منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 21
  1. #1

    مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...

    مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...
    الدكتور ابو شامة المغربي

    بواعث كتابة أدب السيرة الذاتية الإسلامية قديما


    لقد ترك لنا العرب المسلمون القدماء سيرا ذاتية كثيرة، حفزتهم عوامل أو بواعث ذاتية وموضوعية مختلفة ومتشعبة، فضلا عن كونها تضيق بحصرها عدا، وقد ذكر غير واحد من الباحثين والنقاد بعضا منها ومن خصائصها، التي تميزها عن غيرها ولم يختلفوا في شانها، ونحن في سياق هذا المحور سنحاول الكشف عن المزيد من البواعث والخصائص التي ارتبطت بالسير الذاتية الإسلامية قديما، مع التذكير بما سبق و كشفت عنه الأبحاث والدراسات السابقة من بواعث وخصائص.
    من الممكن أن نصنف مختلف بواعث كتابة السيرة الذاتية الإسلامية القديمة إلى ثلاثة أنماط هي:
    أولا: البواعث الإخبارية، أو البواعث التاريخية، أو الصنف الإخباري البحت، وهي مجموع البواعث التي تنحو بأصحاب السير الذاتية إلى تحقيق منفعة خارجة، و تدفع بهم إلى تسجيل تجاربهم، و أخبارهم، وذكرياتهم، بالإضافة إلى ما عاينوه من مشاهد، وعاشوه من مواقف دون النفاذ إلى عمقها، و هي بالتالي عبارة عن حوافز على التأليف، تلزم الكاتب بفعل الأخبار فقط، ونقل معلومات معينة، أو تدوين وقائع تاريخية.
    ومن الأعمال القديمة التي تندرج في دائرة هذا النمط الإخباري التاريخي، نذكر ما خلفه كل من ابن سينا، وعبد اللطيف البغدادي، وعلي بن رضوان المصري من حديث حول ذواتهم، ومثل هذا الضرب من الكتابة كثير في المعجم الذي ألفه ياقوت الحموي، وخص به الأدباء والنحويين.
    ثانيا: البواعث النفسية والروحية، وهي ملتقى الأبعاد الإنسانية الثلاثة، ونقصد بها: النفس، والروح، والفكر، وقد نختزل هذا اللون من البواعث في ظاهرة النزوع إلى تصوير الصراع الروحي، من خلال الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة، وتصوير الحياة المثالية والفكرية.
    ومن النماذج التراثية التي تنطبق عليها مواصفات هذا النوع من البواعث، نذكر: "السيرة الفلسفية" التي كتبها محمد زكريا الرازي، وأراد من خلالها التعبير عن اتخاذه موقفا ذاتيا من الحياة، ونذكر كذلك رسالة لابن الهيثم، المتوفى سنة 430 هجرية، في تصوير حياته الفكرية.
    ثم إننا نستحضر في ذات السياق كتاب"الاعتبار" لصاحبه أسامة بن منقذ، المتوفى سنة 574 هجرية، و الذي سخره لاسترجاع الذكريات، ولتمكين قرائه من أخذ العبرة، كما نخص بالذكر أيضا كتابي: "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، لصاحبه علي بن حزم، المتوفى عام 454 هجرية، وقد روى فيه ما عاناه في شبابه من تأثير الحب والعشق وما خلفاه في نفسه من آثار، وأراد من خلال ذاته أن يحيط عن طريق التجربة، والملاحظة، والاستقراء بظاهر وباطن العاطفة التي تنشأ بين الجنسين من بني الإنسان.
    ولابن حزم مؤلف آخر يحمل عنوان "الأخلاق والسير في مداواة النفوس"، ومن الأعمال القديمة التي ضمنها أصحابها التعبير عن الثورة، والصراع الروحي، ومناجاة النفس، نستحضر ما تركه أبو حيان التوحيدي محفوظا في رسالته "الصداقة والصديق"، التي عبر فيها عن ثورته ومعاناته مع الفقر والاغتراب بين الناس، ونذكر أيضا ما خلفه أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هجرية، وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 من الهجرة، وأبو بكر الخوارزمي المتوفى سنة 232 في بعض رسائلهم.
    ودائما في سياق النمط الثاني من بواعث الكتابة، نذكر مؤلف "الفتوحات المكية" لمحي الدين ابن عربي المتوفى سنة 638 من الهجرية، الذي يعتبر إلى جانب رسالته في مناصحة النفس نموذجا للحديث الدقيق والعميق مع النفس، ونستحضر كذلك كتاب "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة و الجلال" لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 من الهجرية، وفيه اجتهد المؤلف في عرض و تحليل صراعه الروحي، ومحاسبته لنفسه عما اقترفته من آثام، وما بذله من جهد وسلكه من سبيل لتطهيرها والسمو بها، ويعد هذا الأثر من بين السير الذاتية التي كان القصد من تأليفها ـ نزولا عند طلب الغير، كما رأينا مع ابن حزم الأندلسي ـ أن تكون تجربة، ووثيقة روحية وفكرية تعرض على جمهور القراء لينظروا فيها طلبا للاهتداء إلى مجاهل النفس، والاستفادة من تجارب الغير.
    ثم نذكر شمس الدين محمد بن طولون، الذي تحدث عن نفسه في رسالة مستقلة ، سماها "الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون"، ويظهر أن إحساسه بكون حياته قد أشرفت على النهاية، كان باعثا له في الأصل على كتابة رسالته، وثمة ضرب آخر من السير الذاتية ينتسب إلى النمط الثاني من بواعث الكتابة، ونعني به السير الذاتية التي يهدف أصحابها إلى ذكر الأسباب التي جعلتهم يعتنقون الإسلام، ويتركون ما كانوا عليه من دين في السابق من حياتهم، وممن كتبوا في هذا الباب نذكر السموأل بن يحيى المغربي، المتوفى عام 570 من الهجرة، الذي ألف كتابا سماه: "بذل المجهود في إفحام اليهود"، بسط في فصل منه تجربته الروحية تحت عنوان: " إسلام السموأل بن يحيى المغربي و قصة رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم"، والأشواط التي قطعها وهو في طريقه إلى اعتناق الإسلام، ويعد من العلماء القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية.
    ونصادف من الآثار الأدبية القديمة ما قصد به مؤلفوه الغاية التعليمية، وإسداء النصح، والتذكير، والتوصية بالحق و بالصبر، أو سعوا به إلى تصوير الحياة المثالية، والتحدث بنعمة الله عز وجل، مثل كتاب: "لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" لصاحبه عبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة 973 من الهجرة و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" لعبد الرحمان بن الجوزي، المتوفى سنة 597 من الهجرة، ونستحضر كذلك مؤلف عبد الله بن بلقين، المسمى "التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة"، والذي كتبه تأريخا للأحداث، ودفعا للتهم، و تفسيرا للسلوك، وتبريرا للمواقف، ثم تحقيقا للتبعة على الوجه الصحيح، وذلك بعد أن فرضت عليه الإقامة الإجبارية في "أغمات" بالمغرب.
    ثم نذكر كتابي الشاعر عمارة اليمني، وهما: "النكت العصرية"، و"سيرة المؤيد داعي الدعاة"، وفيهما تحدث عن نفسه، ثم إن جميع من أقدموا على كتابة تواريخهم الخاصة، بناء على نفس المبدأ والباعث، وعملا بمقتضى الآية القرآنية الكريمة في سورة الضحى، لم يكونوا راغبين في الإشادة بأنفسهم أو مدحها، و إنما أرادوا بتأليفهم أن يذكروا فضل الله تعالى عليهم، وأن يتحدثوا من خلالهم بنعمه، فنظروا إلى الكتابة في هذا الباب على أنها من جهاد النفس، وأحد أسباب ومناهج العبادة التي تقرب إلى الله عز وجل.
    لقد اتخذوا حديثهم عن أنفسهم لسانا يفصحون به عن جزيل الشكر لخالقهم، وعن منتهى الاعتراف له بالفضل والجميل، فلم يتخذ كل واحد من هؤلاء سيرته الذاتية رياء و مباهاة؛ بل أراد لها أن تكون حمدا لله الذي من عليه بالنعم التي لا تعد و لا تحصى.
    ثالثا : البواعث الاجتماعية: وهي بواعث تبريرية، أو تفسيرية، أو تعليلية، أو اعتذارية، تستمد قوتها من الوسط الاجتماعي، أو بالأحرى من تأثير الجماعة الإنسانية، التي تترقب دفاع المتهم عن نفسه، وتبرير مواقفه، أو تفسير أعماله وأقواله، أو تعليل آرائه المعلنة.
    وقد كتب حنين بن إسحق ، المتوفى عام 260 من الهجرة، في هذا الباب، متحدثا عن معاناته و مكائد أعدائه، وتعد سيرته نموذجا حيا لمجموع السير الذاتية العربية الإسلامية القديمة، التي هدف بها أصحابها إلى الدفاع عن أنفسهم، نذكر كذلك ما كتبه عبد الرحمان بن خلدون، المتوفى سنة 808 من الهجرة، عن نفسه في كتاب: (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا و شرقا)، إذ كانت غايته مما كتب مختزلة في الدفاع عن نفسه من خلال التبرير والتفسير، وكثير من السير الذاتية القديمة ألفها أصحابها لهذا الغرض، ولا شك أن باعث الدفاع عن النفس يندرج ضمن أقوى وأبرز بواعث كتابة هذا اللون من الأدب.
    ومن جملة بواعث الكتابة التي نقف عليها في أدب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، ثمة باعث الرد على أعداء الإسلام، ودفع ما يحوم بفعلهم حول العقيدة الإسلامية من شبهات، وأوضح مثال نسوقه في هذا الباب ما كتبه السموأل بن يحيى المغربي.
    ثم إن بواعث وحوافز تأليف السير الذاتية الإسلامية القديمة كثيرة ومتشعبة، ونادرا ما يكون وراء كتابتها باعث أو حافز واحد فقط.
    أما محاولة تصنيف الأعمال الأدبية العربية الإسلامية، تبعا لتصنيف بواعث الكتابة، وكذا تقسيمها إلى أنماط، فهو عمل واجتهاد نسبي، وحتى إن كان مكن الباحثين والنقاد من الوقوف على أهم البواعث أو الدوافع الرئيسة، فإنه لم يحط بعد بأكثر البواعث الفرعية، ثم إن كان ساعدهم على ضبط البواعث الظاهرة، فإنه لم يمكنهم بعد من الإلمام التام بالبواعث الباطنة.
