحدا.4
• المنهج: منهج نبهاني في فلسفة الجمال هو التعاطف (المشاركة الوجدانيةSympathie) ولم أجد وصفا دقيقا لهذا المنهج إلاّ عند فكتور باش إذ يقول أنه: (امتداد المرء في الأشياء الخارجية، وإضفاء نفسه عليها، وانصهاره فيها. هو أن نؤوّل ذوات الآخرين وفقا لذواتنا نحن، هو أن نعيش حركاتهم، وإشاراتهم، وعواطفهم، وأفكارهم. هو أن نبثّ حياة وحركة وشخصية في الأشياء التي ليس لها شخصية، من أهون العناصر الشكلية إلى أرفع تجليات الطبيعة والفن، هو أن ننتصب مع عمود مستقيم، وأن نمتدّ مع خطّ أفقي، وأن نلتف مع دائرة، وأن نثبّ مع إيقاع منقطع، وأن نتهدهد مع لحن بطيء، وان نتوتر مع صوت حادّ، وأن نسترخي مع جرس مقنع، وان تظلم نفوسنا مع غيمة، وأن نئنّ مع الريح، وان نتصلّب مع صخرة، وأن نسيل مع جدول، أن نصغي إلى ما ليس نحن، أن نهب أنفسنا إلى ما ليس نحن، وذلك كلّه بسخاء وحماسة يبلغان من القوة أثناء التأمل الإستطيقي، أننا لا نعود نشعر بأننا نهب ونعطي، وإنما نعتقد حقاً بأننا أصبحنا خطاً وإيقاعا وصوتا وغمامة وريحا وصخرة وجدولاً. إن الفنان هو الذي يستطيع بلواقط نفسه المتعددة أن ينفذ في الأشياء والكائنات، وأن يبثّ فيهم حياة، وأن يجعلهم يغنّون ويبكون وينتحبون ويرقصون ذلك الرقص المقدّس، رقص زرادشت.)5 وكتاب نبهاني"الإنسان الشامل" فيه أمثلة كثيرة تجسّد هذا المنهج نكتفي بهذا النصّ يقول: (هومير أصبح صديقا أقرب إليّ روحيا، أعجبت ببساطته، بتصويره لانقلابات الحياة البطولية...هومير الذي جعلني أعيش مرة أخرى العصر القديم، بعد أن فصلني عن عالمي، وأدخلني في عالمه. اكتشفت في هومير ذاك الإنسان الذي يفصلنا عن ذواتنا وخصوصياتنا، ويربطنا ثانية بحياة الإنسانية في دراما اجتماعية لا تتوقف. هومير أفرز الإنسان من أبطاله الذين أصبحوا عاديين بالنسبة لنا...عالم هومير مليء بالأبطال. عالم مضيء فيه من الدفء الإنساني...هومير قريب إلينا بقوة التعبير بثّ فينا حماسا لا ينقطع.)6 وداخل هذا التطابق نكون في حالة قابلية كاملة للانفعال، ونصل كقرّاء إلى احتلال مكان الكاتب أو شخصياته، ونتورط معهم وننبعث من حياتهم ونندمج في عالمهم، ويحدث أن ننسى أنفسنا، ونتأمّر بأوامرهم، ونتأثّر ببطولاتهم، وفي عمق القارئ يعاد إدماج الإعجاب الذي شعر به في ذاته، والكتاب أنفسهم لا يستهدفون إلاّ إعادة تأهيل أو ترميم الإنسان بهكذا طريقة.
وعند قراءتنا للتاريخ يمكن أن نفضّل بعض القادة والعظماء الذين ينبثق منهم الإنسان، فإنسانيتهم في شكلها الخام والطاقوي الحيوي هي التي جعلتهم لامعين، وعوضوا بطريقة ما الجانب الشرس فيهم بالجانب الإنساني، فالقائد حنبعل كان إنسانيا بطريقة ما، والإسكندر الأكبر لم يكن فقط ذلك البطل العنيف ولكنه كان الحريص على الفلسفة والفلاسفة، ونابليون ليس مجرد محارب خلّف وراءه مدافن لعظام الموتى، ولكنه كان مشيّدا للقانون المدني، وحامي العلم، كما نشعر بحميمية لا حدود لها ونحن نقرأ مذكراته.7
- فلاسفة بستان النخل الأربعة:
هي دراسة نشرت في كتابه "الأفارقة يتساءلون" على شكل حوار بين أربعة فلاسفة حول مشكلات يعاني منها المسلمون عامة، والجزائريون خاصة، وهي الدراسة التي على إثرها نال جائزة المثقفين الفرنسيين عام 1952. والفلاسفة الأربعة هم:
1- بالي: وعمره ستون عاما، يعتقد كما يعتقد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي بأن جانب الشرّ أكثر من جانب الخير في الإنسان، وبالتالي فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فعلى المستوى الحضاري ينبغي للمسلمين أن يبقوا مسلمين لأن الخضوع للغير والرضى بذلك يُخرج المسلم من إسلامه، وعلى المستوى الوطني فعلى الجزائريين أن يسلكوا طريق التحرير والاستقلال.
2- صافي: يقترب من العقد الخامس، يؤمن بالحاضر فقط، ويثق بعقل الإنسان مطلقا. على المستوى الحضاري يؤمن بتماثل غربي-إسلامي وهذا يمهّد لزواج شرقي –غربي والناس على اختلافهم مدعوُون للتعاون والإتحاد في أمة روحية عالمية، وعلى المستوى الوطني فهو يدعو إلى تعاون جزائري فرنسي كخطوة للانصهار النهائي بينهما.
3- باشا: يقترب من سنّ الأربعين، حيوي، يميل إلى المجون وهو يعتقد في مقولة ماركس: "الدين أفيون الشعوب" وعلى المستوى الحضاري يرى بأن ربط العقل بالدين يمنع سيره العادي ويعرقل الاتجاه إلى دراسة الواقع، والمسلمون اليوم يعيشون في وهم زمن العزّة والقوة، لكن الحقيقة أنهم متخلفون وسيبقون كذلك، أما على المستوى الوطني فيذهب إلى أن ما تقوم به فرنسا في الجزائر هو خير للجزائريين لأننا لا نستطيع حكم وتسيير أنفسنا، بمعنى أنه فينا نوعا ما من القابلية للاستعمار.
4- ساسي: تجاوز الخمسين من عمره، وهو مادّي ملحد، يعتقد بأن الحقيقة لا وجود لها إلاّ في خيالنا، بمعنى أن ما نخاله حقيقة في العقل هو مجرد سراب. انصب فكر الرجل على الجانب الوطني، إذ انتقد الفرنسيين في توجهاتهم سواء في فرنسا أو في الجزائر، وهو يؤمن بإمكانية تطور الجزائريين لو تلقوا تعليما جيدا وحرّروا المرأة، وتعاونوا مع الأمم المتطورة كفرنسا مثلا.8
والسؤال الذي قد يطرحه القارئ هو الآتي: أين يكمن الجانب الفلسفي في هذا الحوار بين هذه الشخصيات؟
الجواب هو أن اللحظة الفلسفية التي توصّل إليها هؤلاء هي انسحابهم من المحسوس أو الجزئي اليومي، والعروج إلى التجريد للنظر إلى الإسلام وأحوال المسلمين من الخارج، ذلك الجو الداخلي الواقعي الذي قيّد ملايين المسلمين، إذن هي اللحظة حيث استقلّوا بعقولهم وتساموا كي يفكّروا أولا تفكيرا حرًا، وثانيا كي يفكّروا بطريقة شمولية أو عالمية.
- فلاسفة الإنسانية:
تتجلى الذهنية الشمولية أو قل العالمية لدى نبهاني في كتابه "فلاسفة الإنسانية" إذ قسّم محاوره حسب الحضارات الإنسانية إلى اثنا عشر محورا: الفلاسفة اليونان. الفلاسفة الرومان: أبكتيت، أفلوطين، والقديس أوغسطين. الفلاسفة الهنود: البرهمانيين، البوذيين، غاندي، أورابندو. الحكماء الصينيين: لاوتسو، كونفشيوس، مانسيوس. حكماء الفرس: زرادشت، ماني. فلاسفة الإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن ميمون، ابن عربي. فلاسفة أوروبا العصور الوسطى: توما الأكويني، دانس سكوت. الديكارتية: ديكارت، سبينوزا، مالبرانش، ليبنتز. الإمبريقية الإنجليزية: لوك، باركلي، هيوم، ج. س. مل، سبنسر، برتراند رسل. المثالية الألمانية: كانط، هيجل، شوبنهور، نتشه، ماركس. الفلسفة الفرنسية: أوجست كومت، برجسون. الأنبياء: إبراهيم، موسى، عيسى، محمد عليهم الصلاة والسلام.9
وكما هو واضح من هذا العرض أن الكتاب يتناول أبرز الفلاسفة من كبرى الحضارات العالمية، ويسمح للطالب المبتدئ في الفلسفة بتكوين صورة عامة مختصرة وتكون له قاعدة إذا أراد الاستزادة من مراجع أخرى، والكتاب يترك انطباعا لدى القارئ بأن المؤلف أكثر تسامحا مع الثقافات والديانات الأخرى مما يجعل القارئ يتعاطف معه، ومن ثم ينشأ لدى القارئ نفس توجّه الكاتب، ومما يزيد الأمر إعجابا تخصيص المحور الأخير للأنبياء، فالفلاسفة مصابيح الإنسانية بعقولهم وثقافاتهم المختلفة، والأنبياء حاملين لواء التوحيد والكلمة الإلهية رغم اختلاف عصورهم وتعدّد الشعوب التي بُعثوا إليها إلاّ أن خطابهم في جوهره واحد، يقود إلى الأخوة والتسامح والعيش المشترك.
