--------------------------------------------------------------------------------
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
(الجزء الثاني)
أ ـ الكتاب القرآني
لا شك أن الكتاب القرآني يعد من بين الموضوعات، التي ينفرد بها الأدب العربي الإسلامي دون سائر الآداب في العالم، ويتميز بها الأدب العربي الإسلامي في العصر الحديث بوجه خاص، لكن حال الكتاب القرآني اليوم، تختلف عن حاله في السابق، حين نشأته وظهوره في المجتمعات العربية المسلمة، ويعود السبب في هذا الاختلاف والتباين إلى انحراف دور هذه المؤسسة التعليمية التقليدية، وغياب الالتزام بمبادئها وبكل أهدافها الأصلية ومناهجها الأساسية، وقد ظهر هذا الزيغ ابتداء من العصور التي شهد فيها العالم العربي الإسلامي انحطاطا فكريا واقتصاديا.
وقد شغل موضوع الكتاب القرآني اهتمام كتاب الرواية والسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، إذ أجمعوا في إبداعاتهم على تناول نفس المشاهد والتجارب، والتمثلات والانطباعات المتعلقة بالكتاب، وهو المكان الذي يجسد إحدى العلامات المميزة للمكون الإسترجاعي الطفولي، والتي تندرج في إطار تشكيل فضاء الذاكرة الجماعية العربية الإسلامية.
ثم إن الكتاب هو المكان المتفرد بصلته الوثيقة بطور الطفولة، الذي قل بين مؤلفي السيرة الذاتية العرب من لم يعرج عليه متذكرا في سياق سرد تاريخه الخاص، وذلك بالنظر إلى طبيعته وإلى ما يحفل به من متناقضات وذكريات، يقتسمها الخوف، والألم، والغرابة .
لقد تم اختزال تلك الحياة المرعبة والمتقلبة، التي يحياها الطفل داخل الكتاب القرآني، في وقائع مرئية ومسموعة، ظلت مختلف طقوسها وتقاليدها منـزوية في ذاكرة كتاب السيرة الذاتية العرب، بحيث أن الكاتب العربي لا يجد أدنى صعوبة في استعراض مجريات أولى مراحل حياته التعليمية، وأكيد أن هذه المرحلة وما رحبت به من الآثار الموشومة في الذاكرة، كانت عاملا حاسما أسهم بكيفية مباشرة في تحنيط أجواء الكتاب القرآني في ذاكرة الإنسان العربي، حديثا وقديما.
ثم إن الحديث عن الكتاب القرآني في مرآة الذاكرة الإسلامية الحديثة يُلازم الإشارة إلى موضوعات كثيرة إذ يكاد الكتاب القرآني يكون ذاكرة موضوعية مشتركة بين الذوات العربية المسلمة، فذات الأجواء ونفس المشاهد والمواقف، والمعالم المكانية المرتبطة بالكتاب القرآني هي قواسم مشتركة بين الخطابات التي يشتمل عليها أدب السيرة الذاتية العربية عموما والإسلامية بوجه خاص، وهي خطابات يشهد بعضها لبعض في العمق والجوهر، ثم إنها دالة على التشابه والمماثلة القائمة بين طبيعة الكتاتيب القرآنية في أقصى المشرق العربي وطبيعتها في أقصى المغرب العربي.
أما الموضوعات المقرونة بالكتاب القرآني، والتي تكاد تسمه وترمز إليه، فيكفي أن نذكر منها القمع، والرعب، والضرب، والقسوة، وهي ممارسات تلحق الأذى النفسي والجسدي بالطفل في حاضره ومستقبله، ثم إن جميع هذه الممارسات وغيرها تصير صورة (الفقيه) أو (سيدنا) مختزلة لها في ذاكرة الطفل.
