1. بقلم أحمد ولد الصديق:


  2. تاريخ الإضافة: الإثنين, 24 آب/أغسطس 2015 17:45
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيبقلم / أحمد ولد الصديق
    لو يَــرُدُّ القريضُ حِـبّاً فقيدا

    لـملأنا الفـَضَا قريضاً فريدا
    ولو أَنّ البكاءَ يوماً على حِبٍّ
    فقيدٍ يردُّ حِباً فقيدا
    لبكينا وكان أمراً خفيفاً


    وسريعاً ووافراً ومديدا
    ولِعَـيـْنٍ لم تـَـبْـكِهِ بدماءٍ
    قلتُ: كوني حجارةً أو حديدا (*)

    ***
    لكن لا بأس في هذه الأيام التي توافق "ذكراه"- وكيف أذكـُرُهُ إذ لستُ أنساه!؟- إن حانت مِنّي عبرة أو تنهّدتُ بأحاديث أدبية جمعتني به أو كنت شاهدا عليها، ولا أقول إنني "أحيي" الذكرى؛ فتباريحها لا تزال متقدة، والمكبَّرُ- هو أيضاً- لا يُكبَّر ثانياً، "ما عظّمناهْ اعلَ السبحانْ....".

    كان من شأنه رحمه الله أنّ القاموس المحيط هو رفيقه الدائم والصاحب في السفر والحضر.. أسأله عن كلمة فيجيب بنص القاموس فيها حرفياً ولو طال أحيانا، ثم يأمرني بجلب الجزء الذي وردت فيه من القاموس لأقف عليها بنفسي في مصدرها.

    وإبان الطفولة الأولى سألته مرة عن الجزء الذي يريده للبحث عن كلمةٍ ما، فأجاب ممتعضا:
    اخصارتك فيها! (كيف تسأل سؤالا كهذا؟).

    وأضاف: أَبَأَ حِـبْـرٌ وأُثـَيْعٌ صَؤُلا / أوائلُ القاموسِ يا مَن سألا!

    فحصل الإعراب والتمييز، وكانت سرعة معرفة المجلد الذي تتضمنه المادة جزءا لا يتجزأ من "فتحة" القاموس أيامَ المجلدات الأربعة سقياً لها ورعياً من أيام.

    وقد اشتهر بأنه يحفظه كاملا، فسألته مرة: الناس يقولون إنك تحفظ القاموس، فهل ذلك صحيح؟

    فأشاح بوجهه قائلا: "الناس يقولون أموراً كثيرة، منها أنني عالم بالنحو والفقه وغير ذلك، لكنّ العلم الوحيد الذي يمكنني أن أدعي معرفته هو علم العَروض".

    وقد كان فعلاً ذا أذن موسيقية عجيبة، وظهر ذلك بجلاء منذ أيام الطلب الأولى لدى المرابط اعمر ولد محّم بَوبَّ، الذي درس عنده اللغة والأصول، وكان المرابط يقرض الشعر بلا مثالٍ وينسجه ويُحكم قوافيَه ثم يأتي من أقصى المضارب يسعى بحثا عن التلميذ الشاب الملتحق حديثا بمحضرته "محمد عبد الله" ليعرض عليه إنتاجه، فيبدي له الوالد ملاحظاته،

    ثم يسأله المرابط اعمر: من أي بحر هذا؟
    فيجيب الوالد: لا أعرف!

    فيتعجب لمرابط من قدرة الفتى على تصحيح الشعر دون أن يلم بنظرية العروض، إذ لم يكن الوالد حتى تلك الساعة قد درس هذا الفن، لكنْ يكفي أنّه نشأ في بيت العز والجدل، ودوحة العلم والعمل، متفيئاً ظلال "العنصرِ المايابي، طوبى له وأحسن المآبِ"، متخيِّراً من فاكهةِ ذلك الخِـوانْ، حتى يقيم الشعر على أقوى وأقوم الاتزانْ.