    هذا حظ يسير مما جاد به نشاط الذهن، نسأل الله عز وجل أن يجد فيه كل قارئ بعض الذي كان يترقبه ويستشرفه، وعسى أن يكون ما خطته يمين عبد الله باعثا للباحثين، والدارسين، والمهتمين عموما على إلقاء ولو نظرات معدودة على أدب السيرة الذاتية ...


    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  2. #2

    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الأول)
    إن السرد القصصي كان ولا يزال يهيمن على الحس الإبداعي، وحس المتلقي في العالم العربي الإسلامي، وهو النمط السردي الذي غالبا ما تم نسجه، كما هو الشأن اليوم، حول شخصية محورية غائبة، ربما لأن الذات الكاتبة منذ وجدت وهي تنظر إلى الكائن القصصي المتخيل أحيانا، على أنه ذات مجهولة، وعالم زاخر بالأسرار والألغاز، وهي بالتالي تنطلق من هذا المعطى على أساس أن الإنسان كائن يسعى بذكائه وحدسه إلى حل رموز عالمه الداخلي وفتح مغالقه؛ إنه الكائن الوحيد الذي يجد نفسه في بحث دائم، واكتشاف متواصل، بين مد السؤال وجزر الإجابة.
    وبالنظر من زاوية أخرى، بإمكاننا ملاحظة التميز الذي تنفرد به الأساليب السردية العربية والإسلامية القديمة، التي تتخذها الأنا أو الذات الكاتبة مدارا وفضاء لتجليها بشكل مباشر، وهي نمط سردي، اعتمده معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في حقبة تأسيس الأدب الخاص، يندرج في إطار مزدوج يشمل النثرين: المرسل والمسجوع، والذي يوحي لنا أحيانا بالكيفية التي تصاغ بها الحكم والأمثال، والأقوال المأثورة، وهي أنماط تعبيرية تجمع بين الشحنة الدلالية، والمعاني المركزة، والعبارات الموجزة.
    ولا يخفى أن هذا المنحى في الكتابة الأدبية كان مألوفا ومطروقا بكثافة، حتى إن منتجي هذا الأدب قديما، كانوا يتهافتون عليه ويجتهدون في إجادته و إتقانه، وهو يعد من السمات البارزة في تراث الأدب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى كون الكثير مما ألفه العرب القدماء حول ذواتهم، قد تمت صياغته بكيفية متميزة تثير فضول القارئ، إذ أن كثيرا من العناصر الفنية التي أسهمت حديثا في بناء أدب السيرة الذاتية الإسلامية من الداخل، قد اشتمل عليها هذا الضرب من الأدب، عندما كان يجتاز طور التأسيس، مما أهله ليسلك منذ طلائعه الأولى منحى قصصيا.
    ثم إن تجاوب جمهور القراء على امتداد التاريخ مع الإنتاج الأدبي المبني على السرد القصصي، ساعد وشجع على رسوخ أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى استمرار وجوده حتى عصرنا هذا، ومما أسهم كذلك في عدم انقراض هذا الفن الأدبي، ارتكاز مستويات حياة الإنسان التواصلية، خاصة منها الاجتماعية والمعرفية، على عملية السرد المتبادل.
    ومن بين الملاحظات الأولية التي بالإمكان تسجيلها في معرض هذه القراءة، كوننا نادرا ما نصادف سيرة ذاتية عربية إسلامية قديمة، استطاع صاحبها أن ينفذ بالوصف والتحليل إلى باطن ذاته، بقصد الكشف عما فيها من مظاهر الصراع النفسي والروحي، والوقوف على ما يقبع في أعماق النفس من آثار دفينة، وهذا القصور كان سببا في افتقار أعمال كثيرة إلى المادتين: النفسية، والاجتماعية، فظلت سجينة المظاهر السطحية للحياة الشخصية، أو استعراضا لبعض الجوانب الخارجية.
    ولعل من بين الأسباب في توجه المؤلفين العرب القدماء نحو العالم الخارجي، واهتمامهم بالانشغالات الموضوعية بالدرجة الأولى، ثم بقاء عالمهم الداخلي متواريا ومغمورا أكثر الأحيان، إنهم لم يفطنوا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التعبير المسهب عن بعض الأطوار الحياتية، وخاصة طور الطفولة والنشأة، وهذه الخاصية تكاد تكون قاسما مشتركا بين السير الذاتية الإسلامية القديمة.
    وأما الذين اهتدوا من الكتاب العرب قديما إلى عملية الاسترجاع، فنجدهم ينتقون أطوارا معينة من طفولتهم، ويختزلون الحديث عنها في رغبتهم المبكرة في طلب العلم، إذ كان طور الطفولة والصبا بالنسبة إليهم يجسد المرحلة الأولى التي ألهموا فيها الإقبال على العلم ومناهل المعرفة، والتي عملوا خلالها على ترسيخ الاجتهاد في ذواتهم رغبة في العلم، وتمرين نفوسهم على الصبر في سبيل ذلك؛ إنهم يتذكرون الطور الأول من حياتهم دون غيره من مراحل العمر المتقدمة، لكونهم يرجحون آثاره البعيدة في تكوين شخصيتهم، واختيار وجهتهم وسيرتهم في الحياة.
    إن الانصراف المبكر إلى طلب العلم، وإيثار الجد على اللهو والعبث في سن الطفولة، ظل بين العرب القدماء، وأكثرهم من أهل العلم، والأدب، والطب، والفلسفة، والتاريخ، محط استفهام وإثارة، فهم لم ينسبوه إلى استعدادات فطرية، أو مؤهلات ذاتية وشخصية، وإن كان البعض أرجعه إلى التأثر بالوسط العلمي، وإنما عادوا به في الغالب إلى الإلهام والهداية من الله عز وجل.
    ثم لقد كان هذا المنحى الظاهرة، بالنسبة إليهم، تجربة إنسانية مبكرة، لا ينفرد بخوضها والاهتداء إليها إلا القليل من الناس، ذلك لأنها لا تكتسي طابعا إراديا أو اختياريا؛ فهي فضل من الله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، لكن هذه التجربة لا تعدم أسبابا ذاتية وأخرى موضوعية مساعدة، وإذا كان من النادر أن نعثر في السير العربية القديمة على إشارة، سواء من قريب أم من بعيد، إلى أثر الوراثة وفعلها التكويني المتصل أساسا بطبيعة الشخصية، فإننا نجد في بعضها كشفا عن تأثير البيئة في تكوين ذوات أصحابها.
    إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة كانوا يحاولون إقناع القراء، تصريحا أو تلميحا، بان تجاربهم الفردية في سن الطفولة، تمثل لحظة وعي مبكر في مجرى حياتهم، وأنها كانت مبدأ نهجهم في الحياة، ومنطلق رسالتهم في الوجود، وكذا مستهل يقظتهم المعرفية، فكانوا يرون في طلب العلم مبكرا، ومقاطعة أسباب اللهو في سن الصبا دليلا على النبوغ المرتقب، والمكانة العلمية المنتظرة، بحيث كانت الغاية المرجوة عندهم هي الاقتراب من الذروة أو الكمال في مجالات العلم والمعرفة في مفتتح أعمارهم.
    بناء على هذه الرؤية، اقتنعت الذات المسلمة في الماضي بأن الإقبال منذ سن مبكرة على طرق أبواب العلوم والمعرفة، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وجب التحدث بها، فكان هذا الإدراك حافزا وباعثا كافيا للقدماء، حتى يسردوا علينا تجاربهم الاجتماعية، والفكرية، والروحية من خلال الأشواط التي قطعوها في سبيل تحصيل العلم ومعرفة النهج الحق في الحياة.
    إن مختلف التجارب الفردية التي نصادفها في السير الذاتية الإسلامية القديمة تفصح بجلاء عن مدى عناية السلف بتطور الحياة الشخصية بشقيها: المادي والروحي، وتبين عن مبلغ التمسك بنشرها وإذاعتها بين القراء، وهي تجارب تم ذكرها للاعتبار واكتساب المعرفة أصلا، وذلك بالإطلاع على مضامينها القوية والمؤثرة أحيانا، فجاءت في مجملها ذات طابع تعليمي، ومنسجمة على مستوى توجهها ومراميها مع روح السيرة النبوية.
    ثم إن الذات المسلمة لم تكن تطلب العلم نزوة واحتكارا، أو تنفق مختلف أطوار حياتها بغير رؤية واضحة وقصد معلوم؛ بل كانت تسعى جادة إلى اكتساب معرفة غزيرة وعلوم شتى، طلبا وسعيا منها إلى التزام الحق والإلمام بالحقائق، وفوق كل هذا كانت تحرص على نهج مسالك العلم رغبة في عبادة الله والتقرب إليه.
    فنحن إذا أمعنا النظر قليلا في عدد من السير الذاتية الإسلامية القديمة، سنلاحظ ميلا لدى أصحابها ونزوعا إلى ذكر تفاصيل دقيقة ليست من قبيل الحشو والإسراف في الحديث، وإنما هي تفاصيل مهمة بالفعل، وقد صيغت بكيفية تضمن تواصلا سليما وفاعلا مع القارئ، بقصد إخباره بأمور معينة، وتقريبه من حقيقة المواقف، والأحداث، والحياة اليومية، والتجارب عموما.
    ثم إن سبب التمسك بالخطاب التعليمي، الذي يأخذ في معظم الأحيان صبغة وعظية وإرشادية، يكمن في الاعتقاد الراسخ للذات الكاتبة في الإسلام وتعاليمه، وفي الإيمان القوي بالله عز وجل، ثم في الوعي بالأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان، وارتبطت به دون غيره من المخلوقات، باعتباره كائنا عاقلا وخليفة في الأرض.
    ولعل الظاهرة التعليمية، وتصوير الحياة العلمية، التي هيمنت على خطاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية قديما، خير دليل على أنها كانت باعثا مباشرا وغاية في ذات الوقت، تتدرج الذات الكاتبة في ضوئها بسرد سيرتها، ابتداء من عهد الصبا، ومرورا بزمن الفتوة والشباب، ثم انتهاء إلى مرحلة الكهولة وبعدها طور الشيخوخة.