- الفلاسفة الأجلاء:
وخصّص نبهاني كتابا مستقلا احتفاء بالفلاسفة المسلمين الذين وصفهم بالأجلاء، ذاكرا لكل فيلسوف نبذة عن حياته ومؤلفاته مقتبسا منها نصوصا تلقي الضوء على بعض الأفكار التي يراها مهمة، وأضاف إليهم ثلاثة أعلام من علم الكلام هم: الخياط المعتزلي، أبو الحسن الأشعري، الجويني. وختم الكتاب بالكشف عن بعض رسائل أبي حامد الغزالي والتي يقول أنها لا زالت مجهولة إلى تاريخ نشر كتابه.10
- الحكمة الإيرانية:
كرّس نبهاني كتابا لعمر الخيام (1040-1125) مؤلف "الرباعيات" الخالدة والذي ولد قرب نيسابور بخراسان الإيرانية، تلقى تعليما أدبيا وفلسفيا، كما وجد طريقا له في الرياضيات وعلم الفلك. الرجل يمكن وضعه في مصاف الفرديات الحديثة البارزة برؤيته الواسعة كجوته وطاغور.11
نعجب به أولا كعالم عقلاني، كرياضي دقيق، أكثر تنورا من فيثاغورس الذي وجد سلام النفس تحت النجوم، وهو أكثر من أبيقور وهو يمزح برفقة تلاميذه في حديقته المشهورة، وأكثر من أينشتين وهو يفتش عن حقيقة الكون.
وكان مما يقوله الخيام: (خالط الرجال الصادقين والأذكياء، وابتعد ألف فرسخ عن الجهلاء: إذا أعطاك رجل العقل سُماً، فاشربه؛ وإذا قدّم لك جاهل ترياقا، فصبه على الأرض.)
يقف الخيام ضدّ الإيمان المتجمد، إيمان القطيع، وهو موقف يتطابق مع روح القرآن، هذا الكتاب الجليل الذي يقرأه الناس أحيانا، ولكنهم ينعمون به دوما. ويبدو الخيام كفرداني يقدّم السيطرة على الذات على غرائز النفس الأخرى. ونعثر له على ملمح مادي عندما قال بأننا سنصبح ترابا، ومن هذا التراب تصنع الأوعية التي بها نشرب، ولا أمل لنا اليوم بأننا سنعيش إلى الغد وأن الاستغراق في المستقبل جنون مطبق، فالديمومة ليس عليها أي دليل.
وفي شعر الخيام ملمح تشاؤمي من جهة أن هناك ألم دائم في هذا العالم. إنه يقف في الوقت نفسه ضد الفلاسفة والمتدينين لأنهم عاجزون عن كشف الأسرار الإلهية. ومرة أخرى يبدو الخيام واقعيا مرتبط بالحاضر يقف ضد أوهام الماضي، وخدع المستقبل، يستبعد من خياله شبح الموت ليبقى راسخا وآملا أمام الله عز وجل، يستمتع بجمال الخلق حيث النساء والخمر لديه عنصران أساسيان.
بعد الموت هناك العدم أو الرحمة: (آه!حيث لا نعود موجودين وحيث العالم لا يزال، لا تبقى الشهرة ولا الأثر. العالم لم يكن مكتملا قبل أن نجيء إليه، ولا شيء يتغير أبدا عندما نغادره.)
يعلن الخيام إيمانه في ذاته، إيمان طاهر من كل توسل ومن كل رعب: (رأيت رجلا منعزلا على أرض قاحلة. لم يكن هرطيقا ولا مسلما، ليس له ثروة ولا دين ولا إله و لا حقيقة، لا شريعة ولا يقين. من في هذا العالم أو في العالم الآخر له مثل هذه الشجاعة؟)
وعلى الصعيد الكوني: الأرض فيها أشياء كثيرة في اللانهاية، والحياة محدودة. نجهل الأسباب الأولى والغايات القصوى. حلولنا تنم عن ضعفنا. الحياة حصة كالألم والموت. الموت نوم أبدي. تحت سماء غير مكترثة نتأسف على جمال زائل، لحظة نادرة للأمن وتعاقب الأجيال.
الأمل يبدأ من القلق. يجب أن نحيا بالحب، التقوى أو الخمر. الحضارة المعرضة للهلاك والعالم البرّاق لا ينبغي أن يجعلاننا نخاف. التواضع والإنسانية يرفعانناإلى مستوى بُعدنا الحقيقي.12
يبدو لنا أن عمر الخيام كسائر الوجوه الكبيرة، الموسومة بوسطها الاجتماعي الأكثر تقليدية. وتحرّر من هذا الوسط بطريقة يائسة في بحثه عن الحقيقة والسعادة، ولكن هذا يبدو إلى حدّ ما يزيّف لديه منظورات الصيرورة الإنسانية. لهذا فالخيام أولا لم يشكّ في الحضارة العلمية التي غيّرت سطح الكرة الأرضية، وحسّنت باستمرار رفاهية الناس؛ ثانيا كان حَرفيا إلى أبعد الحدود عندما لم يتمكن من فهم ما تتضمنه الصلاة من أسرار أودعها الله فيها، وحاجة البشرية للدين وشعائره التي تروي عطشها، إنه للأسف ملبّد بالإيمان المتجمد لعصره وبالاختلال الموجود بين المستوى العلمي الشخصي والتقليد الديني الجامد لوسطه؛ ثالثا الخيام لم يحدس التقدم الإبستمولوجي والتغيرات التي على إثرها العقل الإنساني يصل إلى إدراك مختلف المستويات الروحية (الصلاة مثلا) ومختلف درجات المعرفة (المحسوس، العقلاني، الحدسي).13
ولكن لماذا عمر الخيام؟ أعتقد أن نبهاني يعتبره من الفرديات التي استطاعت أن تكسر حواجز التاريخ والجغرافيا، العرق واللغة، الدين والسياسة ليكون رسولا لثقافة عالمية تلتقي لديها مختلف الشعوب التي خنقتها هذه الحواجز. وكأن الحياة عند نبهاني يمكن أن تعاش بشكل أفضل لو استمعنا لخطاب مثل هذه الفرديات النادرة.
- الوضعية الحضارية للعالم الإسلامي:
يتحسّر نبهاني على وضع المسلمين في كتاباته وهي فكرة شغلته كثيرا، وهو يستعيد شريط تاريخ المسلمين من بعثة النبي (ص) وهو تاريخ مليء بالانتصارات والأمجاد، ويضع الأصبع على نقاط القوة كما على نقاط الضعف، وعالج هذه المسألة بالذات بأساليب مختلفة: أسلوب تاريخي، أسلوب حواري، أسلوب فلسفي، ومن أهم الأسباب التي يراها ضيّعت مجد الإسلام والمسلمين: افتراق الأمة الإسلامية إلى شيع وأحزاب وفرق، واستسلام الخلفاء والسلاطين لملذاتهم.
أما طريق الخلاص اليوم فهو التشبث بالإسلام الصافي والحقيقي، والتفتح على ثقافة الشعوب الأخرى دون استثناء خاصة الأمم المُحِبة للتطور والعاشقة للحرية. وكخطوات إجرائية ينبغي إرسال البعثات العلمية إلى الأمم المتقدّمة حتى تتكون من هذه البعثات نخبة كبيرة عدديا تمثل الفكر الحرّ وتستطيع أن تقود المؤسسات الحساسة في أوطانها. ويرى ضرورة أن يتنور الفقهاء والمفسرون وعلماء الأصول والحديث وأساتذة الشريعة بالعلم المعاصر ليحدثوا الإصلاحات المطلوبة من تبسيط للتعبّد، والتشريع القانوني الأقرب إلى روح الدين في المسائل الحساسة كالتنظيم الاجتماعي ومسألة المرأة.14
- معتقل جماعي:
الإنسان مشروط بدوافع جسده الخفية عن طريق التراب الذي خُلق منه وإليه يعود، وعن طريق السلطة التي تحّدد نشاطه، وعن طريق نمط المعيشة الذي تهيؤه له ثقافته. ولكن على مستوى الإنجاز الشخصي فالأمر يختلف، ولو تفحصنا مختلف الشعوب لوجدنا أن العالم الغربي أصبح وسطا خصبا يوفر للأفراد الوسائل والظروف للتفتح وتحقيق الإنجازات حسب منظورهم الخاص، وفي العالم الإسلامي نرغم الأفراد على أن يتطابقوا مع نموذج قسري يشلّ قدراتهم. وهكذا فبالتقليد القهري، والتخدير بالسلطة القاسية الأفراد أصبحوا شبه معتوهين وغير قادرين أمام الحضارة المحيطة، كما لا حول ولا قوة لهم لتجاوز تابوهات الحواجز الساجنة. والنتيجة الأفراد في شتى بقاع العالم الإسلامي عجزوا في جعل الإسلام محرّرا لهم، وبدا كأنه معتقل جماعي تحوم حوله الشبهات من كل حدب وصوب.
في تحليل نبهاني المستفيض للنموذج الإسلامي، كشف عن جموده وتكلّسه، بينما في الغرب نموذجه كان متطورا، النموذج الأول لم يتحقق أبدا فعليا كي يغدو مرنا وعملياتيا، بينما الثاني لم يتوقف عن فكّ وثاق التعصّب والطائفية (رغم التاريخ الأسود الذي عاشه في القرون المظلمة وحتى عصر النهضة)** والحكم المطلق كي يتجه دوما إلى الأمام، النموذج الإسلامي غلّف النفس العربية، وأثار انتباه الشعوب الأخرى بوثبته الأولى، وتأثيره على الآخرين، ولكن ترك المشكلات المفاتيح معلقة أو قل غامضة كسيادة الكلمة الإلهية للقرآن، إذ فهم المسلمون خطأً من ذلك أنه يسدّ حرية الاختيار الإنساني، أولوية العبادة على العمل...هذا وأمورا أخرى جعلت العرب يعتقدون بأنهم الأمة المفضّلة بين الأمم الأخرى.
