معارضات الشعراء للمليحة في الخمار الأسود
وتعدد ألوان الخمار
محمد عيد الخربوطلي
برع كثير من الشعراء في معارضة قصيدة لشاعر معروف انتشرت قصيدته في الآفاق وتناقلها الراحلون وحفظها كل من له اهتمام بالأدب ومن هذه القصائد قصيدة ياليل الصب متى غده؟ وقائلها أبو الحسن الحصري القيرواني الضرير من شعراء القرن الخامس الهجري، هذه القصيدة افتن في معارضتها الشعراء وتنافسوا في ذلك كثيراً، فقد عارضها القمراوي والأرجاني وأحمد شوقي وابن الأنبار وإسماعيل الزبيري اليماني ونسيب أرسلان، والزهاوي وزينب عبد السلام حفيدة شقيقة الشاعر إسماعيل صبري.
ومن الأشعار التي لاقت استحساناً كبيراً وقوبلت بالمعارضة - أبيات الدارمي-، يذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني أن تاجراً كوفياً نزل المدينة ليبيع أنواعاً من الخمر النسائية الملونة، فباعها كلها، إلا السود وكان صديقاً للدارمي المغني الشاعر المعروف بظرفه في مكة فشكا إليه كساد خمره السود وكان الدارمي قد عزف عن الغناء والشعر وتنسك ولكنه أجاب صاحبه وقال شعراً في الخمار الأسود جعل النساء يقبلن عليه فباعها كلها، والأبيات التي قالها الدارمي مطلعها.
قل للملحية في الخمار الأسود
ماذا صنعت بزاهد متعبد

قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجد

وغنى ذلك بصوت شجي فأقبلت النساء على الخمر السود.
والأبيات كما جذبت قلوب النساء للشراء أثارت إعجاب الشعراء على مر العصور اللاحقة فقاموا بمعارضتها بغية المماثلة أو التفوق عليها، مغيرين في الألوان بما يتناسب مع أذواقهم، أو مبقين على اللون الأسود.
ولا يشترط في المعارضة عدد الأبيات وإنما الاتفاق في الوزن والروي والموضوع.
وممن عارض أبيات الدارمي:
1-كشاجم الشاعر, شاعر عباسي توفي 360هـ عارض أبيات الدارمي بأبيات وصف في مطلعها الخمار بالأكحل فقال:
قل للمليحة في الخمار الأكحل
كالشمس من خلل الغمام المنجلي

لا تقبلي قول الوشاة، فإنني
لم أصغ فيك إلى مقال العذّل

2- الباقلاني المؤدب محمد بن عبد الملك, وقد ذكر ذلك الصفدي في الوافي للوفيات، فقد وصف الخمار بالمذهب في معارضته للدرامي فقال:
قل للمليحة في الخمار المذهب
ذهب الزمان وحبكم لم يذهب

وجمعت بين المُذهبين، فلم يكن
للحسن في ذهبيهما من مذهب

نور الخمار ونور وجهك نزهة
عجباً لخدك كيف لم يلتهب

وإذا بدت عين لتسرق نظرة
قال الجمال لها: اذهبي لا تذهبي

وأظهر في أبياته قدرته البديعية التي مكنته من المجانسة بين الألفاظ، فاستغل الدلالات المختلفة لكلمة ذهب أحسن استغلال، مما يؤكد حسن شاعريته (لا تذهبي = لا تهلكي).
3- التنوخي أبو علي المحسن بن القاضي, عارضها في بيتين على ما ذكره الثعالبي في يتمية الدهر مطلعهما:
قل للمليحة في الخمار المذهب
أفسدت نسك أخي التقي المترهب

4- الشاعر عبد الله الحامدي وهو من واسط عارض أبيات الدارمي بعدة أبيات ولكنه وصف الخمار باللون المشمشي – الأصفر- وهذا الصفار غير صفار الذهب ففي صفار المشمش قليل من الحمرة وهنا تأتي درجة الصفرة أروع وأجمل وأليق بالحسناوات فقال:
قل للمليحة في الخمار المشمشي
كم ذا الدلالُ عدمتِ كلّ محرّش

يا من غدا قلبي كنرجس طَرَفُها
في الحب، لا صاحٍ، ولا هو منتش

5- محمد بن حيدر بن علي هو الآخر عارض أبيات الدارمي ولكنه ذكر أن لون الخمار معصفر فقال أبياتاً منها:
قل للمليحة في القناع العصفري
يا شمس ها شفق الشروق فأسفري

أو ما اكتفيت بورد خدك روضة
عن روضٍ ورديّ اللباس المزهر

هذا القناع سما بفرقك مَفخراً
عن مِغفرٍ قد ضم هامة قيصر

إلى آخر الأبيات وكلها شكوى إلى من أسرت قلبه وأخذت عقله وفتنته ولكنه عبر بالقناع بدل الخمار.
6- وهذا علي بن أحمد بن معصوم شبه القَباء باللون الأطلس وهو لون ما بين الأبيض والأسود يشبه لون الذئب وابن معصوم من شيراز ولكنه ولد بمكة وله مؤلفات منها ديوان شعره وسلافة العصر في محاسن أعيان العصر وهو من القرن السادس الهجري يقول:
قل للمليحة في القَباء الأطلس
أفسدت عقل أخي التقي المتقدّس