    إن الغاية التعليمية هي التي حدت بالذات المسلمة إلى رصد أحوالها وأفعالها، وسلوكياتها، بقصد ترجمتها في وضوح ودون تعقيد إلى جانب الأشواط التي قطعتها والتجارب التي خاضتها لأجل طلب العلم، وهذا الفعل التاريخي الهادف هو الذي يحيلنا على مدى عناية هذه الذات بمسألة التكوين العقائدي والفكري، فهي ذات تسعى في الغالب إلى الإحاطة بالجانب الاعتباري دون الجانب الوجداني لتكوينها.
    ثم إن العرب المسلمين القدامى لم يغفلوا في ما كتبوه عن ذواتهم ذكر شيوخهم، وتلاميذهم، ومصنفاتهم، فهم يحرصون على هذا الذكر أشد الحرص، وذلك باعتباره ركنا أساسيا في حياتهم العلمية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  3. #3

    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الثاني)
    لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.
    ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى
    شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في
    مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.
    إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
    أولا: إفادة طالب العلم .
    ثانيا: الرياضة الفكرية .
    ثالثا: الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.
    ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري، المندرجة في هذا الباب، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب"، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" .
    ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم.
    ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.
    ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
    وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.
    وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.
    ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، ومستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.
    إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.
    وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.
    إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.
    إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية.
    ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.
    ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
    أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
    ثانيا: البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
    التأثير والتأثر.
    ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.
    إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.
    لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، وعالمي: الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.
    ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة وإيثار الحق، كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه.
    لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.
    إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.
    ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.
    وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أفكار وتأملات متواضعة حول هذا الجنس الأدبي المميز، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  4. #4

    نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    من بين المعايير المعتمدة في تحديد مقومات أي جنس أدبي، ثم ضبط هويته وموقعه بين باقي الأجناس الأدبية، هناك: مستوى الصياغة التي تهتم بتشكيل الخطاب، وطبيعة المضامين التي تتقيد بالدلالة المقصودة، بالإضافة إلى كيفية تقديمها، ونوعية التركيب الذي يسم أسلوب الكتابة، ويهدف به الكاتب إلى تبليغ ورسم أبعاد خطابه، ثم الوظائف الخطابية التي تدل على آثار الخطاب وتكشف عن آفاقه.
    فجميع هذه المعايير وغيرها تقتسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وتجعل منه في النهاية شبكة من الموضوعات الأساسية والفرعية، تقوم بالحفاظ على توازنه الإبداعي، بحكم أن كل موضوعة تمثل مركز ثقل خطابي، وقطبا يختزل شحنات دلالية، تنتظم بدورها نسيج العلاقات الداخلية للخطاب، وسنحاول في هذا المقال أن نكشف بإيجاز شديد مظاهر خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وأن نبحث في مكوناته الكبرى، وفي طبيعة حمولته المتنوعة، اقتناعا منا بأن الخطاب الأدبي ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو مظاهر ومكونات أكثر تشعبا، وكائن ينطوي على خفايا وأسرار، ويتشرب عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته.
    ثم إن الحديث بالدرس والتحليل عن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يعني كذلك البحث في بواعثه ودرجة الصدق التي ينطوي عليها، ونحن نطمح في هذا الفصل من الأطروحة إلى أن نحيط أكثر بهذه المحاور، وإلى أن نوسعها نقدا و توضيحا، على أن نتخذ هذه الخطوة ـ التي تقتضيها الضرورة المنهجية ـ تمهيدا مفصلا في مدارات، قبل الانتقال إلى معالجة ميثاق قراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وبواعث تلقي هذا الضرب من الأدب الإسلامي.
    ونحن عندما نتناول بالفحص متن هذا الفرع الأدبي الإسلامي الحديث، لا نجد أنفسنا أمام مادة أدبية يستعصي فهمها وتأويلها، أو إزاء خطاب أدبي يتعذر علينا الوصول إلى معرفة تامة به، ذلك لأننا لسنا بصدد خطاب أدبي تخييلي، تتداخل وتتلاحم فيه العناصر الواقعية بالعناصر الخيالية، وإنما نحن نطرق باب خطاب لا يقترح عوالم تخييلية، سواء من داخله أم من خارجه، وبالتالي يعرض تجارب ذاتية إنسانية واقعية.
    ثم إننا نرى أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يتمتع بحياة متعددة، بحكم ارتباطه بالأزمنة الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، مما يؤهله ليكون إشارة مفتوحة على كثير من المعاني والدلالات، على الرغم من التباين المبدئي القائم بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية التخييلية.
    فلا سبيل إذن إلى إسقاط طبيعة الخطاب الأدبي التخييلي على الطبيعة الخاصة بخطاب السيرة الذاتية المعتمدة على التجربة الواقعية، ثم لا يحق لنا أن نبرر عملية الإسقاط باحتمال اتفاق الهدف، وبكون باب التأثير المتبادل بينهما سيظل مفتوحا، و ناء على ما تقدم ذكره، نجد أنفسنا لا نشاطر رأي جورج ماي (GEORGES MAY) في هذه المسألة، إذ عوض أن يفضي به البحث إلى رسم حدود صارمة، تفصل ما بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها، نراه يؤكد على عدم وجود أي حد فاصل بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية.
    ويكفي أن ندفع هذا الرأي بالتنبيه إلى ما يتفرد به خطاب السيرة الذاتية من قراءات متميزة، سواء كانت عادية أم نقدية أم إبداعية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي سيتعامل بها القارئ مع هذا النص أو الخطاب الأدبي، وهي بداهة ليست نفس الكيفية التي سيتعامل بها نفس القارئ مع نص قصصي، أو نص روائي، أو نص شعري على سبيل المثال .
    ثم إن من الخصائص الجوهرية للسيرة الذاتية كون صاحبها عاجز عن بلوغ الغاية المتمثلة في "الموت"، وقول الكلمة الأخيرة في حياته، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية هو رحلة تبدأ من حاضر الكتابة وتنتهي إليه، وهي الرحلة التي تتم في حركة دائرية ببعديها الزماني والمكاني، لكن هل صحيح أن خطاب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتجاوز أحادية رجع الصوت الواحد؟ وأنه يفتقر إلى إمكانات الرواية الإبداعية ؟!
    ونحن لا نتفق مع من يرى هذا الاعتقاد، لأن ما نصادقه للوهلة الأولى من رجع الصوت الواحد في خطاب السيرة الذاتية، ليس في الواقع وجوهر الأمر إلا مرآة تتراءى على صفحتها عدة أصوات، ومدخل إلى عالم يحفل بتعدد أصوات قراءة أدب السيرة الذاتية.
    إن قراءة خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يجب أن تتم بحس واقعي، بخلاف باقي الخطابات الروائية وغيرها، مما ينتمي إلى الأجناس الأدبية التخييلية، التي ستقرأ بحس تخييلي، لكن هذا لا يعني أن هذه الخطابات لا علاقة لها بالواقع، أو أنها ذات مضامين جوفاء؛ بل إنها في الحقيقة عبارة عن منافذ تفضي في أغلبها بالمتلقي إلى الحياة الواقعية بأدق تفاصيلها.
    فما أدب السيرة الذاتية إلا جزء من الظاهرة الإبداعية على المستوى العام، وهذا شأن كل الخطابات الأدبية التي تحكي التجارب الواقعية، وكل من يلقي نظرة متأملة على مختلف الاتجاهات الأدبية في مختلف المراحل التاريخية، يعثر على ذلك التجاوب القائم بينها وبين جميع مناحي الحياة الاجتماعية الواقعية، وهي اتجاهات تعكس نبض المجتمعات وما يسودها من مفاهيم وقيم.
    ثم إن غزارة وغنى المضامين والقضايا، وكثافة الموضوعات والأحداث التي نصادفها بوجه خاص في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، هي من بين المعطيات التي نادرا ما نعثر عليها في الأدب العالمي الحديث، شعره ونثره، ومن ثم ستبقى هذه المعالم من أبرز سمات الخطاب الأدبي الإسلامي، الأكثر تميزا واغترابا في هذا العصر، على الرغم من أنه عمل على ملء فراغ كبير، وحرص على تقريب المسافة بين الذات الإنسانية ـ العربية والأعجمية ـ والإسلام.
    وقد استطاع الخطاب الأدبي الإسلامي أن يجلي كثيرا من الحقائق التاريخية، التي أفرزها مجرى التحولات والاضطرابات في العالم العربي الإسلامي الحديث، حتى إنه يمتلك من خلال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من الخصب والتنوع، ما قد لا تمتلكه السيرة الذاتية، وهي الجنس الأدبي المنفتح على المضامين الأكثر تشعبا .
    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة نتيجة نهائية لتراكيب ومناهج معينة؛ إنه من جملة الخطابات الأدبية الإسلامية المرتبطة أصلا بذات مسلمة فاعلة، وذاكرة إسلامية حافظة، ثم إن هذا الخطاب الأدبي الإسلامي ينفرد بخاصية جوهرية، وهي أن الذات المنتجة له ليست أحادية، وإنما هي ثنائية: عربية وأجنبية، كما أنه خطاب ذو قواسم مشتركة يكمل بعضها بعضا، على الرغم من اختلاف المعطيات البيئية، والثقافية، والاجتماعية و غيرها بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الأجنبية.
    ثم إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، دورا كبيرا وفعالية لا تقل أهمية عن باقي خطابات الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بكثير من الإنتاجات الأدبية الغربية، التي لا صلة لها بواقع الحضارة الإسلامية، وأخلاق المسلمين، وثقافتهم، وعقيدتهم .