    على أنه درس العَروض لاحقا وبَرَعَ فيه، ولم يكن ذلك غريبا على من وُهب تلك الحاسة الموسيقية الفذة، فأتاه هذا العلم منقادا.

    وفي مجلسٍ صافٍ ويومٍ صفا، إبان عمله أستاذا بمعهد أبي تلميت في الستينيات، أنشأ الوالد بيتين في وصف شايِ مُقيمٍ (قـَيـّام) يدعى حمّاده، فقال:

    شايُ حمّادَ يا له من مُقيم / قد سَبَى كلَّ ظاعنٍ ومُقيم
    وصَفـَا منهُ اللونُ والطعمُ حتى / قد حسبناهُ من شرابِ النعيم

    وقد أتى عليّ حينٌ من الدهر أتخيـّل فيه من شدة ولعي بموسيقى الشعر أنني أستطيع، وأنا بعدُ غَضُّ الإهاب لم أعدُ السادسة عشرة من عمري، أن أضع نظرية عروضية جديدة تفوق ما جاء به الخليل بن أحمد الفراهيدي عملاقُ العربية وموسيقى الشعر! (ولعلي أتحدث لاحقا إن شاء الله عن بذور تلك الفكرة)،

    وكان أن أسمعني الوالد حينها ذينكم البيتين، فقلت له إن رأيي أن الخليل كان يسعى في نظريته إلى أكبر قدر من العموم والشمول، فابتكر الدوائر وغيرها، لكنه بذلك أيضاً أقام علاقات تبدو لي شديدة النظرية بين بحور لا علاقة فعلية بينها موسيقياً في نظري، أو سمعي بالأحرى، لذا أرى أن مستفعلن المخبونة، أي: مُتـَـفـْـعلن، هي الأصل في الخفيف ولا ينبغي أن يُعدَل عنها إلا لضرورة مُلجئة، وأنّ الأحسن عندي أن يغيِّر البيتَ الأخير قليلاً ليكون:

    وصَفـَا اللونُ منهُ والطعمُ حتى / قد حسبناه من شراب النعيم

    فأبدى إعجابه بالاقتراح، ثم تبسم ضاحكا وقال: لكن المشكلة أني قلتهما هكذا وقت مناسبتهما قبل مولدك بكثير! (فت گلتهم ذاك كيفهم).

    أي أنه لا يمكن تعديلهما "بأثر رجعي" كما يقال، فقد رواهما على تلك الحال من رواهما.

    ***
    وبعد ذلك بسنوات (عام 2001 تقريبا) نزل به ضيوفٌ، وكنت أعد الشاي كالعادة في طرف المجلس، ثم حضرت المائدة وإذا فيها بعض "السلطة" (صَلاتْ كما تسمى محلياً) فبدأ يحدثهم عن نظرته الأولى إلى هذه "النباتات" في أسفاره المبكرة إلى الخارج، وكيف كان يعافها لأنها ليست بأرض قومه، أو ربما كانت فيها لكن لا تأكلها إلا المواشي.. وقال إنه نظم شعوره الأول تجاهها في بيتين:

    اجتنبْ ما استطعتَ أكلَ الصَّلاتِ / إنّ أكلَ الصَّلاتِ غيرُ مُوَات (مُوَاتٍ)
    وإذا لم تـَجِــدْ طعاماً سواها / فاشتغلْ بالصيامِ أو بالصلاةِ!

    ثم أردف: سبحان الله! تغير الأمر تماما بعد حين، فأصبحتُ أستلذها بعد أن كنت أعافها، وتأكد ذلك حينما عرفتُ فوائدها الصحية.

    فسأله أحد الضيوف: هل اعتذرتَ إليها بشيء من الشعر؟
    فقال: "لا، للأسف، مع أنها تستحق"..