ثم إن ما يعتمد في الكتاتيب القرآنية من نهج غير سليم لا علاقة له بالتربية والتعليم، بل هو في واقع الأمر وحقيقته نهج قمعي مدمر لحياة الطفل المبكرة : النفسية والجسدية، وقد ساد ـ وربما لا زال يسود في حدود معينة داخل البلاد العربية الإسلامية ـ الاعتقاد لدى طائفة من الآباء في إيجابيته وفاعليته التربوية والتعليمية، ولم يشكوا لحظة واحدة في مصداقيته، وقد ظلوا راعين له مدافعين عن بقائه واستمراريته، لأنهم وجدوا آباءهم عليه معتادين؛ بل صار لديهم عرفان وميراثا تجب حمايته من الاندثار، فكان الأطفال ضحية لذلك النهج العقيم، وكانت آثاره ومخلفاته سيئة وجلية طوال مسيرتهم الحياتية.
تتفق إذن معظم الانطباعات عن الكتاب القرآني، وتتماهى الأوصاف لما يجري داخل هذا المكان من أحداث؛ إنها انطباعات سلبية و أوصاف مثيرة ومخيفة، تجمع على أن الطفل العربي المسلم يخوض تجربة قاسية في أولى مراحل حياته التعليمية، ويعاني منها أشد العناء، فهو مطوق بالقمع والخوف، ومهدد بالضرب والزجر لأتفه الأسباب في أي لحظة من طرف (الفقيه).
إن المعاناة النفسية تبدأ عند هذا الطفل، وتظهر آثارها عليه قبل أن يلتحق بالكتاب القرآني، بحكم ما يتراكم في ذاكرته من مشاهد، ووقائع مسموعة منفرة ومنكرة حول ما يدور في داخل هذه المؤسسة التعليمية التقليدية؛ لقد صار الكتاب القرآني، من خلال شكله المعماري والطقوس التي تجري فيه، مؤسسة تكرس نشاطا تعليميا قائما على ممارسات قمعية.
وتكاد تكون الأجواء السائدة داخل الكتاتيب القرآنية الحديثة صورة مرئية وسمعية واحدة، فإذا ما استعرضنا مختلف الشهادات الواردة في متون السير الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، خلصنا من خلالها إلى مشاهد، وانطباعات، وأوصاف دقيقة للكتاب القرآني من الداخل؛ هذا العالم البسيط في مظهره، والمثير في مخبره، لا نعثر له غالبا في شهادات كتاب السيرة الذاتية العرب المحدثين إلا على صور سيئة، لا علاقة لها بتربية الطفل وتعليمه.
ولا شك أن مجموع تلك الصور السيئة تشكلت بناء على معطيات واقعية، إذ أن إرهاب الطفل وقمعه، ثم إكراهه على الخضوع لتقليد صارم ومنحرف منتهج في التعليم، وتعرضه لسوء المعاملة من خلال ممارسة العنف البدني عليه؛ هذه كلها أفعال تراكبت سلبا في ذهن الطفل، وخلفت لديه جراحا نفسية بليغة في حياته الدراسية، كما أسهمت في تكوين شخصية مضطربة وفاقدة للثقة في نفسها، فلم يكن الأسلوب المتبع لتعليم الأطفال داخل الكتاتيب القرآنية غير فعل تكميلي لمنهجية القمع المتبعة في الوسط الأسري، وهو حصار قمعي يتحول لدى الطفل إلى مصدر للرعب والانطواء على النفس نهارا، وإلى كوابيس متلاحقة ليلا.
لقد كان الحديث عن موضوعة الكتاب القرآني في أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة مرآة عاكسة لكل ما له صلة وثيقة بهذه الموضوعة التي شغلت مكانا متميزا في الذاكرة العربية ذات الطابع الإسلامي الحديث، فهي تجسد إحدى أهم محطات طور الطفولة في البلاد العربية؛ بل إنها وشم في ذاكرة الإنسان العربي على وجه العموم.
ومما لا شك فيه أن موضوعة الكتاب القرآني قد أمدت من تحدثوا عن أنفسهم بنفس إبداعي مثمر، ومكنتهم من امتلاك شحنة سردية ووصفية بليغة وفنية، قد سرى مفعولها واتضح أثرها في الصياغة الأدبية لجانب متميز من مرحلة الطفولة.