    ونحن موقنون بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة سيظل أحد أبرز مظاهر الأدب الإسلامي المتميزة في العصر الحديث، وأداة خطابية مؤهلة لتحقيق تواصل أدبي فاعل ومثمر، فضلا عن اعتباره مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ومعينا لا ينضب من المواد التاريخية، والاجتماعية، والنفسية الموحية، ومن العناصر الفنية التي تبعث على الإبداع الأدبي، إذ باستطاعة كل أشكال التجارب الذاتية، والمعاناة، والأفكار، والرؤى، والمواقف، والمشاهد المسترجعة، وكذلك الفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا فنيا وحدسا جماليا رفيعا.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  5. #5

    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل التجديد والإبداع
    بعد انتهاء طور البحث عن الذات وتمثل الهوية العربية الإسلامية، اتسعت دائرة الوعي الحضاري لدى الإنسان العربي المسلم، وتنامت في أعماقه قوة الإحساس بأهمية التأريخ الفردي في بناء تاريخ الجماعة، ومن ثم خلص به عصر النهضة إلى طور التجربة والتعبير عن الذاتية الفردية ، ومن خلالها عن الذات الجماعية، وعن الكيان العربي الإسلامي.
    لقد كان للتحولات الجديدة ـ في مستهل العصر الحديث ـ بالغ الأثر على الذات العربية المسلمة، التي دخلت عهدا حاسما في مسيرتها الحضارية المتعثرة، وكانت جميع هذه التحولات شحنة قوية، أسهمت كثيرا في تجنيس أدب السيرة الذاتية داخل العالم العربي الإسلامي.
    ولا شك أن السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، في شكلها الأدبي الفني، قريبة النشأة، إذ لم تعرف أي تطور منهجي فني إلا مع حلول العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، حيث تحولت إلى لون جديد من التجربة الفردية والتمثل الذاتي، وهو لون أدبي ارتبط وجوده بمختلف أشكال المعاناة التي ابتليت بها الذات العربية المسلمة، وجاءت نتيجة عدة تراكمات تاريخية في حياة الشعوب العربية المسلمة.
    لقد أفاد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية المحدثون مما في تراث الأدب العربي الإسلامي، ومما اطلعوا ووقفوا عليه في الآداب الأجنبية، كما استطاع معظمهم أن يخطوا بقيم، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية ـ سواء الفنية التعبيرية أم الشعورية ـ خطوات ملحوظة وذات أبعاد بالغة الأهمية، وقد تأتى لهم هذا الكسب الأدبي الثمين بفضل الأشواط الكبيرة التي قطعوها في مجال الكتابة الأدبية، والتجارب الغنية التي عرفها الإبداع الأدبي العربي الإسلامي بوجه عام، وأدب السيرة الذاتية بصفة خاصة، وذلك في ظرف تاريخي أكثر اضطرابا وتوترا.
    ثم إنه بقدر ما اطلع الكتاب العرب المسلمون قديما على ما كتبه الفارسيون واليونانيون من سير ذاتية في العصر العباسي، بقدر ما عرفوا حديثا الكثير مما ألفه منها الغربيون، وقد استفادوا في هذا الباب من مناهجهم المتبعة في الكتابة، حتى إن من الباحثين العرب من يرى بأن اطلاع الرومنسيين العرب على الآداب الغربية مكنهم من التعرف على أجناس أدبية جديدة، ما ألفها العرب من قبل، بمثل ما رسخت به عند الغربيين من أصول ثابتة وقواعد متداولة، بحيث كانت هناك محاولات في الإنتاج الأدبي الرومنسي لتفعيل الرواية، والقصة، والمسرح، وأجناس جديدة مرتبطة بأدب السيرة الذاتية، مثل المذكرات وغيرها.
    ولا شك أن كثيرا مما يندرج في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد احتفل بجملة من المعالم الفنية، التي صارت من التقاليد المتبعة حديثا في كتابة السيرة الذاتية، بحكم أنها تبعث القارئ على تلقي هذا الضرب من الأدب والتفاعل معه.
    فهل كان سلطان الشعر على الثقافة العربية هو العامل الذي حال دون اتساع الأدب العربي الحديث للأجناس الأدبية الجديدة: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، والمسرح؟؟
    ثم إن أدب السيرة الذاتية الذي رأى النور في العالم العربي الإسلامي، ابتداء من مطلع القرن الماضي، لم يضق بما رحبت به الحياة الاجتماعية، والعقدية، والفكرية، والسياسية، التي يحياها الكتاب العرب المسلمون، ومن ثم انفردت بقيمة معرفية وأدبية تاريخية متميزة، خاصة وأنها آثار أدبية شاهدة على معاناة وهموم، وانشغالات وطموحات الذات العربية المسلمة، ولا شك أن الطور التجنيسي الذي عرفه مسار أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد شهد ذلك الصدام القوي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي.
    ونستطيع أن نتبين لدى كثير من الكتاب العرب المسلمين المحدثين، الذين طرقوا باب أدب السيرة الذاتية، ذلك الشعور المتنامي بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، وذلك النزوع القوي إلى الثورة والتمرد على عدد من الأفكار، والتقاليد، والطقوس المتوارثة، و الجملة، فإننا نصادف في أعمالهم مناحي ومنازع مستجدة، لم يكن لها حضور مكثف في تراث الأدب العربي الإسلامي.
    ومما يجدر ذكره كذلك، هو التزام أكثر كتاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث ـ سيرا على نهج أسلافهم ـ بطبيعة الروح الإسلامية، التي تنكر بقوة ظاهرة التعري النفسي الساقط، وترفض بكل صرامة خدش الحياء أو تجاوز المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية، وتعبر عن الحرص الشديد على سلامة الفطرة الإنسانية، حتى لا ينال منها أي زيغ أو فساد.
    ومن جملة ما اتسم به طور تجنيس أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، أن كثيرا من كتاب هذا الأدب لم يميلوا إلى تمجيد ذواتهم والعجب الشديد بها، كما أنهم اتصفوا بصدق الحديث ونظرتهم الموضوعية إلى ذواتهم وغيرها من الموضوعات، ثم إننا نجدهم يحصرون عاطفتهم نحو المرأة بإشارات سريعة دون المكاشفة الفاضحة.
    ثم إن تطور العلوم، واتساع دائرة الاكتشافات، وكذا الانفتاح على آفاق جديدة في مختلف مناحي الحياة، وتوالي تراكم أنماط متنوعة من المحدثات الفكرية، والاجتماعية، والسياسية؛ جميعها عوامل ساعدت كاتب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي على الاقتراب من ذاته بالوصف الصادق الدقيق، مجتهدا في الابتعاد عن نزعة الغرور، وحريصا على أن يكون في منأى من أي تحيز.
    وعلى إثر هذا التحول الذي نمى ورفع من مستوى وعي الكاتب بتقاليد الكتابة ذات التقاليد الموروثة والمحدثة والفاعلة في صياغة أدب السيرة الذاتية، صار للأدب الذاتي والتأريخ الفردي الخاص في مختلف الآداب العالمية، وفي الأدب العربي الإسلامي بوجه خاص، مفهوم ومدلول شبه مستقر، وصورة أكثر وضوحا في الأذهان، فغدت له هوية أدبية تاريخية، تميزه عن باقي الأجناس الأدبية، ومكانة فنية جمالية.
    ومن المؤكد كذلك أن الصفة الفنية لم يتم تحقيقها للسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة إلا عبر الفن الروائي، مرورا بالفن القصصي، الذي أسهم كثيرا ـ و منذ طور تأسيس أدب السيرة الذاتية العربية ذات السمة الإسلامية ـ في إمداد الكتابة التي تتخذ الذات موضوعا بالهوية والسمة الفنية، وبالتالي كان يمثل البوابة الأولى التي مكنت أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية من الدخول في طور التجنيس.
    وقد ساعد تطور النقد الأدبي والنظرية الأدبية في العصر الحديث، من خلال مجموعة من التيارات والمدارس على تطوير أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وتكوين ثقافة ورصيد معرفي خاص بهذا الفرع الأدبي الإسلامي.
    ومن بين أهم معطيات هذا التطور المطرد، نذكر: ظاهرة النزوع إلى التصنيف والتجنيس الأدبي، بحيث لم يعد التنظير منحصرا في عموم الشعر ومجموع النثر؛ بل اتسع مجاله ليشمل الأجناس الأدبية، وأشكال ومكونات كل جنس أدبي على حدة.
    ثم إن من عمق هذا التطور في الفعل النقدي والتنظيري، تمكن أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة من إحراز كيان أدبي مستقل عن كتابة التاريخ العام، أما التحول النوعي الكبير، الذي عرفه تاريخ هذا الأدب، فتمثل في كتابة السيرة الذاتية الفنية.
    لقد مر أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بثلاثة أطوار تكوينية رئيسة:
    أولها: طور التأسيس، أو مرحلة التجريب والمحاولات الأولى في تاريخ الأدب العربي الإسلامي.
    ثانيها: طور الإحياء والبعث، أو مرحلة المحاكاة والتقليد.
    ثالثها: طور التجنيس، أو مرحلة التجديد والإبداع.
    وهذه الأطوار التكوينية الثلاثة أثمرت بدورها ثلاثة ضروب من أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثلاثة أنماط من الوعي موازية لها تاريخيا، فأما ضروب هذا اللون الأدبي، التي عرفت على التوالي، منذ القرن الثالث الهجري، الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية اليوم، فهي:
    الأول: السيرة الذاتية التأسيسية، التي سادت ابتداء من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى غاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وبذلك يكون هذا الضرب قد امتد حوالي سبعة قرون من التاريخ
    الثاني: السيرة الذاتية التقليدية، التي امتد وجودها ابتداء من القرن الثالث عشر الهجري/ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وطوال القرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية حدود النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ بداية القرن العشرين الميلادي، بعد مضي أربعة قرون تقريبا من الركود الشامل ، الذي عانى منه العالم العربي الإسلامي.
    الثالث: السيرة الذاتية الفنية، وقد سجلت حضورها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي، لكن ما يسمها حتى اليوم هو كمها القليل، فهي تحاول أن تثبت وجودها وتضرب بجذورها الفنية عميقا في أرض الثقافة الأدبية العربية الإسلامية، وأما أنماط الوعي التي واكب كل واحد منها وتزامن مع أحد الأضرب التي ذكرنا، فهي التالية:
    الأول: الوعي التأسيسي، و هو وعي التجريب الذي ساد في الحقبة الأولى.
    الثاني: الوعي التقليدي، وهو الوعي الذي جمع بين الإحياء والمحاكاة.
