نعيش الآن في عصر السرعة في كل أمر من أمور حركة حياتنا، وفيما يدور حولنا وندور حوله.

وحتى لا أتّهم بالتخلّف أو الرجعية، فأنا أوافق بطبيعة الحال على اتباع السرعة في أمور كثيرة كالاتصالات مثلاً، والتحديث والتطوير وفي البحث عن المعلومة، وبيان الشكر والتقدير والوفاء، والسرعة في إنجاز المشاريع الخدمية العامّة والمعاملات العقارية والإرثية، والفصل في القضايا المحنّطة في قصور القضاء، إلى آخر هذه الأمور التي تساهم بتسارعها الواعي والمدروس في دفع عجلة التطوّر، ولكنني أيضاً لست مع التسرّع في أمور أخرى كالسرعة في وسائل المواصلات، وسرعة الغضب، وسرعة اتخاذ قرارات انفعالية، وأقف حائراً في مسألة الإلحاح على السرعة في أمور أخرى تحتاج إلى كثير رويّة وصبر وهضم ودراسة وخبرة ألا وهي في مسألة الكتابة، والإبداع الأدبي، وأجد في تجاوز فهم هذا الأمر غُربَة عن طبيعة مسار الحياة.
أحد المسؤولين عن صفحة ثقافية في جريدة دورية يقول لي ضجراً:
ـ يا أخي جيل مستعجل..
ثم يتابع وهو يكظم غيظه: يريد أحدهم أن يتقدم بما يشبه القصيدة، أو مقطوعة نثرية في الساعة السابعة صباحاً، يعتب ويسأل عن نشرها في الساعة السابعة والنصف، وفي الساعة الثامنة يستغرب لماذا لم يحصل على نوبل تقديراً لإبداعه؟!
ثم أردف: وهي «القصيدة أو الخاطرة» ليست أكثر من «تخبيص..!»
نعم، هي ظاهرة، ومن خلال تجربتي وخبرتي مع كثيرين من أمثال صاحبنا المستعجل، بتّ أخاف من قولَةِ حقّ في شأن أدبي، أو بما يشبه النقد والتوجيه والنصيحة، فما إن يقول أحدنا حرفاً في تلك المسألة تعليقاً على قصيدة أو نثر إبداعيّ، حتى ينبري له «المبدع المفترض» باتهام معلّق على زاوية دهشته، بأن الناقد ضدّ المواهب الواعدة، وضد مسيرة الإبداع بشكل عام.
وعلى هذا المنوال، تحضرني حادثة سمعتها وشاهدتها عندما دخل شاب لم يتجاوز، حسب ما قدّرت، العشرين من عمره مكتب الأستاذ الشاعر المرحوم ميخائيل عيد في مبنى اتحاد الكتاب العرب، يحمل بيده ورقة عليها «خربشات»، وكنت حاضراً بالمصادفة، وسمعت الشاب يقول بخيلاء:
ـ أستاذ، في هذه القصيدة أنا أتجاوز حالة الشعر العربي، أخرج عن المألوف الذي أصبح مكرراً، وأبتدعُ نقلة جديدة في مسألة الشعر العربي.!
شد انتباهي، قلت بيني وبين نفسي، سأشهد ولادة قامة أدبية، فأصختُ السمع..
بدأ يقرأ من قصيدته.. يقع في أخطاء نحويّة قاتلة، ويستعرض خطابته بيديه، ووساعة نظراته، فكدتُ أصرخ غيظاً من تفاهة ما يقرأ.. لكن أبا عيّاد «رحمه الله»، بدماثته المعروفة، بقي صامتاً حتى انتهى صاحبنا من القراءة، ووقف ينتظر التصفيق، وصرخة الدهشة.
كان أبو عيّاد يبتسم، ثم قال له بهدوء ساخر:
ـ حقيقة هي «شيء» خارج عن المألوف، ويبدو أنني أنا أيضاً سأخرج عن مألوف طباعي..!
طبعاً لم ينجُ الأستاذ الشاعر ميخائيل من براثن ذلك الألمعي.
مصادفة أيضاً رأيت ذلك الشاب في واحدة من الأمسيات الأدبية، يقف على المنبر، ويقرأ ويستعرض.. أدهشني أنه لا يزال يحمل بيده تلك القصيدة العصماء، ويصرّ على أنه أحدث نقلةً في الشعر العربي.
بالمناسبة، قرأت حواراً أجراه صحفيّ مع أديب كبير، أصدر أكثر من عشرة كتب أدبية نالت حظّها الطيب، فقد سأله الصحفي: لماذا تأخرتَ حتى سنّ الخمسين لتبدأ في نشر نتاجاتك الأدبية؟.
أجاب الأديب بتواضع: عندما أدركت أنني وصلت إلى مرحلة معقولة من النُضج..!
لا شك في أن الإبداع فضاء شاسع واسع، تطير فيه كلّ أجناس الطيور، ولكن البقاء دائماً للأجنحة القويّة الدارسة الموهوبة والصاقلة لتلك الموهبة بالجهد والمتابعة.. والتواضع.