إن الاعتبار بالتطور التاريخي والثقافي للنموذج الإسلامي يجعلنا نفهم لماذا أخفق على الصعيد الواقعي، ولم يستطع تحمّل صدام الحضارات. هذا النموذج اليوم بقي مضطربا مشوها وضعيفا. لكن الهدف من هذا التشخيص ليس محاولة انتزاع طباع الناس، ولكنها محاولة لإيقاظهم من بلادتهم، واقتيادهم إلى معرفة أنفسهم ومعرفة الآخرين، إلى الحقيقة وإلى واقع العالم قصد التوافق السليم مع سائر الإنسانية.
إذن عندما نلحظ تأخر المسلم في جميع الميادين أشعر بإلحاح في إخباره، لدفعه إلى الانفتاح على التقدم، هذا التقدم الذي حصل في الأمم المتطورة كان بالتعاون مع النخب النشطة للبلدان الإسلامية نفسها.15
- في نقد محمد إقبال:
غزت بريطانيا القارة الهندية، ولم ترض بتقسيمها إلى قطبين متعاكسين هما الهند وباكستان وعن هذه الأخيرة انفصلت بانغلاداش فيما بعد بفعل التمايزات الدينية، بل أخرجت لنا من امبرياليتها فرديات مثارة والتي بلبلت الشعوب المجاورة.
محمد إقبال (1873-1938) واحد من المؤسسين لباكستان، كان مسلما تحرّر من التوفيقية الهندية وأقبل على الحداثة عن طريق الثقافة البريطانية، واشتهر في الدعاية السياسية-الدينية بأنه منصّب راية الإيمان الإسلامي مما دفعه إلى وراء حدود بلاده.
توحّد إقبال داخل المجلس مع كل الزعماء الذين اختاروا استقلال الهند، وانفصل كي يخلق الرابطة الإسلامية التي كرّسها لخلق باكستان. إقبال برز إذن كمناضل سياسي وفي الوقت نفسه كممثل للنهضة الإسلامية. إقبال طمح إلى تجديد الوثوقية القرآنية وتلقيحها بالحداثة، ميله إلى الفيلسوف أبي حامد الغزالي، والمتصوف جلال الدين الرومي يؤكد توقه لنزعة إنسانية إسلامية؛ لكنه نسي بأنه داخل النزعة الإنسانية الحصرية (الاستبدادية) يتم هدر الإنسان أحيانا، وأن المفكرين اللذان تأثرا بهما لا علاقة لهم بالسياسة، ولم يعبرا إلاّ عن تصورات شاملة وعالمية.
لم يراع إقبال لا الفلسفة الإغريقية، لا الحديثة، لا المعاصرة ولا حتى الفلسفة الإسلامية. انطوى على القرآن وبه أراد أن يفسّر كل شيء، وجامعا بين الدين والعلم. وعلى أثره تبنى الإسلاميون هذه الوضعية الغامضة وورطوا الجماهير التي احتقرت التقدم.
في الحقيقة إقبال كان في بدايته موسوما بالميتافيزيقا الهندية، ووجد فيما بعد في الإسلام محوّلاً، والثقافة الغربية التي سمحت له أن يناور حسب تخيله، في وسط ذات بنيات قروسطوية. فالإسلام لا ينبغي اعتباره كغاية في ذاته، ولكن ينبغي النظر إليه كخطاب يتواجه مع الواقع. إننا جعلنا بذلك من إقبال برجسوني التوجه من جهة تعارضه مع المذهب العقلي، ونسينا أن برجسون حرّر الفرد من الجماعة التي احتجزه فيها إقبال.
لمن يحسن القراءة بين السطور، الإسلام هو في الحقيقة ثنائي القطب يوفّر للناس في عصرهم تصور مشترك موضوع لأجل تحقيق المصلحة لإنسانية مستقرة ومحدّدة جغرافيا؛ ويودع ضمناً لإنسانية موسعة، متنوعة، وحتى معدّلة إمكانية لرؤية فعّالة حيث الفرد يستطيع لعب دور أعظم وبمنظورات جديدة. إقبال تشبث للوهلة الأولى بإسلام نهائي، جعله خانقا وثابتا في مبادئه المقدّسة، ونسي أن هناك مخطّطين مختلفين: الميتافيزيقي، حيث النبي (ص) يتوجّه نحو الله عزّ وجل وهو يترقب استقبال شرارة التعالي، ومخطط اجتماعي-أخلاقي وبواسطته وضع قواعد المدنية الأرضية التي تسمح لنا بالتطور على الأرض، وبخبراتنا الشخصية. إذا كان كل واحد منفردا مهتم بخلاصه الشخصي، فالنشاط الكلي (الجماعي) يهم الجميع. إقبال الذي يعتبر خطأً كمصلح قيّد الجماهير داخل نزعة إنسانية إسلامية وجعلها مرجعا، هو في الحقيقة أغرقهم في عجزها.16
في أرض الإسلام، المثقف الذي يستحق لقب المصلح غير موجود في مكانه، وغير مقدّر على حقيقته. إنه مهمّش أو تحوّل إلى مخبِرٍ للسلطة.


- الديمقراطية في الإسلام:
يشكّل الخوارج مع أهل السنة والشيعة ثلاثة فروع مهمة في الإسلام، وإذا كانت الأغلبية هم سنة، والشيعة يشكلون حوالي عُشر المسلمين في العالم، فالخوارج الباقون في صيغة فرقة الإباظية يعدّون بمئات الآلاف، لكن هذا لا يمنع الخوارج من أن يلعبوا دورا مهما في التاريخ الإسلامي، لأنهم أثاروا مشكلات ما زالت معلقة إلى يومنا هذا. وهذه الفرقة مازالوا متواجدين في: عمان، جبل نفوسة في طرابلس الليبية، في العراق واليمن، في جزيرة جربة التونسية وفي وادي ميزاب بالجزائر حيث يشكلون مجموعة أكثر التحاما.17
ظهر الخوارج في جيش علي بن أبي طالب (ض) في موقعة صفين ضد جيش معاوية بن أبي سفيان، إثر واقعة التحكيم المشهورة في التاريخ الإسلامي، وبغض النظر عن التفاصيل التي يمكن أن تفيد القارئ حول ملابسات هذا المشهد التاريخي، إذ يمكن الإطلاع عليها في كتب التاريخ، فإن نبهاني كريبع يريد التركيز على نقطة أساسية هي أن الخوارج كانوا وراء ولادة مذهب سياسي جديد يتوافق مع روح الإسلام، ويستهدف بالذات الديمقراطية في حين أن الشيعة كان مذهبهم سياسي ثيوقراطي، وأهل السنة كان توجههم أرستقراطي عقائدي. والقرآن في نظر نبهاني فتح الباب للاجتهاد الشخصي ودفع في هذا الاتجاه لوضع نظام سياسي أكثر عدلا، وأقل خضوعا للمنافع الشخصية والفئوية، وتعسّف السلطة.18
والخوارج متوزعون على حوالي عشرين فرقة، ولها آراء مختلفة عن بعضها في الكثير من القضايا، وتظهر تحت أشكال سياسية مختلفة وكانت لها آراء خاصة بها، ولكنها متفقة حول مسألة الخلافة، والخوارج مختلفون عن المحايدين وعن الإمتثاليين، ففي نظرهم أن المسلمين حادوا عن الطريق المستقيم، ويجب توجيههم إلى طريقة اختيار إمام شرعي، هذا الإمام الشرعي يكون كذلك بالانتخاب الديمقراطي الذي لا يستثني أحدا. وبالنظر إلى هذا التوجّه فإنهم تسامحوا مع أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب (ض)، ورفضوا شرعية خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (ض)، وأدانوا مرتكب الكبيرة وحكموا عليه بالكفر، ولكنهمتسامحوا مع غير المسلمين.
في التقليد الإسلامي اليوم، مفاهيم سياسية جديدة رأت النور بعد الخوارج، فمن جهة الشيعة كان الفاطميون مثلا، ومن جهة أهل السنة نرى نماذج سياسية اقترحها الفارابي، وأبي حامد الغزالي، وابن تيمية، وفي عصرنا لدى مختلف الحركات الوطنية التي تستلهم من الماضي أو من الحداثة. ولكن سياسة الخوارج تبقى صلبة مادامت تمثل الديمقراطية في الإسلام، حيث الخليفة يجب أن ينتخب من الجميع دون تمييز سواء من حيث السلالة أو الطبقة، وفق معايير الكفاءة، النقاء والجُهُوزية.19
- مشكلة الهجرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا:
في فرنسا الدراسات حول الهجرة والإدماج حديثة بالمقارنة مع دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هناك بوادر دراسات اقتصادية وديمغرافية سنوات الخمسينات، ثم توسعت شيئا فشيئا في الستينات والسبعينات.20 وعلى صعيد أخر يعلن أحد الباحثين بأن الهجرة هي واحدة من الظواهر الديمغرافية التي تصعب ملاحظتها وقياسها لأنها حدث يتجدد هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب إشراك باحثين من البلد الذي تنطلق منه هذه الهجرات.21
لذلك فرأي نبهاني يهمنا في إلقاء الضوء على الموضوع لأنه شهد الهجرات المبكرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا. يرى بأن المهاجرين: جزائريون، مغاربة وتونسيون كانوا في الخمسينات من القرن العشرين حوالي نصف مليون، ويعترف بأنهم مازالوا يحتاجون إلى تكوين وثقافة كي يعرفوا على الأقل كيف ينفقون أوقاتهم في البلد الجديد الذي هاجروا إليه، ولكنهم تميزوا بأخلاق عالية كالوفاء والرجولة والأمانة، مما غيّر الكثير من سوابق الأحكام السيئة عنهم، حتى شهد الناس على صداقات بينهم وبين الأوروبيين وزواج بينهم وبين النساء الفرنسيات. وكان من السلوكات التي أثارت إعجاب الأوروبيين إفساح الأماكن للعجزة والقاصرين في الحافلات والقطارات، إرجاع الأغراض الضائعة إلى أصحابها...