أو ما كفاك لباسُ حسنك والبها
حتى برزت لنا بأبهى ملبس

إن كان لا يرضيك إلا فتنتي
فرضاك فرض يا حياة الأنفس

هذا محبك ناصباً أحشاءه
غرضاً لأسهم مقلتيك فقرطسي

ومن المعروف أن الخمار غير القباء والجامع بينهما أن الخمار يتخمر به والقباء يتمنطق به، فكلاهما مشتمل على غيره، فالقباء ثوب يلبس فوق الثياب ويتمنطق به.
7- وهذا شاعر الأحساء أحمد بن علي الوهيـبي التميمي المتوفى 1285هـ كان قاضياً ولا يرى حرجاً في تغزله فعارض الدارمي وغير الخمار بالقميص والأسود بالأحمر فقال قصيدة منها:
قل للمليحة في القميص الأحمر
ماذا فعلت بعابد مستبصر

ترك الصبابة للصِّبا متسلياً
عن ذكر كل غزالة أو جؤذر

حتى وضعت عن محيّاك الغطا
فانجاب عن بدر منير مقمر

فدهشت من ذاك الجمال وحسنه
ووقفت وقفة مولع متحيّر

حسن به شغف الفؤاد وهاج لي
شجناً فقلّ تجلدي وتصبري

نلاحظ من شعره أنه لم تعترضه مليحة بقميص أحمر ولكنه قام بمعارضة الدارمي فشعره شعر العلماء الذين يصفون من الداخل.
8- ويذكر ياقوت الحموي في معجمه للبلدان أن منتجب الملك محمد بن أرسلان عارض أبيات الدارمي بعدة أبيات ومنها في وصفه للخمار باللون الأحمر فيقول:
قل للمليحة في الخمار الأحمر
لا تجهري بدمائنا وتستري

مُكنت من حب القلوب ولاية
فملكتها بتعسف وتجبر

إن تنصفي فلك القلوب رعية
أو تمنعي حقاً فمن ذا يجتري

سخرتني وسحرتني بنوافث
فترفقي بمسخّر ومسحّر

9- وكذلك الشاعر اللبناني المهجري إلياس طعمة توفي 1360هـ يعارض أبيات الدارمي ويصف المليحة مرتدية ثياباً حريرية حمراء ولكنه تمسك بمطلع الشعر فقال:
قل للمليحة في الحرير الأحمر
ماذا فعلت بشاعر متكبر

قد كان يرعى النجم في فلك العلا
واليوم يرعى منك عشق الجوهر

وقال:
فإذا رأيت من المحب تذللاً
بالله يا حسناء لا تتكبري

10-ويقول محمد العيد الخطراوي شاعر حجازي معاصر في ديوان همسات في أذن الليل بعد أن تعلق بشعر الدارمي فعارضه بأبيات يصف الخمار فيها باللون الأزرق:
قل للمليحة في الخمار الأزرق
ماذا فعلت بناسك مستغرق

قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بكل تأنق

11- ولكن هناك شعراء عارضوا أبيات الدارمي ولكن تخلصوا من المطلع قل للمليحة
فهذا الشريف المرتضى يقول المليحة شيئاً آخر فيصدر معارضته بقوله:
ولقد قلت للمليحة والرأ
س يصبغ الشيب ظلما خضب

لا تريه مجانباً للتصابي
ليس بدعاً صبابة ومشيب

12- والشاعر يحيى توفيق حسن له قصيدة بعنوان ذات الرداء الفستقي يعارض فيها قصيدة صديقه الشاعر الليبي راشد الزبير السنوسي الذي أهداه إليه بعنوان الرداء الفسدقي عام 1962م وقال الفسدقي ولم يقل الفستقي فعارض قائلاً:
يا عاشقاً ذات الرداء الفسدقي
ومتيماً بهوى الشباب الرَيّق

ذكرتني ليل الصبابة والجوى
والآه تفضح لوعتي وتشوقي

ذكرتني سهدي وأوهام الرؤى
ووجيت قلبي بالشجا المتدفق

ويقول فيها:
أضنت فؤادي بالصدود وبالجفا
حتى ذوى مني بشابي الريق

ونقول أخيراً… في جميع الأحوال يبقى الفضل للسابق على اللاحق، فمقطوعة الدارمي حركت ملكات الشعراء وبعثتهم على محاولة للاحتذاء ودفعتهم إلى الإبداع فقالوا شعراً عارضوا فيه شعره أو قلدوه أو احتذوه.
المصادر
1- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني جـ3 ص45
2- يتيمة الدهر للثعالبي 2/346
3- نفحة الريحانة للمحبي
4- معجم البلدان لياقوت الحموي
5- ديوان -قصائد ابن طعمة- إلياس ابن عبد الله طعمة.
6- الشهاب – للشريف المرتضى ص82.
7- مجلة الفيصل عـ 330.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي