تتنوع أعراض وأمراض المجتمعات بتنوع المكان والزمان. لكن المتبصر في الفهم والإدراك والعالم ببواطن الحوادث والتاريخ يدرك أنه مهما ظهر في عصرنا من أصناف المنكرات فلن تجد لها على مدار التاريخ أكثر مما كان حادثاً في أيام الجاهلية.

والعجب العجاب أن القرآن الكريم قد استطاع أن يقضي على كل هذه المنكرات بشيءٍ واحد، غرس الإيمان في القلوب، وجعله مسيطراً ومهيمناً على النفوس. فأصبحت النفوس مِلْكاً للمليك القدوس، لا تفعل إلاَّ ما يأمرها به الله، وتنتهي بإرادتها طواعيةً واختياراً عما نهى عنه الله، لأن هذا موجب الإيمان كما بيَّن كتاب الله، وكما وضَّح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

وليس هذا فحسب أنه قضى على ما سبق، أبقى خيره وأزال شره، بل بنى بناءاً جديداً واستطاع أن يحول أهل الشظف والبداوة إلى قادة مرموقين وسادة بالحق فاتحين ومربين مهيمنين، وفى سنوات قليلة تحولت الأحوال وتبدلت الفعال والأقوال وصار الأمر كما لم يطرأ بالخيال

ولذا فلا عجب أن جماعة من الفلاسفة والمفكرين الغربيين درسوا تأثير الرجال العظماء في الخلق فاختاروا أفضل مائة رجل أثروا في البشرية، فللأسباب التى ذكرنا أعلاه قالوا العظماء مائة وأولهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فمهما صرنا إليه اليوم من أمراض وأعراض أصابت بالنكبة البلاد والعباد، فإن التاريخ يعيد نفسه، ولا صلاح لها إلا بمنهج الهُدى والرشاد، الذي وضعه النَّبِىًّ المصطفى صلى الله عليه وسلم وسار عليه أئمة الإرشاد، وستظل المسيرة إن شاء الله إلى يوم الميعاد.

ولذلك بشرنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من بعده الواحد تلو الآخر بأن حالنا سينصلح ونرجع إلى سدَّة هذا الأمر، بإتباع نفس منهج الهدى والرشاد وبنفس الطريق فقال سيدنا أبوبكر رضي الله عنه مثلاً: {وَإِنَّ هذَا الأَمْرَ الَّذِي هُوَ أَمْلَكُ بِنَا لا يَصْلُحُ آخِرُهُ إِلاَّ بِمَا صَلُحَ بِهِ أَوَّلُه}، وقالها أئمة كثر وولاة في خطبة تولِّيهم، وبشَّر بها الإمام مالك ونقلت عنه كثيراً:{لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها}{1}

وأخبر حَبيب القلوب صلى الله عليه وسلم ووعد الأمة أن الله سيصلح أحوالها ويكشف ما نزل بها وقال مبشراً: {ويكثر المال ويفيض، حتى يحمل أحدهم صدقته في حجره، فلا يجد فقيراً يأخذها منه}{2}، أول المفاهيم التي نريد ترسيخها هو أهمية الأخلاق الإيمانية، فلا نجاح بدونها.

فقد أعلا ديننا ونبيّنا وقرآننا شأن عبادةً يغفل عنها كثيرٌ من المسلمين، بل ولا يظنونها أنها عبادةً ، بل هي أعلى عبادة يقوم بها المسلم لخلق الله، وينال بها رضا مولاه، وهي التخلقّ بأخلاق الله والتخلقّ بأخلاق كتاب الله وأخلاق حَبيب الله ومُصطفاه، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية العُظمى من الدين هي الخلقُ الحسن فقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ}{3}

وعندما مدح الله نبيه في القرآن لم يمدحه على العبادة لله، ولا على أى عملٍ يقوم به في تبليغ رسالة الله، ولكن مدحه بالخُلق الحسن الذى قال له فيه مولاه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم4
جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخُلُق العظيم هو سبب كل فتحٍ وكل تكريم، فمن أراد أن يكون في ميزان حسناته ثقيلاً يوم الدين ماذا يصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: {مَا من شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ}{4}

ومن أراد أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يكون في جوار سيد النبيين والمرسلين، ما العمل الذى يوصلك لذلك؟ وما العمل الذى يقربك لذلك؟ قال في ذلك حَبيبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقا ً}{5}
ومن أراد أن يُحبه الله وأن ينال فضله عز وجل ورضاه؛ ماذا يصنع ليحبه الله؟ قال في ذلك حَبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ للّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً. مِائَةً إِلاَّ وَاحِداً. مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ}{6}

فالخُلق الحسن مع خلق الله هو أفضل العبادات وأعظم النوافل التي يتقرّب بها العبد إلى مولاه، ويُثّقّل بها ميزان حسناته يوم الدين، ويكون فيها وبها مع النبى المُصطفى صلى الله عليه وسلم ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما أحوجنا في مجتمعنا الآن أجمعين إلى الخُلق الحسن مع جيراننا، ومع زملائنا ومع أهل بيتنا ومع عشيرتنا ومع ذوي قرابتنا ومع المجتمع أجمعين، لأن مجتمع المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عُضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

وهنا يعلمنا النَّبِيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم ماذا يجب أن يكون عليه كل مسلم مِنْ الخُلُقِ العظيم، فالمسلم لا ينتقم ممن عاداه، بل يعفو ويصفح إذا مَكَّنَهُ الله منه، تأسِّيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون هم المعنيون بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} وهذه هي الدرجة الدُّنيا {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} وهذه هي الدرجة الوسطى {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران134 وهذه هي الدرجة العليا، أقل المؤمنين مَنْ يَكْظِمُ غَيْظَه، ولا يشفي غيظه في مؤمن أو مسلم، لأن المؤمنين أخوة، كما قال الله في شأنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات10

وبيِّنَ النبي حقيقة المسلم، فقال: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده}{7}
وأخرج المسلم الذي يتظاهر بالإسلام ولسانه لا يكف عن الآثام من المعيَّة المحمدية، وقال: {ليس المؤمن بسبَّابٍ ولا لعَّانٍ ولا فاحشٍ ولا بذئ}{8}
وإنما سِمَة المؤمنين كما قال ربُّ العالمين: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الحج24

ولذا فالرسول صلى الله عليه وسلم رغم أذية الكفار البالغة له إلا أنه قال لملك الجبال:
{إنما أرسلت رحمة، إنِّي أرجو أن يُخرج اللهُ مِنْ أصلابهم مَنْ يُوَحِّدُ الله عز وجل}{9}


{1} عن مقولة لأبي بكر: رواه ابن عساكر عن خطبة لأبي بكر رضي الله عنه في جامع المسانيد والمراسيل وعن مقولة لمالك بن أنس فى مجموع فتاوى بن تيمة، وأضواء البيان وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان {2} رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان وابن عساكر عن أبي هريرة {3} سنن البيهقي الكبرى عن أبي هريرة {4} رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء {5} رواه الترمذي عن جابر {6} رواه البخاري عن أبي هريرة {7} رواه مسلم والبخاري وأحمد عن جابر {8} رواه أحمد والبخاري في الأدب وابن حبان والحاكم عن ابن مسعود {9} رواه البخاري ومسلم وأحمد والبزار عن عائشة