ونستطيع أن نقول ـ بناء على ما اطلعنا عليه وسبرنا أغواره في شأن موضوعة الكتاب القرآني ـ إن هذه الموضوعة هي بمثابة عنوان رئيس وعلامة أساسية في مسار حياة من كتبوا سيرتهم الذاتية، إنها تجربة خصبة على مستوى ما توحي به وتفصح عنه من حقائق وإشارات، وعلى الرغم من قساوتها، فقد أفادت كثيرا في بناء قناعات مغايرة لتلك التي سادت في الماضي، وكانت سببا في إعادة النظر وتقييم العملية التربوية والتعليمية من جهة، وباعثا على التجديد، والاجتهاد، ثم بذل الجهد في سبيل تجاوز مختلف الانحرافات السابقة وكافة الممارسات العدوانية والمرضية التي يتبرأ منها العلم جملة وتفصيلا.
ب ـ القرية والمدينة
في البدء كان المجال الجغرافي والاجتماعي، الذي اصطلحت عليه الجماعة البشرية بالبادية، والريف، والقرية، أما المدينة أو الحاضرة فهي مكان جغرافي واجتماعي آخر، هو وليد منعطف تاريخي في دنيا الإنسان، ومن ثم فهو مجال محدث بالمقارنة مع الريف أو البادية، وقد كان الارتباط قويا وما يزال بين الكائن الإنساني والبيئة القروية، وربما بسبب قدم تاريخ القرية وعراقتها كان هذا النوع من الارتباط، وربما للسبب ذاته لا يغادر الحنين الإنسان إلى الوسط البدوي الريفي، الذي تتردد معالمه وخصائصه وأجواؤه كثيرا في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
ويظهر جليا في ضوء كثير من القيم والأبعاد المرتبطة بعالم القرية أن الذات المسلمة تنجذب إلى امتداد فطرتها وحسها الإنساني في المجال الطبيعي الأول، المتمثل في الريف، وهذا الانجذاب يتخذ شكل موضوعة دالة على الطبع السليم في إطار رؤية إسلامية، إذ في القرية، حيث التواصل الحميم والألفة الشديدة، يجتمع الناس لينعموا بالحديث على طبيعتهم وبكل تلقائية في أجواء بسيطة، فيصير الإنسان مسكونا بروح الجماعة، بخلاف ما تشعر به الجماعة البشرية في المدينة، حيث يسود الزيف، والغربة، والوحشة، وحيث يتفشى الخداع ويكثر ارتداء الأقنعة .
إن المدينة مكان مفتوح، لكنها مع ذلك مكان يسوده الاغتراب والاضطهاد الإنساني، وهي في الغالب تحمل معاني معادية ونقيضة لمعاني القرية، وتأخذ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رمز السلبية، والدخيل، والمصطنع، وذلك في مقابل الريف، والصحراء، والبحر، وهي أماكن من بين رموز الطهر، والأصالة، والسكينة، خاصة أن للمكان علاقة جوهرية بالإنسان، كما أن للموضوعات الطبيعية صلة جد وثيقة بالحالات النفسية للكائن البشري.
إنه الاصطدام الذي تعانيه الذات المسلمة مع بيئة مدنية، تناقض طبيعة الإنسان المشبعة بصفاء القيم، وقوة الفطرة التي تشكل مناعة ذاتية، تدفع بالكائن الاجتماعي إلى الانتصار للبيئة الريفية، المحافظة على نقائها وتلقائيتها، وإعلان المواجهة والحرب على قساوة الوسط المدني، فالقرية بيئة هادئة ومونسة، بينما المدينة بيئة مضطربة وموحشة، ثم إن الحركة التي تدب في أنحاء الريف تختلف عن الحركة التي تسود أرجاء المدينة، ومن أهم ما ترتبط به الحاضرة القلق الإنساني، والفقر المادي، والفراغ الروحي، والأمل الضائع، والطموح المتكسر، وبمراحل العمر الفارغة، التي تنتقل الذات بين شعابها تائهة من جدب إلى جدب، وسط أجواء عدالة مختلة، وهذه الثغرات هي مصدر أدواء المدينة.