    الثالث: الوعي التجنيسي، ونقصد به النزوع بحس فني وجمالي إلى تحديد ماهية، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، في ضوء مستحدثات التجديد ومستجدات النقد والإبداع.
    وثمة ثلاث ظواهر أو معالم بارزة طبعت مسيرة أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية، وذلك ابتداء من العقد الثالث في القرن العشرين، وهي:
    الأولى: تمثلت في التحول من كتابة السيرة الذاتية التقليدية إلى تأليف السيرة الذاتية الفنية، وهذا التحول الكبير يشهد على مدى تطور مستوى الوعي بأدب السيرة الذاتية، ثم بحجم الإضافة الثقافية، التي أغنت المنظومة المعرفية الخاصة بهذا الجنس الأدبي.
    الثانية: تجسدت في استكمال أدب السيرة الذاتية لشروط ومقومات الجنس الأدبي.
    الثالثة: اختزلتها الكتابة في دائرة المكونات الكبرى ـ أو ما يسمى بالأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بخطاب أدب السيرة الذاتية.
    أما الظاهرتان: الأولى و الثانية ، فكانتا بحق تجسيدا لتطور جلي، و تحول بارز عرفه تاريخ الأدب العربي الإسلامي في العصـر الحديث، و تحديدا سنة 1929 ميلادية، لما نشر طه حسين الجزء الأول من سيرته الذاتية "الأيام "، فكان هذا الحدث مدخلا إلى طور التجنيس في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثمرة احتكاك ثقافي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي، أما كتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، فعلى الرغم من سبقه في البلاد العربية بأزيد من سبعة عقود قبل بزوغ كتاب (الأيام)، إلا أن التسليم بكونه سيرة ذاتية فنية مكتملة يعد من قبيل الإسراف في الوصف والحكم.
    وأما الظاهرة الثالثة، فتجسدت في ذلك النزوع من قبل الكتاب العرب المسلمين المحدثين إلى إدراج مجموعة من إنتاجاتهم الأدبية في إطار أحد أو جملة من المكونات الكبرى ـ الأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بجنس السيرة الذاتية، إذ قاموا بتصنيف بعض من كتاباتهم تمييزا لها، وذلك تبعا لعدد من الاصطلاحات الأدبية الدالة على مكون خطابي معين، مثل: المذكرات، والذكريات، والاعترافات، واليوميات، ومما يثير الاستغراب في أكثر الأبحاث والدراسات العربية، التي عالجت أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، هو احتفالها بما كتب في هذا الباب من طرف أدباء وعلماء المشرق العربي، وخلوها من أدنى إشارة إلى حظ المغرب العربي من هذا الأدب !!
    ثم إن من جملة ما أثار انتباهنا في بعض الدراسات التي تناولت أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة، هو ذلك الاختزال ـ الذي كان يطل علينا بين الحين والحين ـ المقصود ربما أو غير المتعمد لهذا الضرب من الأدب في السيرة الذاتية المصرية، واتخاذها مقياسا، وهذا يذكر بما ساد ويسود من اعتقاد حول مركزية مصر الأدبية.
    وإذا كان الأدباء والعلماء العرب المسلمون قد أسهموا بحظ من كتاباتهم في التأسيس لأدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وهي كتابات موسومة بخصائص معينة، فإن أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر على حد سواء، قد خطا به الكتاب المحدثون خطوات نوعية في سبيل تجنيسه.
    لقد تحققت في بعض من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة جملة من السمات، التي تشهد له بالدخول في طور التجنيس، ويكفي أن نذكر منها :
    1 ـ تقصي أثر الأحداث في باطن الذات الكاتبة.
    2 ـ الكشف عن أهم الجوانب من الحياة الفردية، وبسط الحقائق المتصلة بها.
    3 ـ تصوير الصراع الداخلي والخارجي.
    4 ـ الحديث عن أثر الوراثة والبيئة في تكوين الشخصية.
    5 ـ سرد الأحداث والوقائع حسب التسلسل الزمني.
    6 ـ الكشف عن معالم الأمكنة والأزمنة.
    7 ـ الترسل في السرد، والابتعاد عن الأسلوب التقريري الجاف.
    8 ـ توظيف الأساليب المقالية، والقصصية، والروائية.
    9 ـ التزام الصدق وقول الحقيقة في حدود معينة.
    10 ـ الإفصاح عن باعث أو بواعث الكتابة.
    ثم إن من سمات أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في طوره التجنيسي، ذلك الميل الذي نلمسه بوضوح لدى أصحابه إلى توظيف الألفاظ والعبارات الدارجة في الحوار وغيره، ولنا في ما كتبه عدد من ألفوا في هذا الباب أمثلة كثيرة، وكان من شأن توظيف الكلمات الدارجة العامية ـ خاصة المصرية منها والمغربية ـ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن مكن الكتاب من إضافة بعض القيمة الأدبية، المتمثلة في التصوير الفني للوقائع والأحداث، وللمشاهد والمواقف المختلفة، ثم تقريبها أكثر من القارئ، وذلك بقصد أن تنجلي في ذهنه، ورغبة من جهة ثانية في الحفاظ على الشحنة الدلالية للألفاظ والعبارات العامية في سياقات تعبيرية محددة، والباعث على هذه الرغبة، هو الحرص على نقلها بأمانة إلى المتلقي.
    أما وقد بلغنا هذه الغاية من الختم، فإننا نأمل أن تكون هذه المساهمة المقالية المتواضعة باعثا على بحث ودراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومثيرا في ذات الوقت لأكثر ما يمكن من الأسئلة النقدية ذات الصلة بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي غير يسير من التهميش، بقدر ما ناله من التجاهل نيلا منكــــرا ... فهل من رد للإعتبار؟
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  6. #6

    آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    إن لجنس السيرة الذاتية أنفاسا فنية، تتردد في كل الأعمال الأدبية: الشعرية والنثرية، فهو جنس يمثل الخفاء الذاتي في عمق الخطاب الأدبي، بينما تعيش "الذات" في أدب السيرة الذاتية أقوى تجلياتها، وذلك من خلال إعلان الكاتب عن نفسه بكشف (أناه) الساردة، وإبرام عقد مصارحة مع القراء، وبناء على هذا الطرح، فإن السيرة الذاتية تمثل النص الغائب في مجموع الكتابات الأدبية، المندرجة في باقي الأجناس الأدبية، أو الخطاب المتواري الذي لم يجسد أصحابه مادته اللغوية بعد.
    وعلى الرغم من غياب هذا التجسيد الأدبي لدى أكثر الكتاب، فإن إنتاجاتهم النثرية والشعرية تحمل منه قليلا أو كثيرا، وهذا واقع بالإمكان أن نهتدي به إلى الإقرار بأن ثمة عملية تناص بين الأعمال الأدبية الحاضرة، سواء كانت قصة، أم رواية، أم قصيدة، أم غيرها والأعمال الأدبية الغائبة، وعلى رأسها السيرة الذاتية، ولكي يمسك الكاتب سيرته، نراه يلجأ إلى التأليف في دائرة مختلف الأجناس الأدبية، فيتخذ منها مركبا وجسرا يعبر على متنه إلى حيث يلقى حقيقة وجوده وماهيته في هذه الحياة.
    ولا شك أن السيرة الذاتية من أعقد وأصعب الأجناس الأدبية، بحكم أنها نشاط إبداعي ليس من السهل القيام به، لأن أكبر تحد يواجهه مؤلف السيرة الذاتية، هو كيفية الإحاطة بذاته كتابة على الرغم من اتصاله الوثيق بها، ولعل ما يسم مفهوم السيرة الذاتية من اختلاف محكوم بتنوع القراء ـ ومنهم أهل الاختصاص ـ وتشعب نظرتهم إلى هذا الجنس الأدبي، لمن أدل مظاهر الصعوبة التي تكتنف الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية.
    إن إمعان الأدباء، والمفكرين، والمؤرخين وغيرهم في الكتابة، ما هو إلا دليل على سعيهم الدائب إلى الإمساك بحقيقة وجوهر ذواتهم، خاصة إذا ما علمنا أن الباعث على كتابة السيرة الذاتية كثيرا ما تتم تلبيته في عمل أدبي آخر ينفرد بأهمية متميزة لدى الكاتب.
    وعلى أساس هذا المبدإ، تتحول ذات المبدع إلى أفق انتظار، وملمح يصل بين الحلم والحقيقة، بحيث أن للكاتب قناعة بكونه سيتمكن يوما من إدراك سر الذات الإنسانية و لغز الحياة، ثم إن المسافة الإبداعية التي يقطعها من يكتب سيرته الذاتية بحثا عن حقيقة ذاته ووجوده، ما هي في واقع الأمر إلا تجربة معرفية، يقدم عليها ليكتسب وعيا بذاته والعالم الذي ينتمي إليه، فهو في ترحال دائم بقصد البحث عن توازنه واستقراره، ولاكتشاف مجاهله، ورفع الحجاب عما خفي من حقيقته البشرية.
    إن جدلية الخفاء والتجلي، التي تسم فضاءات الذات الساردة لتاريخها الفردي، تثير ـ على ما يبدو ـ مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس وتدعو الناقد، والباحث، والمهتم عموما بأدب السيرة الذاتية إلى إعمال النظر في مدى مصداقية هذه المسألة، ذلك لأن القول بالقطيعة في ما بين الأجناس الأدبية لا أساس له من الصحة، إذا ما تفحصنا جيدا واقع الكتابة الأدبية قديمها وحديثها.
    ونحن نعلم أن القدماء لم ينظروا إلى إنتاجهم الأدبي نظرة تصنيفية، تقوم على مفهوم الجنس الأدبي؛ وإنما نظروا إليه مصنفا إلى نثر وشعر أما مسألة الأجناس الأدبية، التي صارت متداولة حديثا، فهي إجراء منهجي خاص بالدراسات النقدية، يستعين به ناقد الأدب في البحث العلمي المنظم، وهذه الرؤية المزدوجة: التصنيفية والمنهجية لم تكن من قيم الأدب والنقد العربي الإسلامي القديم.
    لا شك في كون مختلف الأجناس الأدبية ـ شعرية كانت أم نثرية ـ تلامس جنس السيرة الذاتية، فهي تحمل من هويتها وملامحها، ومن روحها وظلالها الشيء الكثير، فكاتب القصة مثلا، أو المقالة، أو الرواية، أو القصيدة، يتمثل ذاته من خلال ما ينتجه بشكل أو بآخر، وهذا دليل راسخ الأركان، يزكي تأكيدنا على أن جميع الأجناس الأدبية ما هي إلا فضاءات تحايلية، وتجليات إبداعية، يحاور بها الكاتب ذاته ليعيها حق الوعي، ومن ثم تتسع دائرة التعبير الخاصة بأدب السيرة الذاتية.
    أمام هذه المعطيات والحقائق، لا يمكن للباحث إلا أن يتساءل بشأن أمور كثيرة، ولا يسعه إلا أن يحاول الإجابة على ما يصادفه من أسئلة اجتهادا منه، وذلك إسهاما منه في التنظير لأدب السيرة الذاتية، وإغناء الحوار الثقافي حول هذا اللون من التعبير المميز، على أمل أن تتكامل جهود الباحثين والمهتمين بدراسته في سبيل التوصل مستقبلا إلى إجابات مبنية على أساس علمي دقيق، لأن الوقوف على حقيقة جنس السيرة الذاتية وحدوده الإبداعية غاية لا بد منها.
    ومن هذا المنطلق نؤكد على ضرورة إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية، لا سيما إذا علمنا بوجود من حاول مجتهدا ـ بين المحدثين من نقاد هذا الأدب ـ وضع تعريف لهذا الضرب من الإبداع، بينما تجنب البعض الخوض في مسألة التعريف، وانصرف يدرس جملة من القضايا المرتبطة بأدب السيرة الذاتية.
    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مظهرا من مظاهر التعبير الحكائي، فهو ليس كيانا غريبا عن أدب الرواية، خاصة وأن الخطاب الروائي في العالم العربي الإسلامي يقدم لنا تاريخا للذات العربية المسلمة، مما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث سمة ملازمة للسرد الروائي الحديث.
    والملاحظ أن الكاتب العربيالمسلم هو في حاجة بالغة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، إلى كتابة تاريخه الخاص، وتدوين سيرة الأمة أو تاريخ الذات الجماعية من خلال ذلك التاريخ، وبسبب هذا النزوع الواعي يلامس ـ في الغالب ـ منحى أدب السيرة الذاتية المنحى التاريخي.
    وعلى الأرجح يتضح جليا ذلك التجاذب القائم بين الخطاب الروائي وخطاب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، الذي يوحي في بعض الأحيان ببلوغه درجة التماهي، التي تصير معها الكتابة الروائية وكأنها وسيلة للتأريخ الضمني لما هو ذاتي، وجماعي، وموضوعي.
    وبإلقاء نظرة على تاريخ الظواهر الأدبية في العالم العربي الإسلامي، سنجزم بكون أدب السيرة الذاتية متأصل فيه منذ زمن بعيد، بخلاف الفن الروائي الذي عرف نهضته القوية وتطوره السريع في العالم الغربي، مع صعود الطبقة البورجوازية، التي عبرت به عن كيانها، وذلك قبل أن يتحول إلى أدب مطروق لدى مختلف الطبقات الاجتماعية.
    وعلى الرغم من التأثير الغربي، فإن الكتابات الروائية العربية ظلت موسومة بروح السيرة الذاتية، وهذا لا يعني أن هذا التوجه في الكتابة الأدبية ينفرد به المؤلفون العرب وحدهم في العصر الحديث؛ بل حتى كتاب الرواية الأجانب نهجوا هذا المنحى في التأليف.
    إن المثير حقا في أمر التجربتين السرديتين: العربية والأجنبية ـ خاصة الغربية ـ هي هذه العودة إلى قراءة الذات واقتفاء أثر التجارب الفردية الماضية، إذ في الوقت الذي نجد فيه الرواية العربية ما تزال من النمط الذاتي الشخصي، نرى الكثير من الكتاب الغربيين يستهلون مسيرتهم الإبداعية بكتابة الرواية، وبعد ذلك ينصرفون إلى تأليف سيرتهم الذاتية.
    ثم إن هذه الظاهرة تبعث على الاعتقاد في كون الكتابة الروائية لم تعد تستجيب لطموح الكاتب الغربي وقوة رغبته في التعبير، ربما لأن الذات الغربية الكاتبة أدركت بأن هذا اللون من الإنتاج الأدبي ليس بإمكانه استيعاب حياتها الفردية، وأهم ما تريد أن تفضي به إلى الآخرين، مما جعلها تعمد إلى كتابة السيرة الذاتية، بهدف إشباع رغبتها في الإفصاح أكثر، وتحقيق تواصل مكثف وفاعل مع القراء.
    ولعل أهم الأخطاء التي أوقعت عددا من المؤلفين العرب، اختزلته الكتابة انطلاقا من أفق غريب عن الذات العربية المسلمة، والذي تجسد في هاجس الكونية أو العالمية، خاصة عندما صار بؤرة اهتمام لدى طائفة من الكتاب في العالم العربي الإسلامي، الذين حاولوا تهميش أدب السيرة الذاتية لصالح الكتابة الروائية، اعتقادا منهم في سلامة هذا النهج، وطمعا في أن يرقى أدبهم إلى مستوى العالمية، وأن يتخذ سمة إنسانية كونية، فأضاعوا باختيارهم هذا المنحى الطريق إلى المحلية والعالمية معا، في حين كان عليهم أن يحققوا ويحفظوا لأدبهم هاتين الخاصيتين من خلال الاهتمام بأدب السيرة الذاتية.
    فهل عرفت الرواية العربية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية؟ ثم هل ما نلاحظه من تصوير الكتاب العرب حديثا لحياتهم باعتماد الصياغة الروائية دليل على اقتدائهم بالكتاب الغربيين في هذا النهج؟
    ثم هل الرواية العربية الإسلامية ـ كما الرواية المغربية ـ مرشحة للبحث والدرس النظري والتطبيقي من زاوية أدب السيرة الذاتية، الذي يسود فيها حيزا كبيرا؟ أم أنها بلغت سن الرشد حقا، والمتمثل من جهة في تقلص درجة التطابق والتماهي ما بين الكاتب وأبطاله في الرواية، وفي تراجع المكون الواقعي الذاتي من جهة ثانية؟
    ثم إننا نطرح سؤالا آخر حول مدى صحة الاعتقاد في كون الكتاب العرب المسلمين يستهلون مسيرة كتاباتهم الأدبية بتأليف سيرهم الذاتية، التي يتخذونها جسرا يبلغون به كتابة الرواية، بخلاف الكتاب الغربيين، الذين يبدؤون بالكتابة الروائية ليعبروا من خلالها إلى كتابة سيرتهم الذاتية؟
    إن ظاهرة التحول من كتابة السيرة الذاتية إلى الكتابة الروائية في العالم العربي الإسلامي، سجلت حضورها ابتداء من منتصف القرن العشرين، لكن هذا التحول لم يعرفه جميع الكتاب؛ بل إن عددا منهم هو الذي خاض هذه التجربة، وتحديدا أولئك الذين مارسوا الكتابة الروائية تقليدا، واتخذوا من تجاربهم الذاتية، ومن التقاليد الخاصة بكتابة السيرة الذاتية أو التي تسم أحد مكوناتها الكبرى: مذكرات، أو ذكريات، أو اعترافات مادة وصياغة روائية، وهذه إشارة دالة تجعلنا نتساءل من جهة حول مستقبل الكتابة الروائية العربية الإسلامية؟ وعن مدى إمكانية تحولها إلى قناع يتستر خلفه وجه السيرة الذاتية؟
    ومن جهة ثانية تبعثنا الإشارة ذاتها على السؤال عما إذا كان عمق الجدلية القائمة بين الرواية والسيرة الذاتية دليل على عودة قوية ومرتقبة لأدب السيرة الذاتية إلى الواجهة الإبداعية والنقدية؟ ثم ألا يستحق أدب السيرة الذاتية أن يكون الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير الإنساني في العصر الحديث؟
    إن ما نراه في أفق الإبداع الأدبي على صعيد العالم العربي الإسلامي الحديث، هو تلك العودة المرتقبة والقوية لأدب السيرة الذاتية عموما والإسلامية بوجه خاص، ورؤيتنا هذه ليست نابعة من فراغ؛ بل هي مبنية على معطيات جد هامة وجلية، نستطيع إجمالها في كون تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية سجل انبعاثا قويا في عدة ظروف ومحطات تاريخية متأزمة ومضطربة، وإن كانت متقطعة وغير متواصلة.
    ونحن نعتقد أن هذا اللون من التعبير الأدبي في العصر الحديث قد سجل منذ زمن بوادر عودته القوية، التي واكبت الضربات الأولى المتوالية على العالم العربي الإسلامي، والتي كان من أبرز نتائجها ومظاهرها انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وإذا كان معظم النقاد اليوم يجمعون على ندرة السير الذاتية العربية الإسلامية، فذلك لأنهم قليلا ما يصادفون سيرا ذاتية صريحة وغير مقنعة، يبرم فيها أصحابها مواثيق واضحة مع القراء.
    لكن هذا لا يعني في شيء ريادة الشعر أو غلبة الرواية في العصر الحديث، وإنما الريادة الحـقة والغلبة المؤكـدة ـ تبعا لما نعتقده ونذهب إليه من اجتهاد في الرؤية ـ هي لأدب السيرة الذاتية، وإن كان يحتفل بنفسه بين التجلي حينا والخفاء في كثير من الأحيان، وذلك على امتداد الكتابة الإبداعية شعرها ونثرها، وهذه حقيقة قليلا ما ينتبه إليها دارسو الأدب العربي الإسلامي والباحثون فيه.
    إن العصر الأدبي الحديث ـ خاصة في البلاد العربية الإسلامية ـ هو عصر أدب السيرة الذاتية بامتياز كبير، إذ أن ما يميز هذا العصر من نماء الروح العلمية، التي لا تخلو في الغالب من أي دراسة، يجعل السيرة الذاتية أقرب الأجناس الأدبية إلى هذه الروح من حيث قوة النزوع إلى البحث عن الحقيقة الإنسانية والتاريخية.