وأغلبية المهاجرين عمال أجراء، والبعض يشتغل في وظائف تجارية كالمطاعم والفنادق، والقليل منهم يشتغل في الإدارات، وهناك آخرون يعدّون على الأصابع يشتغلون في مناصب عليا، وهناك من لا يعمل إطلاقا، وهناك طلبة كثر جلبهم الإشعاع الثقافي والحياة الحرة إلى فرنسا.
إذن هناك هجرة بأعداد كبيرة خاصة من الجزائريين إلى فرنسا فما هي أسبابها؟
هناك عدة أسباب يجملها نبهاني في النقاط التالية:
- البؤس: لأن الشباب لم يعد قادرا على تحمل العيش بالقليل كما كان أجداده، فالشاب يريد أن يأكل، يلبس، يتزوج ويسافر وبالجملة يريد أن يتحرّر من عقبات مجتمع قروسطوي ساكن.
- بروز عدم التفاهم مع أفراد الأسرة لانعدام قنوات الحوار خاصة مع الآباء، لاختلاف وجهات النظر إلى الحياة ومشكلاتها.
- انعدام العدالة، فهم متأثرون بما أنشأه الأوروبيون في مجتمعاتهم ولم تمتدّ يدهم إلى تخليصهم مما هم فيه، فكان المخرج الوحيد هو الهجرة، حيث الحياة الحرة، والكريمة وهو لا يطالب بأكثر من ذلك.
ولكن هل الهجرة هي الحلّ السحري لمشاكل الجزائريين؟
يجيب نبهاني بأنها أبعد من أن تكون الحل الشجاع، وليست طريقا لحياة أفضل، ورغم ذلك ينبغي لفرنسا أن تهتم بالجزائريين وكل سكان شمال إفريقيا المهاجرين إلى فرنسا بتوفير التعليم والسكن، وهذا لا يمنع من بناء جسور التواصل بين المجتمع الفرنسي ومجتمعات شمال إفريقيا رغم كل الاختلافات الموجودة بينها.22
- نقد البنية البطريركية للأسرة المسلمة:
ينتقد نبهاني حبس المرأة في البيت، وعدم تعليمها، وقد استعرض في كتابه "الأفارقة يتساءلون" الذي صدر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين تفاصيل حياة المرأة في ثقافات شمال إفريقيا منذ الطفولة مرورا بالمراهقة إلى سن الزواج ثم بعد الزواج في بيت زوجها،23 كما ينتقد البنية الأبوية للأسرة من خلال أسرة جدّه التي كانت تتكون من حوالي عشرين فردا: زوجتاه الاثنتين وأبنائهما، إخوته وأخواته وأبنائهم. وهذا طراز قديم ينتج الكثير من المشاكل التي تنغص حياة أفرادها، لأن صراع الأجيال سنة ثابتة لا يمكن إلغاؤها، فالصراع صراع بين تصورات مختلفة عن الحياة، تصورات تقليدية وأخرى حديثة.
الذَكر في المجتمعات الإسلامية له الغلبة، لأن المستقبل يستند إلى قوة الذكور، وهم يتمتعون بضعف الميراث المخصص للفتاة، لكن في السنوات الأخيرة تميّزت الأنثى عندما نافست الذكر بقدراتها. ورغم ذلك لا زالت المرأة لم تكتسب كل حقوقها التي تستحقها، إذ مازالت بعض مظاهر الشذوذ كاعتبارها موضوعا للمتعة والإنجاب، وتعدّد الزوجات لم يتم التحكّم فيه نهائيا أضف إلى ذلك العنف الممارس ضدها.24
وبخصوص الخوف مما يسمى بتحرير المرأة، فلا مبرر له خاصة إذا كان قائما على أساس تربوي مُعدّ مُسبقا، والإسلام لا يعارض هذا التحرير إذا كان قائما على الهدي الإسلامي الصحيح، وليس على العادات البائدة التي توارثتها المجتمعات منذ القدم وتنسبها زورا إلى الإسلام.25


- خاتمة:
هذه إذن البعض فقط من المشكلات التي تناولها نبهاني في كتاباته على امتداد ثمانية عقود من العطاء، هي في الحقيقة مشكلات جديدة قديمة، بعضها لازال مطروحا إلى يومنا هذا منذ أن أبدى رأيه فيها في الخمسينات من القرن العشرين كمشكلة المرأة، الهجرة، وتحجّر النموذج الإسلامي مقارنة بالنموذج
to
الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية
September 30 at 9:55pm ·

مقال حول المفكر كريبع النبهاني نشر سابقا في مجلة دراسات فلسفية العدد الأول ونعيد نشره هنا حتى يتعرف القارئ أكثر على هذا المفكر
وللاشرة فان الاستاذ اليزيد بوعروري أستاذ الفلسفة بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية جامعة سطيف بصدد اتمام رسالة دكتوراه حول المفكر كريبع البهاني

المفكر كريبع النبهاني
الأستاذ: اليزيد بوعروري
كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية
جامعة سطيف
------------------------------------
مدخل:

تعدّدت المسائل الفكرية التي عالجها كريبع النبهاني خلال حياته بكل روح متواضعة، وبعيدا عن الشوفينية، المثالية، التعصب والانغلاق، مشكلات تتوزع على مستويات: محلية تمسّ الجزائريين وعلاقتهم بالأوروبيين أثناء التواجد الفرنسي بالجزائر وبعده، مشاكل المسلمين بعد وفاة النبي (ص) إلى زمن الخلفاء الراشدين مرورا بالأمويين والعباسيين وصولا إلى الفترة المعاصرة (بداية الألفية الثالثة) واضعا الأصبع على مكامن الدّاء التي يراها سبب اندحار المسلمين من المشهد الحضاري العالمي.
وإذا كان الأمر كما وصفت فمن هو نبهاني كريبع وما هي المؤلفات التي حملت أفكاره؟ وكيف عالج المشكلات التي تعرض لها؟
1- حياته:
نبهاني كريبع من مواليد أولاد جلاّل ببسكرة عام 1917م، تلقى تعليمه الابتدائي هناك، وأكمل تعليمهالثانوي بالجزائر العاصمة، ثم في باريس بثانوية لويس الأكبر أين نال شهادة البكالوريا. وعاد إلى الجزائر بأمر من أبيه الذي أراده أن يكون تاجرا في التمور، ولكنه فضّل الدخول إلى الجامعة لينال الليسانس في الفلسفة. واشتغل لحوالي عشر سنوات في بيع التمور، ثم عاد إلى فرنسا ليشتغل في المطبعة الوطنية الفرنسية. نال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السربون يوم 09 جوان 1967م. عمل أستاذا للفلسفة بجامعة الجزائر1 إلى أن وافته المنية عام 2005م.*
2- مؤلفاته:
كتب نبهاني باللغة الفرنسية فقط، وكتبه لم تعرّب –في حدود علمي- إلى غاية كتابة هذا المقال.
- أشعار صبي، صدر عن دار فرنسا-إفريقيا سنة 1935م.
- شكاوى العربي، صدر عن كراريس النزعة الإنسانية الجديدة، بفرنسا سنة 1954م.
- الأفارقة يتساءلون، صدر في باريس عام 1955.بالاشتراك مع الجنرال جان شاربونو.
- برومثيوس هو ملك مستقبل الإنسانية، صدر عام 1957م. وبرومثيوس هو شخص في الميثولوجيا اليونانية سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، فهو محسن إليهم لما للنار من قيمة في تطور حضارة الإنسان. وللكتاب نفسه عنوان آخر هو: برومثيوس أو الخلاص بالعلم.
- التحديد الجمالي للإنسان، وهو النص الأصلي لرسالة الدكتوراه في الآداب التي نوقشت في السربون ونشرت بالتعاون بين فرنسا والجزائر، نشرت سنة 1967م. ونشر الكتاب بعنوان آخر هو: الإنسان الشامل- فلسفة الجمال، بالمؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1989م.
- الخير والشرّ من خلال القرآن، صدر سنة 1968م، وأعيد طبعه مرتين سنة 1970، وسنة 1984 عن المؤسسة الوطنية للكتاب.
- الإسلام والاشتراكية، صدر في الجزائر سنة 1972.
- فلاسفة الإسلام، صدر عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1980.
- دفاع عن النبي (ص)، صدر في الجزائر عام 1978، ثم في 1982.
- الغزالي، صدر عن ديوان المطبوعات الجامعية، سنة 1985.
- عمر الخيام-رسول إيران العالمي، صدر في فرنسا سنة 1988.
- الخوارج-ديمقراطي الإسلام، صدر كذلك في فرنسا سنة 1991.
- أهل السنة أو الإسلام المصادق عليه، صدر في فرنسا، د ت.
- فلاسفة الإنسانية، صدر في فرنسا سنة 1995.
- الإنسان في الإسلام-تاريخية وانفتاح، صدر في فرنسا سنة 2001.
وكتب في مجلات وجرائد في فرنسا والجزائر، ففي فرنسا كتب في: Climat, France-outre-mer, Cahier Charles de Foucault. وفي الجزائر كتب في: دراسات فلسفية وهي مجلة يصدرها معهد الفلسفة بالجزائر العاصمة، وكتب مقالات في Algèrie-actualité, Horizons...
وشارك في حصص إذاعية وتلفزيونية عن الثقافة والإسلام في الجزائر وفرنسا ،كما شارك في ملتقيات ومؤتمرات وطنية ودولية. ونال جوائز في فرنسا والجزائر نذكر منها:
- جائزة المثقفين الفرنسيين عن مقاله "فلاسفة بستان النخل الأربعة" سنة 1952.