ثم إن أفعال الإنسان غالبا ما تصرف في الوسط المدني وتذهب سدى عبر مسالك منحرفة ـ تفضي إلى فساد السلوك البشري، بحيث تتحكم الأهواء وتعمل على تنوعها ضد قيام وبناء وسط اجتماعي سليم، كان من المفروض أن يتحقق ويسفر عن وجهه بغير أقنعة مخيفة وصور مريبة، أما اليوم وقد تحولت المدينة إلى عالم كئيب يبعث الرعب في قلب الإنسان، ويذهب بعقله مذاهب شتى، فإن الذات المسلمة تستشعر قربها من الوسط الريفي، خاصة عندما تكون في أوج صفائها الذهني والروحي، باعتبار ما تعثر عليه من حياة مغايرة، مبنية على الانسجام والاعتدال، وهي حياة تظل الذات في شوق دفين إليها على الدوام ، لأنها الأصل والقاعدة البيئية الاجتماعية.
لا يخفي الإنسان حبه الشديد للقرية، لكن شوق الذات المسلمة إلى الحياة الريفية البسيطة في العصر الحديث، سرعان ما سيخبو ويصطدم بحقيقة القرية ، التي لم تسلم من سيئات المدينة، وإذا أمعنا النظر جيدا، فإننا لا محالة سنكتشف أن الأديب المسلم عاش تجربة الهروب من المدينة واللجوء إلى القرية منقوصة وغير مستوفية لشروطها، لأنه أدرك بأن المدينة صارت قدوة وحلما بالنسبة إلى الريف.
وقد نتج عن هذه الصدمة غربة مزدوجة تلاحق الذات المسلمة وتحاصرها، ثم إن الإنسان في هذه الحال سيجد نفسه مضطرا للعودة من جديد إلى البحث عن وضعه السليم ووظيفته المحددة داخل وسط اجتماعي آخر وبيئة مغايرة، بعد أن يكون قد أعياه الجري وراء سراب السعادة الوهمية، وأنهكته الحياة المادية الجافة بمتاهاتها، ثم إنه سيستشعر الحاجة في أعماق نفسه إلى طرق باب البساطة والاعتدال في الوسط الجديد، واتخاذهما بديلا للتعقيد والتطرف، فتصير لديه البداوة السوية عوضا للمدنية المنحرفة، وهذا الخيار طالما ازدراه وحط من شأنه، لما كان في غمرة انبهاره بالمظاهر دون الجواهر .
ج ـ البحر والصحراء
إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين الخطابات الأدبية الغنية بجملة من الموضوعات المحورية المتميزة، التي تدخل في تشييد بناء ومعمار دلالي متكامل ومحكم، باعتبار أن لها حضورا مكثفا وقويا في مسار هذا اللون الخطابي، فالصحراء مثلا موضوعة أساسية فاعلة في الذات المسلمة، وكذلك الشأن بالنسبة للبحر، إذ أن كلا من الموضوعتين يمثل فضاء رحبا للنظر، والتأمل، والمناجاة، وعالما جد مثير لطلب السكينة والاستقرار النفسي؛ هذا فضلا عن كونهما متنفسان تعاد في قلبهما صياغة الأسئلة الحاسمة، وصفحتان مجردتان من كل زيف أو تمويه، تتلاشى فيهما حيرة الإنسان وارتيابه، ونزواته وأوهامه، فالبحر والصحراء من الأماكن الغنية بالدلالات، ومن العوالم التي تكسب الإنسان معارف متجددة وخبرات متميزة.