    فهل نستطيع القول بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة صار يمثل ديوان العرب وغير العرب المسلمين؟ وأن أدب السيرة الذاتية بوجه عام أضحى ذلك الأفق المفتوح، الذي يحتضن كل ضروب الإبداع الأدبي، ويستقي منها الكثير من الخصائص والسمات؟
    هذا مقال آخر أو حلقة أدبية نقدية أخرى من سلسلة مقالات جد مركزة حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية بوجه خاص، وحول جنس أدب السيرة الذاتية بوجه عام، وما هي في البدء والمنتهى إلا جملة من الكتابات النقدية الهادفة إلى دعوة ذوي العناية الأدبية والاهتمام النقدي بقصد إسهامهم في إعادة تمام الاعتبار لأدب السيرة الذاتية، ومنح هذا الضرب من الأدب نثره وشعره حق قدره، فهل ثمة في الأفق القريب من أقلام إبداعية نقدية وثابة متحمسة لما ندعو إليه صادقين؟
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  7. #7
    أدب السيرة الذاتية واغتراب الذات المسلمة في العصر الحديث
    تعتبر مقولة "الاغتراب" من أكثر القضايا إثارة للجدل، ليس بسبب ما يكتنف معناها، أو ما يشوب أبعادها الدلالية من غموض، ولكن بسبب كثرة المفاهيم التي صيغت ووضعت لها، ثم تنوع استعمالها وتوظيفها في سياقات مختلفة؛ إنها من قضايا الإنسان الكبرى التي لا تتغير مع توالي الأزمان، باعتبار صلتها الوثيقة بوجوده ومصيره.
    ولا شك أن الاغتراب ظاهرة إنسانية، ومكون من جملة المكونات الخاصة بالطبيعة البشرية؛ بل إنه معاناة ناتجة عن ذلك الاصطدام بين المؤثرات الخارجية، أو طبيعة الحياة السائدة في محيط اجتماعي معين من جهة والقيم الإنسانية الراسخة من جهة ثانية، سواء في الذات الفردية أم في الذات الجماعية، باعتبار أن الاغتراب حال تعتري الفرد بقدر ما تعتري الجماعة.
    ثم إن للاغتراب آثارا مختلفة ومتضاربة إلى حد التناقض، إذ أن بعض الناس يرون فيه تجربة رهيبة لا تنتهي، بينما يعيشه البعض الآخر راضيا مطمئنا، بعد أن تعذر عليه الانسجام مع محيطه الاجتماعي وبيئته المكانية، التي هيمن فيها كل ما هو دخيل على ما هو أصيل، لكن المعاناة الإنسانية، بدون شك، تزداد شدة وحدة في واقع تهيمن فيه المتغيرات والانحرافات على كافة المستويات، والتي يتم تكريسها بالقوة والإكراه على حساب الثوابت ومناهج الحياة السوية، حتى إن طغيان كل ما هو دخيل وغريب في المجتمع الإسلامي جعل الإنسان المسلم يحس بالاغتراب المتعدد الأوجه، فهو غريب عن ذاته، وعن بني قومه، وعن ثقافته وتاريخه.
    ومن المرجح أن نعثر على جذور اغتراب معين في داخل كل ذات إنسانية وفي كل عمل أدبي، إلا أن الاغتراب كيف ما كانت طبيعته، يزداد حدة و تشعبا مع مرور الزمن، وما تعانيه المجتمعات الإنسانية من اغتراب في العصر الحديث شاهد على هذه الحقيقة، وهو العصر الذي غدا فيه الاغتراب شعارا وسمة غالبة، واكتسب فيه مفهومه عمقاملحوظا، بسبب ما تعرفه العلاقات الاجتماعية من تعقيدات، وما تشهده المجتمعات من تطور، وكذلك بسبب ما خلفه الاستعمار بكل أشكاله من آثار سلبية، وما أفرزته الحضارة المادية مـن سموم مدمرة للإنسان، وقاتلة للحياة الإنسانية.
    أ ـ الاغتراب الديني
    إن الشعور أو الإحساس بالاغتراب يختلف من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، تبعا لطبيعة المجتمع والعصر من حيث القيم، والثقافة، والعقيدة الدينية السائدة فيهما، مع أن ظاهرة الاغتراب، سواء في العالم العربي الإسلامي أم في البلاد الغربية، تتخذ في الغالب سمات متنوعة، وتتجسد تبعا لظروف متباينة، لكن ثمة قاسما مشتركا ورئيسا، ذا طبيعة كونية بين الذوات المسلمة، بالإمكان أن نصفه بعبارة " الاغتراب الديني".
    هذا لا يعني أن الاغتراب الديني أو العقدي هو الوحيد الذي يعد قاسما مشتركا بين مجموع الأفراد الذين يدينون بالإسلام ؛ بل إن سمة الكونية تشمل قواسم مشتركة أخرى بين هؤلاء الأفراد، نذكر منها على سبيل المثال: "الاغتراب الاجتماعي" و"الاغتراب الفكري" و"الاغتراب العرقي" و" الاغتراب البيئي"، هذا فضلا عن كون ما نلمسه من اغتراب متمثل في افتقاد حرارة العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، وتنامي ظاهرة الإلحاد، والافتقار إلى الشعور بمعنى الحياة.
    والظاهر أن الإحساس بالاغتراب الديني من جهة، ومكابدة الاغتراب المتعدد الصفات من جهة ثانية، كان من أهم البواعث على كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، التي أتاحت لمؤلفيها صياغة شكل من أشكال تجاوز المعاناة، واسترداد بعض التوازن الذاتي من خلال التعبير عن عمق الحياة الباطنية والروحية.
    إن الذات المسلمة، عربية كانت أم غربية، تعاني اغترابا شديدا في العصر الحديث، سواء داخل وسطها الاجتماعي القومي أم في الوسط الاجتماعي العالمي؛ إنها تخوض مواجهة كبيرة ضد قوى الشر المعاكسة، التي تسخر وتحشد جهودها في حرب عنيفة حادة، مكشوفة حينا، ومقنعة أحيانا، من أجل القضاء على الإسلام وطمس الشخصية الإسلامية.
    ثم إن الإنسان المسلم ينظر إلى هذه المواجهة على أنها من سنن الحياة الإنسانية، التي تتجاذبها أسباب الخير والشر، وهي نفس الأسباب الدائرة في حلقة الاكتشاف والاكتساب، والمتدافعة كذلك في أعماق الإنسان، الذي لا تنفصل حياته عن عالمي: المادة والروح، بحيث تنظر الذات المسلمة إلى الواقع ببعديه: المادي والروحي، وتعي جيدا أن الكائن البشري يعاني في حياته الدنيوية من الضعف والضياع، بحكم اضطراب قواعده وقوانينه الموضوعة، وثبوت القوانين والقواعد التي سنها الله عز وجل لعباده في الأرض.
    إن الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، سواء المغتربة بعقيدتها أم المغتربة عن عقيدتها، تعيش وضعا مضطربا أشد الاضطراب، وجدت نفسها فيه مكرهة، وقد أحاطت بها عادات وتقاليد، وتصورات وسلوكيات، ومواد ثقافية ومناهج لا صلة لها بالإسلام، فكان حالها بوجه عام يشجع على العزلة والانفصال، أكثر مما يشجع على الاندماج والاتصال، بحكم أن الواقع الذي تم فرضه عليها يناقض التصور والمنهج الإسلامي ويصـطدم به.
    ثم إن الذات العربية المغتربة بعقيدتها، بذلت كل الجهد في سبيل الحفاظ على شخصيتها الإسلامية، فبدأت بالعودة إلى الإسلام، بقصد فهمه على حقيقته وتمثله بكيفية دقيقة، فكانت هذه العودة بالنسبة إليها جد ضرورية وحاسمة، وذلك حتى تستقيم لديها مبادئ الإسلام وقيمه، ويتضح في ذهنها التصور والمنهج الإسلامي الشامل، وقد أقدمت على هذه الخطوة لأنها أدركت بأن قضية العقيدة، المتمثلة في علاقة الكائن العاقل بخالقه، وبالكون، وبالأحياء، هي أولى القضايا وكبراها.
    لقد سعت الذات العربية المسلمة، المغتربة دينيا، في وسطها الاجتماعي أن تجمع بين اعتزال الأجواء الفاسدة والمختلة في الحياة، وربط الاتصال و بناء التواصل مع الجماعة الإنسانية، وذلك بقصد التأثير فيها، والاتفاق معها على رؤية عقدية واحدة، تتمكن الذات العربية المسلمة من خلالها من تجاوز اغترابها الديني من جهة، وتكسير اغتراب مجتمعها العربي عن جوهر عقيدته الإسلامية من جهة ثانية.
    وإذا كان الشعور بالاغتراب يجسد واقعا مشتركا بين الذات العربية المسلمة والذات المهتدية إلى الإسلام، سواء الغربية منها أم الأجنبية، فإن ثمة تمايزا بين الاغترابين من حيث الطبيعة، والمدلول، والرؤية، والموقع الخاص بكل ذات على حدة، بحكم التفاوت في درجات حدة ذلك الإحساس أولا، وباعتبار أن الذات العربية المسلمة تنتمي إلى واقع إنساني واجتماعي معين، له معطيات وسمات ذاتية بارزة.
    وكذلك الذات الأجنبية المسلمة لها واقع فردي وجماعي تنتسب إليه نشأة وثقافة، خاصة قبل دخولها في الإسلام، حيث كانت على دين أهلها، أو كانت على قيد حياة بغير معتقد، هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من التناقضات تسود بيئة كل من الذات العربية والأجنبية.
    إن الذات العربية المسلمة تعاني وتقاوم في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والدعوة إليه، أما الذات الغربية فتعيش معاناة من نوع آخر في سبيل العثور على حقيقتها المفقودة وسعادتها الضائعة، فتندفع بكل قوتها إلى البحث وطرح السؤال العقدي حول الدين الحق وسط تراكمات الجهل بطبيعة الأمور والمعرفة الخاطئة، وفي ظل صراع ذاتي ضد حقد دفين وكره لا حدود له للإسلام والمسلمين، تناقلته أجيال الغرب منذ الحروب الصليبية الأولى توارثا واكتسابا.