- جائزة شعرية من الأكاديمية الفرنسية عن كتابه "شكاوى العربي أو أغاني العربي المأساوية" سنة 1954.
- الجائزة الأولى للتعليم العالي في الجزائر سنة 1991.
3- المحاور الكبرى لفكر نبهاني كريبع:
- فلسفة الجمال:
يقدّم نبهاني فلسفة جمالية شخصية في كتابه "الإنسان الشامل" وهي تحوم وتتعمق الإنسان الشامل ومفهومه. هذه الفلسفة تبلورت منذ أيام دراسته في الثانوية بالجزائر العاصمة، ثم في ثانوية لويس الأكبر في باريس، وبعدها اتضحت معالمها في مرحلة الدكتوراه التي أخرجت كتابه العميق والزاخر "الإنسان الشامل"، ومن أبرز محاور فلسفة الجمال لديه:
• مفهوم الإنسان الشامل: بعد أن ينتقد المفهوم العامي للإنسان والذي ينزع إلى البحث عن المنفعة والأمن، والمفهوم النتشوي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني نتشه) أي الإنسان الأعلى الذي يعلن موت الإله لينصّب نفسه إلها، يعتقد نبهاني أن الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يسعى إلى التخلّص من أخطائه وأنانيته، والزهد في المتع الجسدية، والذي لا يخضع لمجتمعه وقيمه الباطلة، يكشف عن إمكانياته وطموحاته. وهذا الإنسان كل منا يملكه في ذاته. وفي ذاته ذاتها تكمن إمكانية التطور.2
• الأعمال الأدبية: تنحصر الأحكام الجمالية في الأعمال الأدبية كالمسرحية، الشعر، القصة القصيرة، الرواية. وليس معنى هذا أنه يقصي العلم، الفلسفة والدين، ولكنه يعتقد بأن الأدب هو الوحيد الذي يعكس حقيقة الإنسان بموضوعية. والمتفق عليه أن الموضوعية درجة يأمل العلماء تحقيقها في البحوث العلمية، وإذا غابت هذه الصفة فالنتائج المتوصل إليها تحوم حولها الشبهات، ولكن نبهاني يؤمن بوجود موضوعية في الأعمال الأدبية متى كانت صادقة في تعبيرها عن الإنسان. ومن جهة أخرى هناك الأديب المبدع الذي بإمكانه توحيد الناس على اختلافهم في بوتقة واحدة، إذ يختزل التاريخ والجغرافيا، العرق والدين، لأن الفنان ليس من زمن محدّد أو بلد بعينه، ولكنه ينتمي إلى كل الأزمان وإلى كل البلدان، فوطنه ليس بالضرورة ذلك الذي وُلد فيه، ولكن يمكن أن يكون ذلك حيث يريد أن يعيش. ووراء أسيجة الأجناس، المعتقدات، الحضارات واللغات هناك الفنانون العباقرة الذين يعبّرون عن عمق إنساني مشترك، يلتقون في الذروات العالية وفي الأعماق، فالفنان المبدع يرى الأشياء على صعيد الإنسانية، ومثلما يعبّر عن كل ما يشعر به الناس سواء شعروا بذلك أم لا فهو يحرّك كذلك مشاعرهم.3
• الفردية: يركّز نبهاني في فلسفته الجمالية على الفرد المبدع، صحيح هو يحدّثنا عن الإنسان الشامل الذي تلتقي عنده كل الشعوب، ولكن الانعتاق، التفكير، اكتشاف الذات وتوجيه السلوك كل ذلك لا يكون مبنيا على أسس صحيحة إلاّ بتجاوز مرحلة الإمتثالية والخضوع لسيطرة الجماعة والعرق والتعصب الديني وغيره من المعيقات.
• المجتمع الروحي: إذا كان الناس يتعرّفون على تماثلاتهم الجسدية والغريزية، فلا بدّ أن يتعرّفوا على تماثلهم الروحي لأن من طبيعتهم الشعور بالتضامن إزاء القلق في حياتهم لذلك فهم يجتمعون في جماعات مما يوسّع إطار تفكيرهم وسلوكهم ويولد الحوار بينهم، ويوضّع (من الموضوعية) بطريقة ما حساسيتهم الذاتية المركز ويوجهها نحو الغير، والعيش المشترك في تجمعات يجعلهم يستشعرون شمولية الإنسان، ثم هناك اللغة التي يتواصل بها المجتمع تسمح بتحديد الفكر وصرفه في الزمان والمكان مما يخفف عن الذاكرة الفردية بغية استحداث نوعا من الذاكرة الإنسانية.
ويعترف نبهاني بأن مفهوم الإنسان الشامل الذي يدعو إليه لم يكن نابعا من ثقافته الأصلية (العربية-الإسلامية) وإنما يعود إلى قراءاته لعدد من الكتاب والأدباء الكلاسيكيين الغرب وهذا ما أكسبه الوعي بذاته وبالآخرين، لأنهم أثّروا فيه إلى درجة الاعتياد عليهم، لهذا فهو يشعر بأن هناك مجتمعا روحيا واحدا.4
• المنهج: منهج نبهاني في فلسفة الجمال هو التعاطف (المشاركة الوجدانيةSympathie) ولم أجد وصفا دقيقا لهذا المنهج إلاّ عند فكتور باش إذ يقول أنه: (امتداد المرء في الأشياء الخارجية، وإضفاء نفسه عليها، وانصهاره فيها. هو أن نؤوّل ذوات الآخرين وفقا لذواتنا نحن، هو أن نعيش حركاتهم، وإشاراتهم، وعواطفهم، وأفكارهم. هو أن نبثّ حياة وحركة وشخصية في الأشياء التي ليس لها شخصية، من أهون العناصر الشكلية إلى أرفع تجليات الطبيعة والفن، هو أن ننتصب مع عمود مستقيم، وأن نمتدّ مع خطّ أفقي، وأن نلتف مع دائرة، وأن نثبّ مع إيقاع منقطع، وأن نتهدهد مع لحن بطيء، وان نتوتر مع صوت حادّ، وأن نسترخي مع جرس مقنع، وان تظلم نفوسنا مع غيمة، وأن نئنّ مع الريح، وان نتصلّب مع صخرة، وأن نسيل مع جدول، أن نصغي إلى ما ليس نحن، أن نهب أنفسنا إلى ما ليس نحن، وذلك كلّه بسخاء وحماسة يبلغان من القوة أثناء التأمل الإستطيقي، أننا لا نعود نشعر بأننا نهب ونعطي، وإنما نعتقد حقاً بأننا أصبحنا خطاً وإيقاعا وصوتا وغمامة وريحا وصخرة وجدولاً. إن الفنان هو الذي يستطيع بلواقط نفسه المتعددة أن ينفذ في الأشياء والكائنات، وأن يبثّ فيهم حياة، وأن يجعلهم يغنّون ويبكون وينتحبون ويرقصون ذلك الرقص المقدّس، رقص زرادشت.)5 وكتاب نبهاني"الإنسان الشامل" فيه أمثلة كثيرة تجسّد هذا المنهج نكتفي بهذا النصّ يقول: (هومير أصبح صديقا أقرب إليّ روحيا، أعجبت ببساطته، بتصويره لانقلابات الحياة البطولية...هومير الذي جعلني أعيش مرة أخرى العصر القديم، بعد أن فصلني عن عالمي، وأدخلني في عالمه. اكتشفت في هومير ذاك الإنسان الذي يفصلنا عن ذواتنا وخصوصياتنا، ويربطنا ثانية بحياة الإنسانية في دراما اجتماعية لا تتوقف. هومير أفرز الإنسان من أبطاله الذين أصبحوا عاديين بالنسبة لنا...عالم هومير مليء بالأبطال. عالم مضيء فيه من الدفء الإنساني...هومير قريب إلينا بقوة التعبير بثّ فينا حماسا لا ينقطع.)6 وداخل هذا التطابق نكون في حالة قابلية كاملة للانفعال، ونصل كقرّاء إلى احتلال مكان الكاتب أو شخصياته، ونتورط معهم وننبعث من حياتهم ونندمج في عالمهم، ويحدث أن ننسى أنفسنا، ونتأمّر بأوامرهم، ونتأثّر ببطولاتهم، وفي عمق القارئ يعاد إدماج الإعجاب الذي شعر به في ذاته، والكتاب أنفسهم لا يستهدفون إلاّ إعادة تأهيل أو ترميم الإنسان بهكذا طريقة.
وعند قراءتنا للتاريخ يمكن أن نفضّل بعض القادة والعظماء الذين ينبثق منهم الإنسان، فإنسانيتهم في شكلها الخام والطاقوي الحيوي هي التي جعلتهم لامعين، وعوضوا بطريقة ما الجانب الشرس فيهم بالجانب الإنساني، فالقائد حنبعل كان إنسانيا بطريقة ما، والإسكندر الأكبر لم يكن فقط ذلك البطل العنيف ولكنه كان الحريص على الفلسفة والفلاسفة، ونابليون ليس مجرد محارب خلّف وراءه مدافن لعظام الموتى، ولكنه كان مشيّدا للقانون المدني، وحامي العلم، كما نشعر بحميمية لا حدود لها ونحن نقرأ مذكراته.7
- فلاسفة بستان النخل الأربعة:
هي دراسة نشرت في كتابه "الأفارقة يتساءلون" على شكل حوار بين أربعة فلاسفة حول مشكلات يعاني منها المسلمون عامة، والجزائريون خاصة، وهي الدراسة التي على إثرها نال جائزة المثقفين الفرنسيين عام 1952. والفلاسفة الأربعة هم:
1- بالي: وعمره ستون عاما، يعتقد كما يعتقد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي بأن جانب الشرّ أكثر من جانب الخير في الإنسان، وبالتالي فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فعلى المستوى الحضاري ينبغي للمسلمين أن يبقوا مسلمين لأن الخضوع للغير والرضى بذلك يُخرج المسلم من إسلامه، وعلى المستوى الوطني فعلى الجزائريين أن يسلكوا طريق التحرير والاستقلال.
