شارع بغداد.. معلم عمراني دمشقي عمره 70 سنة


أحبّه العراقيون لحمله اسم عاصمتهم واجتذب شركات الإنتاج التلفزيوني




دمشق: هشام عدرة
في معرض للصور القديمة من أرشيف أحد هواة التراث، أقيم العام الماضي بدمشق، احتفاء باختيارها «عاصمة للثقافة العربية».. كان «شارع بغداد» ذلك الشريان الحيوي الذي يتوسط العاصمة السورية بطول 2 كلم حاضرا بقوة في المعرض. الصور التي تعود لأكثر من سبعين سنة تشهد على عراقة هذا الشارع. وقبل خمس سنوات، في ذروة استقبال دمشق آلاف العراقيين النازحين، وفي مكتب عقاري يقع بالقرب من ساحة السبع بحرات، وسط دمشق، كان هناك رجل مسنّ مع زوجته يجلسان في المكتب وصاحبه يجري بعض الاتصالات، وعندما انتهى صاحب المكتب من مكالمته الهاتفية قال للعراقي المسنّ «وجدت لك طلبك منزلا صغيرا في حي الديوانية وهو يتفرع مباشرة من شارع بغداد ولكن الأجرة مرتفعة قليلا». فجاء الردّ باللهجة العراقية «ماكو مشكلة.. المهم أن يكون في شارع بغداد أو بالقرب منه». وبالفعل استأجر الرجل المنزل مع أسرته.
صاحب المكتب العقاري، يشرح قائلا «يا أخي يأتي الإخوة العراقيون ليستأجروا منزلا وطلبهم الأساسي أن يكون في شارع بغداد. فهم يحبّون هذا الشارع لسببين: الأول لأنه يحمل اسم عاصمتهم، والثاني لتوسطه مدينة دمشق وقربه من جميع الأسواق والأماكن العامة. ولذلك لاحظت أن الميسورين من المستأجرين العراقيين يستأجرون في شارع بغداد بينما يستأجر متوسطو الحال والفقراء في الضواحي مثل جرمانا والدويلعة. ولكن شارع بغداد، لا يجتذب العراقيين فقط، كما قال صاحب المكتب العقاري، بل أحبه أيضا أصحاب شركات الإنتاج التلفزيوني ففتح العديد منهم مكاتبهم في أبنيته. وألفه الفنانون والممثلون السوريون فاستأجروا مبنى قديما في بدايته وحوّلوه إلى مقر نقابتهم، وهكذا اكتسب الشارع شهرة إضافية لوجود نقابة الفنانين السوريين فيه. وبجانب كونه محط أنظار مخرجي المسلسلات التلفزيونية الذين صورّوا في شققه أحداث عدد من الأعمال التلفزيونية المعاصرة الكوميدية والاجتماعية، أسّست فيه وزارة الثقافة قبل نصف قرن تقريبا مسرحا للعرائس ما زال يقدم عروضه للأطفال في مبناه القريب من مبنى نقابة الفنانين. وخارج نطاق الفن وأهله، توجد في شارع بغداد اليوم مكاتب العديد من الشركات التجارية والإعلانية لموقعه المميّز في مركز العاصمة. فعلى الرغم من قدم مبانيه نسبيا بالمقارنة مع مباني وشوارع الأحياء الحديثة مثل المزة وتنظيم كفرسوسة وغيرها، غدا الشارع مقرا لمكاتب شركات تجارية كثيرة، في حين تشكّل محلاته خليطا لبائعي الوجبات السريعة والموبيليا ومستلزمات الحمّامات التي اشتهر الشارع بها، وبالأخص الفاخر منها. كذلك انتشرت في الشارع وتميز بها عن غيره من شوارع دمشق المكاتب العقارية التي وجدت في توسطه دمشق مكانا مناسبا لاستقبال الزبائن من الباحثين عن الشراء أو البيع أو الاستئجار. على صعيد آخر، وجد الباعة الموسميون الجوّالون في الشارع ضالتهم المنشودة فصار يقدم «موزاييك دمشقيا وبانوراما جميلة لباعة الصبارة والتوت الشامي والعرانيس والكستناء والأرضي شوكي (الأنكينار).. حسب المواسم والفصول.