    فقلت أنا حينها ارتجالاً بالنيابة عنه:

    (لا تدعْ ما استطعتَ أكلَ الصَّلاتِ/ إن أكلَ الصَّلاتِ جِدُّ مُوَات
    وانتظرْ وقتـَها، أليسَ رِباطاً: "انتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ"؟)

    مضمّناً الحديث المعروف: "...وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"..

    فـ"حاز" البيتين رحمه الله..

    ثم هَمْـهَمَ شخصٌ في أقصى المجلس مستنكراً عليّ بدءَ الشطر الأخير بهمزة وصل (كلمة: انتظار) زاعماً أن هذا غيرُ معهود، فـ"انحاز" إليّ الوالد رحمه الله وأجابه فوراً على البديهة:

    لا نَسَبَ اليومَ ولا خـُـلَّـةً / "اتسعَ" الخـَرْقُ على الراقع!

    وهذا شاهد نحوي معروف، وشطره الثاني يبدأ بهمزة وصل (اتسع)..

    وفي هذا الجواب ما فيه من تنبيه على أن المعيار الـمُعرِب للنُصرة في القضايا العلمية هو الحقُ لا سواه، فلا نَسَبَ في ذلك ولا خـُـلَّـة.

    (وعلى ذكر أجوبته المسكتة، أذكر من طرائفها أن أحد المتحذلقين من أهل المشرق سأله - منكِـراً لا مستفهماً - عن نقل حركة الهمزة الذي يكثر في شعر الموريتانيين ولغتهم عموما،

    وقال: نحن لا نعرف هذا!
    فأجابه - رحمه الله - بهدوئه المعتاد:
    "ومَنْ أنتمُ، إنـّا نسينا من انتمُ، / وريحـُكـُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصرِ؟"

    وأضاف: ذاك شاهد المسألة من كلام العرب.

    ثم سألتـُه لاحقاً عن ذلك، فأكد أن الشاهد جاء عفو الخاطر دون قصدٍ مسبق منه لهذه الضربة القاضية).

    ***

    وفي صيف العام التالي زرت معه رحمه الله ولاية آدرار للوقوف على مدنها التاريخية بدعوة من أخينا الكريم الـمُفضِل: يحيى ولد سيد المصطف وهو إذاك والي آدرار، وعلم بقدومنا الأستاذ الأديب بدّنّ Mohameden Ould Sidi Bedena فجاء من شنقيط، وهو حاكمها حينئذٍ، إلى أطار حيث نحن في دارة يحيى العامرة.. وقد حدّث بدّنّ عن الوالد وتلك الزيارة فقال:

    [كان رحمه الله أستاذي في إعدادية البنين في انواكشوط بداية السبعينات... لقيته آخر مرة في أطار في ضيافة الوالي يحي بن سيد المصطف. جئته من مدينة شنقيط للسلام وهو يتأهب لزيارة تنيكي فارتجلت في مدحه ما توهمته قطعة شعر عرضتها على ابنه المرافق فسألته عن بحرها (إذ كنت ولا أزال أجهل العروض) فأجابني ببراءة: إلا أن تكون من البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي! فرويت النكتة ليحي فضحكنا وضاعت جهودي كما ضاع حق الشيخ علي. رحمه لله رحمة واسعة.
    أولئك أخوالي نماني إليهمُ == كما العلم يُنمى صالح نجل صالح]. ا.هـ.

    وأشكر للأستاذ الأديب بدن سعة صدره وتحمله نزق مراهقتي آنذاك قبل نحو 13 عاماً..

    وقد وبّخني الوالد جداً على ذاك التصرف حين علم به، وذلك درس أخلاقي مهم في التواضع وعدم الاغترار بالعلم أو التباهي به، وفي أن الأعمال بالنيات فمن كان قصده الإكرام لا يعامل بنقيض قصده.

    رحمه الله وأجزل له المثوبة.

    ________
    (*) الأبيات للمؤرخ والأديب الفذ: المختار ولد حامدٌ