2- صافي: يقترب من العقد الخامس، يؤمن بالحاضر فقط، ويثق بعقل الإنسان مطلقا. على المستوى الحضاري يؤمن بتماثل غربي-إسلامي وهذا يمهّد لزواج شرقي –غربي والناس على اختلافهم مدعوُون للتعاون والإتحاد في أمة روحية عالمية، وعلى المستوى الوطني فهو يدعو إلى تعاون جزائري فرنسي كخطوة للانصهار النهائي بينهما.
3- باشا: يقترب من سنّ الأربعين، حيوي، يميل إلى المجون وهو يعتقد في مقولة ماركس: "الدين أفيون الشعوب" وعلى المستوى الحضاري يرى بأن ربط العقل بالدين يمنع سيره العادي ويعرقل الاتجاه إلى دراسة الواقع، والمسلمون اليوم يعيشون في وهم زمن العزّة والقوة، لكن الحقيقة أنهم متخلفون وسيبقون كذلك، أما على المستوى الوطني فيذهب إلى أن ما تقوم به فرنسا في الجزائر هو خير للجزائريين لأننا لا نستطيع حكم وتسيير أنفسنا، بمعنى أنه فينا نوعا ما من القابلية للاستعمار.
4- ساسي: تجاوز الخمسين من عمره، وهو مادّي ملحد، يعتقد بأن الحقيقة لا وجود لها إلاّ في خيالنا، بمعنى أن ما نخاله حقيقة في العقل هو مجرد سراب. انصب فكر الرجل على الجانب الوطني، إذ انتقد الفرنسيين في توجهاتهم سواء في فرنسا أو في الجزائر، وهو يؤمن بإمكانية تطور الجزائريين لو تلقوا تعليما جيدا وحرّروا المرأة، وتعاونوا مع الأمم المتطورة كفرنسا مثلا.8
والسؤال الذي قد يطرحه القارئ هو الآتي: أين يكمن الجانب الفلسفي في هذا الحوار بين هذه الشخصيات؟
الجواب هو أن اللحظة الفلسفية التي توصّل إليها هؤلاء هي انسحابهم من المحسوس أو الجزئي اليومي، والعروج إلى التجريد للنظر إلى الإسلام وأحوال المسلمين من الخارج، ذلك الجو الداخلي الواقعي الذي قيّد ملايين المسلمين، إذن هي اللحظة حيث استقلّوا بعقولهم وتساموا كي يفكّروا أولا تفكيرا حرًا، وثانيا كي يفكّروا بطريقة شمولية أو عالمية.
- فلاسفة الإنسانية:
تتجلى الذهنية الشمولية أو قل العالمية لدى نبهاني في كتابه "فلاسفة الإنسانية" إذ قسّم محاوره حسب الحضارات الإنسانية إلى اثنا عشر محورا: الفلاسفة اليونان. الفلاسفة الرومان: أبكتيت، أفلوطين، والقديس أوغسطين. الفلاسفة الهنود: البرهمانيين، البوذيين، غاندي، أورابندو. الحكماء الصينيين: لاوتسو، كونفشيوس، مانسيوس. حكماء الفرس: زرادشت، ماني. فلاسفة الإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن ميمون، ابن عربي. فلاسفة أوروبا العصور الوسطى: توما الأكويني، دانس سكوت. الديكارتية: ديكارت، سبينوزا، مالبرانش، ليبنتز. الإمبريقية الإنجليزية: لوك، باركلي، هيوم، ج. س. مل، سبنسر، برتراند رسل. المثالية الألمانية: كانط، هيجل، شوبنهور، نتشه، ماركس. الفلسفة الفرنسية: أوجست كومت، برجسون. الأنبياء: إبراهيم، موسى، عيسى، محمد عليهم الصلاة والسلام.9
وكما هو واضح من هذا العرض أن الكتاب يتناول أبرز الفلاسفة من كبرى الحضارات العالمية، ويسمح للطالب المبتدئ في الفلسفة بتكوين صورة عامة مختصرة وتكون له قاعدة إذا أراد الاستزادة من مراجع أخرى، والكتاب يترك انطباعا لدى القارئ بأن المؤلف أكثر تسامحا مع الثقافات والديانات الأخرى مما يجعل القارئ يتعاطف معه، ومن ثم ينشأ لدى القارئ نفس توجّه الكاتب، ومما يزيد الأمر إعجابا تخصيص المحور الأخير للأنبياء، فالفلاسفة مصابيح الإنسانية بعقولهم وثقافاتهم المختلفة، والأنبياء حاملين لواء التوحيد والكلمة الإلهية رغم اختلاف عصورهم وتعدّد الشعوب التي بُعثوا إليها إلاّ أن خطابهم في جوهره واحد، يقود إلى الأخوة والتسامح والعيش المشترك.
- الفلاسفة الأجلاء:
وخصّص نبهاني كتابا مستقلا احتفاء بالفلاسفة المسلمين الذين وصفهم بالأجلاء، ذاكرا لكل فيلسوف نبذة عن حياته ومؤلفاته مقتبسا منها نصوصا تلقي الضوء على بعض الأفكار التي يراها مهمة، وأضاف إليهم ثلاثة أعلام من علم الكلام هم: الخياط المعتزلي، أبو الحسن الأشعري، الجويني. وختم الكتاب بالكشف عن بعض رسائل أبي حامد الغزالي والتي يقول أنها لا زالت مجهولة إلى تاريخ نشر كتابه.10
- الحكمة الإيرانية:
كرّس نبهاني كتابا لعمر الخيام (1040-1125) مؤلف "الرباعيات" الخالدة والذي ولد قرب نيسابور بخراسان الإيرانية، تلقى تعليما أدبيا وفلسفيا، كما وجد طريقا له في الرياضيات وعلم الفلك. الرجل يمكن وضعه في مصاف الفرديات الحديثة البارزة برؤيته الواسعة كجوته وطاغور.11
نعجب به أولا كعالم عقلاني، كرياضي دقيق، أكثر تنورا من فيثاغورس الذي وجد سلام النفس تحت النجوم، وهو أكثر من أبيقور وهو يمزح برفقة تلاميذه في حديقته المشهورة، وأكثر من أينشتين وهو يفتش عن حقيقة الكون.
وكان مما يقوله الخيام: (خالط الرجال الصادقين والأذكياء، وابتعد ألف فرسخ عن الجهلاء: إذا أعطاك رجل العقل سُماً، فاشربه؛ وإذا قدّم لك جاهل ترياقا، فصبه على الأرض.)
يقف الخيام ضدّ الإيمان المتجمد، إيمان القطيع، وهو موقف يتطابق مع روح القرآن، هذا الكتاب الجليل الذي يقرأه الناس أحيانا، ولكنهم ينعمون به دوما. ويبدو الخيام كفرداني يقدّم السيطرة على الذات على غرائز النفس الأخرى. ونعثر له على ملمح مادي عندما قال بأننا سنصبح ترابا، ومن هذا التراب تصنع الأوعية التي بها نشرب، ولا أمل لنا اليوم بأننا سنعيش إلى الغد وأن الاستغراق في المستقبل جنون مطبق، فالديمومة ليس عليها أي دليل.
وفي شعر الخيام ملمح تشاؤمي من جهة أن هناك ألم دائم في هذا العالم. إنه يقف في الوقت نفسه ضد الفلاسفة والمتدينين لأنهم عاجزون عن كشف الأسرار الإلهية. ومرة أخرى يبدو الخيام واقعيا مرتبط بالحاضر يقف ضد أوهام الماضي، وخدع المستقبل، يستبعد من خياله شبح الموت ليبقى راسخا وآملا أمام الله عز وجل، يستمتع بجمال الخلق حيث النساء والخمر لديه عنصران أساسيان.
بعد الموت هناك العدم أو الرحمة: (آه!حيث لا نعود موجودين وحيث العالم لا يزال، لا تبقى الشهرة ولا الأثر. العالم لم يكن مكتملا قبل أن نجيء إليه، ولا شيء يتغير أبدا عندما نغادره.)
يعلن الخيام إيمانه في ذاته، إيمان طاهر من كل توسل ومن كل رعب: (رأيت رجلا منعزلا على أرض قاحلة. لم يكن هرطيقا ولا مسلما، ليس له ثروة ولا دين ولا إله و لا حقيقة، لا شريعة ولا يقين. من في هذا العالم أو في العالم الآخر له مثل هذه الشجاعة؟)
وعلى الصعيد الكوني: الأرض فيها أشياء كثيرة في اللانهاية، والحياة محدودة. نجهل الأسباب الأولى والغايات القصوى. حلولنا تنم عن ضعفنا. الحياة حصة كالألم والموت. الموت نوم أبدي. تحت سماء غير مكترثة نتأسف على جمال زائل، لحظة نادرة للأمن وتعاقب الأجيال.