ومع أن معظم مباني الشارع تعود إلى نصف قرن من الزمن، فإنه ما زال يتمتع بقدرة على جذب كثيرين من الدمشقيين والآتين من المحافظات الأخرى للسكن فيه. ومما لا شك فيه أن بين أبرز ميزات شارع بغداد أنه يربط دمشق القديمة بالجديدة. فهو من يمين الشارع يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر، وعبر حارات صغيرة مثل القزّازين، بحارات دمشق القديمة مثل العمارة والعقيبة وباب توما. وفي بدايته من جهة السبع بحرات تفصله عن حي ساروجة القديم حارة عين الكرش. ويمتد شارع بغداد من ساحة السبع بحرات الشهيرة (التي بنيت قبل عشرات السنين وتتصل بشارع طولي مع ساحة المحافظة قرب سوق الصالحية وحتى ساحة محطة الحجاز التاريخية)، ويسير بشكل طولي، ليتقاطع معه شارع الثورة القادم من حي المزرعة الدمشقي والواصل إلى سوق الحميدية التاريخي. وينتهي شارع بغداد بحي القصّاع، وتحديدا بساحة التحرير، التي تتفرع منها شوارع عديدة تصل إلى باب توما وساحة العباسيين وسوق الهال في منطقة الزبلطاني. ويذكر المؤرّخون، ومنهم الراحل قتيبة الشهابي، أنه كان يخترق مجموعة من البساتين التي كانت موجودة في هذا الموقع وكانت على التتابع من الشمال إلى الجنوب «الدور»، و«العمادية» و«الرسام» وأخيرا «بستان الباشا». وأنه كان للثورة السورية أثر كبير في وجود الشارع الذي شقته القوات الفرنسية عام 1925 لغايات عسكرية أهمها السيطرة على بساتين تلك المنطقة التي كانت ملجأ للثوار، ومنطلقا لهجماتهم على القوات الفرنسية. ولتسهيل حركة هذه القوات باتجاه الغوطة الشرقية وسرعة إيصال الجرحى الفرنسيين إلى المشفى الفرنسي (مستشفى القديس لويس) في منطقة القصّاع. أما عن أشهر مباني الشارع، فهناك جامع لالا باشا الذي شيّده أحفاد الوزير لالا مصطفى باشا، من آل مردم بك، قبالة معهد اللاييك عام 1936، بدلا من الجامع القديم الذي كان قائما في حديقة سامي باشا مردم بك، وهدم عند تحويلها إلى سوق الهال. وراهنا يطل على الشارع جامع لالا باشا بمبناه الضخم الجميل بعدما أعيد ترميمه وتوسيعه قبل بضع سنوات، وافتتح في عام 2007، وهو يقوم على مساحة تصل لأربعة آلاف متر مربع ومن ثلاث طبقات. وكما يذكر مصطفى عارف، أحد أصحاب محلات شارع بغداد المجاورة للجامع، لـ«الشرق الأوسط»: كما سمعت من والدي وجدّي فإن الجامع قديم، وبني قبل عام 1920، وأخذ اسم الوزير لالا مصطفى باشا. وكلمة «لالا» تعني «المدلل» في اللغة التركية. وزار الجامع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد عام 1965، حيث صلّى فيه وقرأ القرآن الكريم. ثم هناك مبنى معهد اللاييك، وهو بناء مدرسة شيّدته بعثة تعليمية علمانية فرنسية عام 1925. وتحوّل اسمه إلى «معهد الحرية» بعد جلاء الفرنسيين عن سورية، عام 1946. ثم سُمي في منتصف التسعينات من القرن الماضي «معهد الشهيد باسل الأسد» باعتبار أن الراحل باسل، كبير أبناء الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد، درس في المعهد وحصل منه على شهادة الثانوية بفرعها العلمي. ومن مباني الشارع المعروفة أيضا، المبنى القديم السابق لإذاعة دمشق قبل انتقالها إلى شارع النصر ومن ثم إلى ساحة الأمويين. وهناك مبنى محطة الأزبكية (محطة وقود) عامة وكان عبارة عن مبنى لمقهى قديم كان يطلق عليه اسم قهوة الشيخ ديب. ويقول مصطفى عارف، إنه سمع من المسنين من سكان الشارع أن المطربة الكبيرة الراحلة أم كلثوم غنّت في هذا المقهى قبل أن يتحول إلى محطة وقود، كما غنّت في حفلة ثانية عند زيارتها لدمشق قبل منتصف القرن الماضي في مبنى معهد اللاييك.