ولا غرابة في كون البحر و الصحراء موضوعتين كونيتين ، دخلتا التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه، واحتلتا ببساطتهما مكانة في حياة الأفراد، فهما من بين الفضاءات والعوالم الطبيعية، التي صاحبت الإنسان على امتداد وجوده، فكانت الصحراء مهدا احتضن رسالات التوحيد، التي كلف الأنبياء والرسل عليهم السلام بتبليغها للناس، فالبحر والصحراء منذ وجدا وهما بمثابة مرآة تنزع الأقنعة من الوجوه، ولسان كوني فصيح، يكشف حقيقة الإنسان كلما حاول الاستعلاء أو توهم القوة؛ إنهما فضاءان يلجأ إليهما الكائن الاجتماعي، عندما يضيق باختلال حياته وفسادها طلبا للحقيقة، وبحثا عن الاستقرار والتوازن .
1 ـ البحر
والبحر واحد من تلك المخلوقات الكونية، التي تذكر الإنسان بوهنه وقلة حيلته في هذا الوجود، وهو واحد من تلك الآيات الشاهدة على قدرة الخالق و عظمته، وسعة رحمته سبحانه وتعالى، وواقع قائم في عالم الشهادة، وخطاب مفتوح يفصح للمخلوق العاقل عن حقيقته و يعظه؛ إنه كائن مسخر لدعوته إلى التأمل، والتدبر، واستخلاص العبر والحقائق، ثم إن اهتمام الإنسان بهذه الآية الكونية: (البحر)، ينشأ في وقت مبكر سابق عن لحظة المعاينة الفعلية، التي تمثل حدثا متميزا في حياة كل فرد، وتحقيقا لرغبة مؤجلة، وإشباعا لبعض الفضول.
إن لقاء الإنسان بالبحر هو حدث يجمع بين كائنين، تمتد بينهما جسور من الخطاب الرمزي، والتواصل الكوني، والشبه المجازي، إذ كل من الإنسان والبحر يعتبر كائنا غامضا، ينطوي على أسرار كثيرة، ويتسم بشكل ظاهر وعالم باطن، وكلاهما متقلب لا يستقر على حال؛ إن آثار اللقاء الأول للإنسان بالبحر، التي تختزلها وتمتصها الدهشة، ويتملكها الانبهار والإعجاب وتلك المعاينة الأولى للبحر كافية لتخلف لدى الإنسان انطباعات شتى ستحفظها ذاكرته على الدوام، ذلك لأن رؤية البحر لأول مرة، يندرج بين الأحداث واللحظات الحميمية، التي لا تمحي من ذاكرة الإنسان.
ثم إن البحر، باعتباره واحدا من بين الكائنات الطبيعية أو المخلوقات الكونية، يفضي إلى الإنسان ـ من خلال حوار خفي _ ببعض أسراره ودلالاته، بقدر ما يفضي إليه الإنسان بهمومه وانشغالاته، فتمتزج إيحاءات البحر ومظاهره بمشاعر الكائن العاقل ووجدانه، إلى الدرجة التي يبلغ فيها ذلك التمازج نوعا من الاتحاد الرمزي أو المجازي، ففي هدوء البحر واضطرابه، وفي مده وجزره، وفي سعته، وعمقه، وأسراره إشارة إلى طبيعة الإنسان وإحالة على تنوع انفعالاته، من سكون وحركة، وصمت وصخب، وسكينة وغضب، واندفاع و تراجع، وقلق واطمئنان، وظاهر جلي وباطن غامض.
وعندما تتمكن الذات من إبرام ميثاق تواصلي بينها و بين الأمكنة و غيرها من الموضوعات في العالم الخارجي، فتجري معها حوارا حميما و مسترسلا، فإن وقع الاغتراب يكون في هذه الحال قد اشتد عليها بين بني جنسها، وتكون حدة السؤال قد شغلت كل تفكيرها، فتزداد الهوة اتساعا بين مركز الذاتية وضفاف الغيرية، مما يحتم على الإنسان البحث عن محاور بديل، بقصد أن يلتمس عنده بعض الإعانة على تبديد قوة الشك والحيرة المتنامية، وأيضا بهدف العثور على الإجابة الشافية على كثير من الأسئلة عنده، بعد أن تكون قد استفزته واستعصى عليه أمرها.
د.أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com