الأمل يبدأ من القلق. يجب أن نحيا بالحب، التقوى أو الخمر. الحضارة المعرضة للهلاك والعالم البرّاق لا ينبغي أن يجعلاننا نخاف. التواضع والإنسانية يرفعانناإلى مستوى بُعدنا الحقيقي.12
يبدو لنا أن عمر الخيام كسائر الوجوه الكبيرة، الموسومة بوسطها الاجتماعي الأكثر تقليدية. وتحرّر من هذا الوسط بطريقة يائسة في بحثه عن الحقيقة والسعادة، ولكن هذا يبدو إلى حدّ ما يزيّف لديه منظورات الصيرورة الإنسانية. لهذا فالخيام أولا لم يشكّ في الحضارة العلمية التي غيّرت سطح الكرة الأرضية، وحسّنت باستمرار رفاهية الناس؛ ثانيا كان حَرفيا إلى أبعد الحدود عندما لم يتمكن من فهم ما تتضمنه الصلاة من أسرار أودعها الله فيها، وحاجة البشرية للدين وشعائره التي تروي عطشها، إنه للأسف ملبّد بالإيمان المتجمد لعصره وبالاختلال الموجود بين المستوى العلمي الشخصي والتقليد الديني الجامد لوسطه؛ ثالثا الخيام لم يحدس التقدم الإبستمولوجي والتغيرات التي على إثرها العقل الإنساني يصل إلى إدراك مختلف المستويات الروحية (الصلاة مثلا) ومختلف درجات المعرفة (المحسوس، العقلاني، الحدسي).13
ولكن لماذا عمر الخيام؟ أعتقد أن نبهاني يعتبره من الفرديات التي استطاعت أن تكسر حواجز التاريخ والجغرافيا، العرق واللغة، الدين والسياسة ليكون رسولا لثقافة عالمية تلتقي لديها مختلف الشعوب التي خنقتها هذه الحواجز. وكأن الحياة عند نبهاني يمكن أن تعاش بشكل أفضل لو استمعنا لخطاب مثل هذه الفرديات النادرة.
- الوضعية الحضارية للعالم الإسلامي:
يتحسّر نبهاني على وضع المسلمين في كتاباته وهي فكرة شغلته كثيرا، وهو يستعيد شريط تاريخ المسلمين من بعثة النبي (ص) وهو تاريخ مليء بالانتصارات والأمجاد، ويضع الأصبع على نقاط القوة كما على نقاط الضعف، وعالج هذه المسألة بالذات بأساليب مختلفة: أسلوب تاريخي، أسلوب حواري، أسلوب فلسفي، ومن أهم الأسباب التي يراها ضيّعت مجد الإسلام والمسلمين: افتراق الأمة الإسلامية إلى شيع وأحزاب وفرق، واستسلام الخلفاء والسلاطين لملذاتهم.
أما طريق الخلاص اليوم فهو التشبث بالإسلام الصافي والحقيقي، والتفتح على ثقافة الشعوب الأخرى دون استثناء خاصة الأمم المُحِبة للتطور والعاشقة للحرية. وكخطوات إجرائية ينبغي إرسال البعثات العلمية إلى الأمم المتقدّمة حتى تتكون من هذه البعثات نخبة كبيرة عدديا تمثل الفكر الحرّ وتستطيع أن تقود المؤسسات الحساسة في أوطانها. ويرى ضرورة أن يتنور الفقهاء والمفسرون وعلماء الأصول والحديث وأساتذة الشريعة بالعلم المعاصر ليحدثوا الإصلاحات المطلوبة من تبسيط للتعبّد، والتشريع القانوني الأقرب إلى روح الدين في المسائل الحساسة كالتنظيم الاجتماعي ومسألة المرأة.14
- معتقل جماعي:
الإنسان مشروط بدوافع جسده الخفية عن طريق التراب الذي خُلق منه وإليه يعود، وعن طريق السلطة التي تحّدد نشاطه، وعن طريق نمط المعيشة الذي تهيؤه له ثقافته. ولكن على مستوى الإنجاز الشخصي فالأمر يختلف، ولو تفحصنا مختلف الشعوب لوجدنا أن العالم الغربي أصبح وسطا خصبا يوفر للأفراد الوسائل والظروف للتفتح وتحقيق الإنجازات حسب منظورهم الخاص، وفي العالم الإسلامي نرغم الأفراد على أن يتطابقوا مع نموذج قسري يشلّ قدراتهم. وهكذا فبالتقليد القهري، والتخدير بالسلطة القاسية الأفراد أصبحوا شبه معتوهين وغير قادرين أمام الحضارة المحيطة، كما لا حول ولا قوة لهم لتجاوز تابوهات الحواجز الساجنة. والنتيجة الأفراد في شتى بقاع العالم الإسلامي عجزوا في جعل الإسلام محرّرا لهم، وبدا كأنه معتقل جماعي تحوم حوله الشبهات من كل حدب وصوب.
في تحليل نبهاني المستفيض للنموذج الإسلامي، كشف عن جموده وتكلّسه، بينما في الغرب نموذجه كان متطورا، النموذج الأول لم يتحقق أبدا فعليا كي يغدو مرنا وعملياتيا، بينما الثاني لم يتوقف عن فكّ وثاق التعصّب والطائفية (رغم التاريخ الأسود الذي عاشه في القرون المظلمة وحتى عصر النهضة)** والحكم المطلق كي يتجه دوما إلى الأمام، النموذج الإسلامي غلّف النفس العربية، وأثار انتباه الشعوب الأخرى بوثبته الأولى، وتأثيره على الآخرين، ولكن ترك المشكلات المفاتيح معلقة أو قل غامضة كسيادة الكلمة الإلهية للقرآن، إذ فهم المسلمون خطأً من ذلك أنه يسدّ حرية الاختيار الإنساني، أولوية العبادة على العمل...هذا وأمورا أخرى جعلت العرب يعتقدون بأنهم الأمة المفضّلة بين الأمم الأخرى.
إن الاعتبار بالتطور التاريخي والثقافي للنموذج الإسلامي يجعلنا نفهم لماذا أخفق على الصعيد الواقعي، ولم يستطع تحمّل صدام الحضارات. هذا النموذج اليوم بقي مضطربا مشوها وضعيفا. لكن الهدف من هذا التشخيص ليس محاولة انتزاع طباع الناس، ولكنها محاولة لإيقاظهم من بلادتهم، واقتيادهم إلى معرفة أنفسهم ومعرفة الآخرين، إلى الحقيقة وإلى واقع العالم قصد التوافق السليم مع سائر الإنسانية.
إذن عندما نلحظ تأخر المسلم في جميع الميادين أشعر بإلحاح في إخباره، لدفعه إلى الانفتاح على التقدم، هذا التقدم الذي حصل في الأمم المتطورة كان بالتعاون مع النخب النشطة للبلدان الإسلامية نفسها.15
- في نقد محمد إقبال:
غزت بريطانيا القارة الهندية، ولم ترض بتقسيمها إلى قطبين متعاكسين هما الهند وباكستان وعن هذه الأخيرة انفصلت بانغلاداش فيما بعد بفعل التمايزات الدينية، بل أخرجت لنا من امبرياليتها فرديات مثارة والتي بلبلت الشعوب المجاورة.
محمد إقبال (1873-1938) واحد من المؤسسين لباكستان، كان مسلما تحرّر من التوفيقية الهندية وأقبل على الحداثة عن طريق الثقافة البريطانية، واشتهر في الدعاية السياسية-الدينية بأنه منصّب راية الإيمان الإسلامي مما دفعه إلى وراء حدود بلاده.
توحّد إقبال داخل المجلس مع كل الزعماء الذين اختاروا استقلال الهند، وانفصل كي يخلق الرابطة الإسلامية التي كرّسها لخلق باكستان. إقبال برز إذن كمناضل سياسي وفي الوقت نفسه كممثل للنهضة الإسلامية. إقبال طمح إلى تجديد الوثوقية القرآنية وتلقيحها بالحداثة، ميله إلى الفيلسوف أبي حامد الغزالي، والمتصوف جلال الدين الرومي يؤكد توقه لنزعة إنسانية إسلامية؛ لكنه نسي بأنه داخل النزعة الإنسانية الحصرية (الاستبدادية) يتم هدر الإنسان أحيانا، وأن المفكرين اللذان تأثرا بهما لا علاقة لهم بالسياسة، ولم يعبرا إلاّ عن تصورات شاملة وعالمية.
لم يراع إقبال لا الفلسفة الإغريقية، لا الحديثة، لا المعاصرة ولا حتى الفلسفة الإسلامية. انطوى على القرآن وبه أراد أن يفسّر كل شيء، وجامعا بين الدين والعلم. وعلى أثره تبنى الإسلاميون هذه الوضعية الغامضة وورطوا الجماهير التي احتقرت التقدم.
في الحقيقة إقبال كان في بدايته موسوما بالميتافيزيقا الهندية، ووجد فيما بعد في الإسلام محوّلاً، والثقافة الغربية التي سمحت له أن يناور حسب تخيله، في وسط ذات بنيات قروسطوية. فالإسلام لا ينبغي اعتباره كغاية في ذاته، ولكن ينبغي النظر إليه كخطاب يتواجه مع الواقع. إننا جعلنا بذلك من إقبال برجسوني التوجه من جهة تعارضه مع المذهب العقلي، ونسينا أن برجسون حرّر الفرد من الجماعة التي احتجزه فيها إقبال.
لمن يحسن القراءة بين السطور، الإسلام هو في الحقيقة ثنائي القطب يوفّر للناس في عصرهم تصور مشترك موضوع لأجل تحقيق المصلحة لإنسانية مستقرة ومحدّدة جغرافيا؛ ويودع ضمناً لإنسانية موسعة، متنوعة، وحتى معدّلة إمكانية لرؤية فعّالة حيث الفرد يستطيع لعب دور أعظم وبمنظورات جديدة. إقبال تشبث للوهلة الأولى بإسلام نهائي، جعله خانقا وثابتا في مبادئه المقدّسة، ونسي أن هناك مخطّطين مختلفين: الميتافيزيقي، حيث النبي (ص) يتوجّه نحو الله عزّ وجل وهو يترقب استقبال شرارة التعالي، ومخطط اجتماعي-أخلاقي وبواسطته وضع قواعد المدنية الأرضية التي تسمح لنا بالتطور على الأرض، وبخبراتنا الشخصية. إذا كان كل واحد منفردا مهتم بخلاصه الشخصي، فالنشاط الكلي (الجماعي) يهم الجميع. إقبال الذي يعتبر خطأً كمصلح قيّد الجماهير داخل نزعة إنسانية إسلامية وجعلها مرجعا، هو في الحقيقة أغرقهم في عجزها.16
في أرض الإسلام، المثقف الذي يستحق لقب المصلح غير موجود في مكانه، وغير مقدّر على حقيقته. إنه مهمّش أو تحوّل إلى مخبِرٍ للسلطة.

- الديمقراطية في الإسلام:
يشكّل الخوارج مع أهل السنة والشيعة ثلاثة فروع مهمة في الإسلام، وإذا كانت الأغلبية هم سنة، والشيعة يشكلون حوالي عُشر المسلمين في العالم، فالخوارج الباقون في صيغة فرقة الإباظية يعدّون بمئات الآلاف، لكن هذا لا يمنع الخوارج من أن يلعبوا دورا مهما في التاريخ الإسلامي، لأنهم أثاروا مشكلات ما زالت معلقة إلى يومنا هذا. وهذه الفرقة مازالوا متواجدين في: عمان، جبل نفوسة في طرابلس الليبية، في العراق واليمن، في جزيرة جربة التونسية وفي وادي ميزاب بالجزائر حيث يشكلون مجموعة أكثر التحاما.17
ظهر الخوارج في جيش علي بن أبي طالب (ض) في موقعة صفين ضد جيش معاوية بن أبي سفيان، إثر واقعة التحكيم المشهورة في التاريخ الإسلامي، وبغض النظر عن التفاصيل التي يمكن أن تفيد القارئ حول ملابسات هذا المشهد التاريخي، إذ يمكن الإطلاع عليها في كتب التاريخ، فإن نبهاني كريبع يريد التركيز على نقطة أساسية هي أن الخوارج كانوا وراء ولادة مذهب سياسي جديد يتوافق مع روح الإسلام، ويستهدف بالذات الديمقراطية في حين أن الشيعة كان مذهبهم سياسي ثيوقراطي، وأهل السنة كان توجههم أرستقراطي عقائدي. والقرآن في نظر نبهاني فتح الباب للاجتهاد الشخصي ودفع في هذا الاتجاه لوضع نظام سياسي أكثر عدلا، وأقل خضوعا للمنافع الشخصية والفئوية، وتعسّف السلطة.18
والخوارج متوزعون على حوالي عشرين فرقة، ولها آراء مختلفة عن بعضها في الكثير من القضايا، وتظهر تحت أشكال سياسية مختلفة وكانت لها آراء خاصة بها، ولكنها متفقة حول مسألة الخلافة، والخوارج مختلفون عن المحايدين وعن الإمتثاليين، ففي نظرهم أن المسلمين حادوا عن الطريق المستقيم، ويجب توجيههم إلى طريقة اختيار إمام شرعي، هذا الإمام الشرعي يكون كذلك بالانتخاب الديمقراطي الذي لا يستثني أحدا. وبالنظر إلى هذا التوجّه فإنهم تسامحوا مع أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب (ض)، ورفضوا شرعية خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (ض)، وأدانوا مرتكب الكبيرة وحكموا عليه بالكفر، ولكنهمتسامحوا مع غير المسلمين.
في التقليد الإسلامي اليوم، مفاهيم سياسية جديدة رأت النور بعد الخوارج، فمن جهة الشيعة كان الفاطميون مثلا، ومن جهة أهل السنة نرى نماذج سياسية اقترحها الفارابي، وأبي حامد الغزالي، وابن تيمية، وفي عصرنا لدى مختلف الحركات الوطنية التي تستلهم من الماضي أو من الحداثة. ولكن سياسة الخوارج تبقى صلبة مادامت تمثل الديمقراطية في الإسلام، حيث الخليفة يجب أن ينتخب من الجميع دون تمييز سواء من حيث السلالة أو الطبقة، وفق معايير الكفاءة، النقاء والجُهُوزية.19
- مشكلة الهجرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا:
في فرنسا الدراسات حول الهجرة والإدماج حديثة بالمقارنة مع دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هناك بوادر دراسات اقتصادية وديمغرافية سنوات الخمسينات، ثم توسعت شيئا فشيئا في الستينات والسبعينات.20 وعلى صعيد أخر يعلن أحد الباحثين بأن الهجرة هي واحدة من الظواهر الديمغرافية التي تصعب ملاحظتها وقياسها لأنها حدث يتجدد هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب إشراك باحثين من البلد الذي تنطلق منه هذه الهجرات.21
لذلك فرأي نبهاني يهمنا في إلقاء الضوء على الموضوع لأنه شهد الهجرات المبكرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا. يرى بأن المهاجرين: جزائريون، مغاربة وتونسيون كانوا في الخمسينات من القرن العشرين حوالي نصف مليون، ويعترف بأنهم مازالوا يحتاجون إلى تكوين وثقافة كي يعرفوا على الأقل كيف ينفقون أوقاتهم في البلد الجديد الذي هاجروا إليه، ولكنهم تميزوا بأخلاق عالية كالوفاء والرجولة والأمانة، مما غيّر الكثير من سوابق الأحكام السيئة عنهم، حتى شهد الناس على صداقات بينهم وبين الأوروبيين وزواج بينهم وبين النساء الفرنسيات. وكان من السلوكات التي أثارت إعجاب الأوروبيين إفساح الأماكن للعجزة والقاصرين في الحافلات والقطارات، إرجاع الأغراض الضائعة إلى أصحابها...
وأغلبية المهاجرين عمال أجراء، والبعض يشتغل في وظائف تجارية كالمطاعم والفنادق، والقليل منهم يشتغل في الإدارات، وهناك آخرون يعدّون على الأصابع يشتغلون في مناصب عليا، وهناك من لا يعمل إطلاقا، وهناك طلبة كثر جلبهم الإشعاع الثقافي والحياة الحرة إلى فرنسا.
إذن هناك هجرة بأعداد كبيرة خاصة من الجزائريين إلى فرنسا فما هي أسبابها؟
هناك عدة أسباب يجملها نبهاني في النقاط التالية:
- البؤس: لأن الشباب لم يعد قادرا على تحمل العيش بالقليل كما كان أجداده، فالشاب يريد أن يأكل، يلبس، يتزوج ويسافر وبالجملة يريد أن يتحرّر من عقبات مجتمع قروسطوي ساكن.
- بروز عدم التفاهم مع أفراد الأسرة لانعدام قنوات الحوار خاصة مع الآباء، لاختلاف وجهات النظر إلى الحياة ومشكلاتها.
- انعدام العدالة، فهم متأثرون بما أنشأه الأوروبيون في مجتمعاتهم ولم تمتدّ يدهم إلى تخليصهم مما هم فيه، فكان المخرج الوحيد هو الهجرة، حيث الحياة الحرة، والكريمة وهو لا يطالب بأكثر من ذلك.
ولكن هل الهجرة هي الحلّ السحري لمشاكل الجزائريين؟
يجيب نبهاني بأنها أبعد من أن تكون الحل الشجاع، وليست طريقا لحياة أفضل، ورغم ذلك ينبغي لفرنسا أن تهتم بالجزائريين وكل سكان شمال إفريقيا المهاجرين إلى فرنسا بتوفير التعليم والسكن، وهذا لا يمنع من بناء جسور التواصل بين المجتمع الفرنسي ومجتمعات شمال إفريقيا رغم كل الاختلافات الموجودة بينها.22
- نقد البنية البطريركية للأسرة المسلمة:
ينتقد نبهاني حبس المرأة في البيت، وعدم تعليمها، وقد استعرض في كتابه "الأفارقة يتساءلون" الذي صدر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين تفاصيل حياة المرأة في ثقافات شمال إفريقيا منذ الطفولة مرورا بالمراهقة إلى سن الزواج ثم بعد الزواج في بيت زوجها،23 كما ينتقد البنية الأبوية للأسرة من خلال أسرة جدّه التي كانت تتكون من حوالي عشرين فردا: زوجتاه الاثنتين وأبنائهما، إخوته وأخواته وأبنائهم. وهذا طراز قديم ينتج الكثير من المشاكل التي تنغص حياة أفرادها، لأن صراع الأجيال سنة ثابتة لا يمكن إلغاؤها، فالصراع صراع بين تصورات مختلفة عن الحياة، تصورات تقليدية وأخرى حديثة.
الذَكر في المجتمعات الإسلامية له الغلبة، لأن المستقبل يستند إلى قوة الذكور، وهم يتمتعون بضعف الميراث المخصص للفتاة، لكن في السنوات الأخيرة تميّزت الأنثى عندما نافست الذكر بقدراتها. ورغم ذلك لا زالت المرأة لم تكتسب كل حقوقها التي تستحقها، إذ مازالت بعض مظاهر الشذوذ كاعتبارها موضوعا للمتعة والإنجاب، وتعدّد الزوجات لم يتم التحكّم فيه نهائيا أضف إلى ذلك العنف الممارس ضدها.24
وبخصوص الخوف مما يسمى بتحرير المرأة، فلا مبرر له خاصة إذا كان قائما على أساس تربوي مُعدّ مُسبقا، والإسلام لا يعارض هذا التحرير إذا كان قائما على الهدي الإسلامي الصحيح، وليس على العادات البائدة التي توارثتها المجتمعات منذ القدم وتنسبها زورا إلى الإسلام.25

- خاتمة:
هذه إذن البعض فقط من المشكلات التي تناولها نبهاني في كتاباته على امتداد ثمانية عقود من العطاء، هي في الحقيقة مشكلات جديدة قديمة، بعضها لازال مطروحا إلى يومنا هذا منذ أن أبدى رأيه فيها في الخمسينات من القرن العشرين كمشكلة المرأة، الهجرة، وتحجّر النموذج الإسلامي مقارنة بالنموذج