    ولا شك أن الأجواء المظلمة والمعاكسة، التي تحيط بالذات الغربية والأجنبية بوجه عام، تفسد عليها الحياة السوية، وتعمل على حجب الوجهة السليمة عنها، ولكن بقدر ما تشتد معاناة الإنسان الغربي، الذي يجتهد في سبيل التخلص من كل وعي خاطئ، أو فكرة موروثة، أو حكم مسبق جاهز، فإن القوة الدافعة له تتضاعف في مسار تحقيق التوازن بين التوازن بين عالمه المادي وحياته الروحية.
    ثم ما إن تعلن الذات الغربية والأجنبية عموما إسلامها جهارا في وسطها الاجتماعي حتى تبدأ أطوار اغترابها بين أهلها وقومها، فتتفاقم الهوة بينها وبينهم، لتدخل بعد ذلك شيئا فشيئا في شبه عزلة، وقد يتم اتهام كل من دخل في الإسلام بما يمكن تسميته بالخيانة الدينية، أو الارتداد عن دين الآباء والأجداد، فيظل في نظر أغلب قومه كائنا شاذا عن القاعدة، ومعتلا في عداد المرضى.
    أما الإنسان المهتدي إلى الإسلام، فينظر إلى الخطوة التي أقدم عليها من زاوية أخرى مغايرة تماما، فهو يرى أن ما قام به من فعل وبادر إليه ، إنما جاء ثمرة لرحلة طويلة شاقة، واهتدى إليه بعد بحث جاد وجهد كبير، تطلب منه الصبر والأناة، وعمرا غير هين أنفقه حتى يتمكن من تجاوز المعرفة الخاطئة حول الإسلام، التي نجد لها جذورا عميقة في الأدب والفكر السياسي الغربي القديم.
    ب ـ الاغتراب العرقي
    لقد شهد تاريخ البشرية على امتداده وحتى يومنا هذا كثيرا من وصمات الغار والتردي، التي ستظل وشما أسود لا يمحي من جبين الإنسانية، ومأساة ذات أثر عميق في الذاكرة الجماعية الحافظة جيدا لتفاصيل الواقع الرهيب، الذي لا يزال معاينا بين الناس، كما عاينه أسلافهم قديما داخل أوساطهم الاجتماعية، حيث كان غير قليل من الأقوام يستعبد بعضهم بعضا، ويدسون في حياتهم اليومية سموم النزعات العرقية والتمييز العنصر، وقد رفع عنترة بن شداد العبسي، المتوفى سنة 22 قبل الهجرة/ 600 للميلاد، صوته في العصر الجاهلي محتجا على قومه الذين نبذوه لسواد بشرته.
    وفي قلب العالم الغربي، وهو أكبر مسرح لظاهرة التمييز العرقي العنصري، صارت وحدة الإنسان متكسرة وممزقة في ذاكرة السود الجماعية، وغدا الكائن الاجتماعي موضوعا للعبث وعرضة للتصنيفات والأهواء، وعلى إثر هذه النظرة المنحرفة، وهذه النزعة العدائية، أرادت قوى الشر للإنسان أن يتحول إلى كائن متعدد، وأن يخضع للتصنيف تبعا لدرجات متفاوتة في القيمة.
    ولم تكن ظاهرة العنصرية الحديثة إلا امتدادا لإرث أوربي قديم، ولقد كان اليونانيون والرومانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل مدنية، وأن غيرهم متوحشون، ومنذ عهد قديم والأوربيون يتوهمون تفوقهم العرقي على سائر الشعوب، ويعدونه أمرا حتميا لا جدال فيه.
    ثم إن الاعتقاد في العصر الحديث ساد داخل الأوساط الغربية المنحرفة بكون الجنس الأبيض هو أرقى الأجناس البشرية، وأن مجتمع السود أو الزنوج هو أحطها؛ بل إن هذه الآفة لم تقف عند هذا الحد، إذ سعى الكثيرون بدافع الحقد والعدوانية إلى تجريد الإنسان الأسود من هويته الآدمية، بدعوى أن له بشرة سوداء، وأن السواد لون يميز العبيد الضعفاء، والبياض لون يميز الأسياد الأقوياء.
    إن أنماط الاغتراب العرقي كثيرة ومتنوعة، لكن أبرزها على الإطلاق، ظاهرة اغتراب المسلمين السود في البلاد الأوربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، لذلك سنتخذ من هذه الظاهرة نموذجا متميزا في إطار مسألة الاغتراب العرقي، خاصة وأنها تجسد اغترابا مزدوجا، يعانيه المسلمون السود في أمريكا تحديدا؛ إنه اغتراب عرقي من جهة، واغتراب ديني من جهة ثانية.
    ومن أهم القادة الذيـن شاركوا في قيادة جماعة ( المسلمين ) السود وتعاقبوا على زعامتها، نذكر: مالكولم إكس ( MALCOLM X )، الذي نشأ داخل الولايات المتحدة الأمريكية في أجواء تضيق بالتمييز العنصري بين البيض و الزنوج، وبعد أن سلك سبيل الجريمة، دخل السجن، وفيه تعرف على (الإسلام ) من خلال بعض الكتب ومجموعة من الرسائل، التي كانت تصله من إليجاه محمد، ثم إنه خرج من السجن منتصرا لما تعتقده جماعة أمة الإسلام من أفكار ومبادئ منحرفة عن الإسلام.
    وبعدما دخل الحركة سرعان ما تمكن من منافسة زعيمها إليجاه ( ILIJAH ) في مجال دعوة السود داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانضمام لجماعة أمة الإسلام، وفي سنة 1964 للميلاد أتاح له الحج إلى مكة، التعرف أكثر على الإسلام والوقوف على حقيقته، وأسسه، وتعاليمه، فكان من الطبيعي أن يتراجع عن نظرته العنصرية اتجاه الإنسان الأبيض، ويطهر نفسه من الحقد الذي لم يفارقه منذ صباه، ومن ثم رأى من واجبه أن يسعى إلى تصحيح حقيقة الإسلام داخل جماعة ( المسلمين ) السود، وهذا ما أثار إليجاه
    (ILIJAH )، الذي كان قد أسرف في الانحراف عن التعاليم الإسلامية.
    أما إليجاه محمد، فقد ظل ينادي بقيام دولة مستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بالسود حتى وفاته، ومنذ هذا التاريخ بدأت تتحسن أوضاع وأفكار جماعة أمة الإسلام، إذ أخذت تقترب هذه الأقلية المسلمة من المفاهيم الإسلامية الصحيحة بالجهود المبذولة من طرف المصلحين، وخاصة منهم وارث الدين (ابن الزعيم إليجاه محمد)، الذي عمل على تصحيح ما نشره والده من أفكار خاطئة عن الإسلام.
    ثم إن جماعة أمة الإسلام عملت على نشر تاريخ أسطوري، غريب الوقائع والملابسات، بين السود في أمريكا حول الكيفية التي ظهر بها الرجل الأبيض أو الشيطان، وأول ما نصادفه في هذا التاريخ، لعله من نتاج ما لحق كتاب التوراة من تحريف، هو أن الرجال السود الأوائل أقاموا في مدينة مكة، وكان يوجد بينهم أربعة و عشرين حكيما اعتزلوا باقي السود وتجمعوا في قبيلة الشاباز ( CHABAZ ) القوية، التي يعتبر أفرادها أجداد السود المتواجدين في أمريكا.
    ولقد ترسخ في أذهان جماعة أمة الإسلام أن البيض حرفوا تاريخ الإنسان الأسود، الذي كان يعيش في القارة الأفريقية، وهو الإنسان الذي شيد ممالك وحضارات عظيمة، في حين كان الرجل الأبيض يسكن الكهوف، ويمشي على أربعة قوائم؛ إنه الشيطان الأبيض الذي استغل، وقتل، ونهب، وانتهك حرمات السود وباقي الأجناس الملونة.
    إن الرجل الأبيض في اعتقاد جماعة أمة الإسلام شيطان كان يلقن السود ما يشاء من الأكاذيب والأوهام ، إذ عمل على حشو أدمغتهم بكون السواد هو لعنة على الزنجي، وأن أفريقية موطنهم الأصلي، وقد كانت آهلة بالمتوحشين والوثنيين السود، الذين كانوا كالقردة يتأرجحون على أغصان الأشجار، وأن عليهم أن يتخذوا (المسيحية) دينا لهم، وأن يعبدوا إله السيد الأبيض، ذي الشعر الأشقر، والوجه الشاحب، والعينين الزرقاوين.
    وبهذا الإقتناع، وهذا الصوت الكامن في أعماق السود بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يختزل تاريخا داميا مليئا بالأحداث المشينة والمأساوية، صار الرجل الأبيض أو العرق الأبيض عموما رمزا للشيطان في عرف الإنسان الأسود؛ إنه الشيطان الإنسي الذي خدع السود بلون بشرته البيضاء، وأخفى عنهم باطنه الأسود، وقبح نواياه السوداء، وحقيقة مخبره المظلم الخبيث، فهو الذي سلبهم حريتهم و أعز ما يملكون، وهو أيضا من سعى في طمس تاريخهم وذاكرتهم، واجتهد في اقتلاع جذورهم.
    إن أي وسط اجتماعي تضيق فيه الجماعة الإنسانية بكل ألوان الظلم العرقي والتهميش، لا بد وأن يفرز وعيا جماعيا منفصلا ومستقلا عن الواقع السائد والحياة الوضعية، التي تخدم مصالح فئة دون أخرى، خاصة وأن هذا الوعي تدعمه ذاكرة جريحة تنزف بمآسي كبيرة عاشها الإنسان الأسود، وذلك عندما قضى زمنا طويلا في أسر العبودية، وحيل بينه وبين معرفة هويته، ولسانه القومي، وموطنه الأصلي.
    وإذا كان العالم الغربي مسرحا لتنامي النزعة العنصرية، فإن العالم العربي الإسلامي قد احتضن القوة المضادة لتلك النزعة؛ فبفضل الإسلام اكتسب الإنسان الأسود في أمريكا وعيا جديدا، ووقف بنفسه على مختلف أسباب وأبعاد معاناته وقضيته، فكان من الطبيعي جدا أن يعيد النظر في رؤيته السابقة، ويغير أفق انتظاره دفعة واحدة، بعدما كانت معاناته مسألة التمييز العنصري أمرا مرتقبا ومحتوما داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
    هذه شهادة وخلاصة في آن واحد، وقد انتهى إليها مالكولم إكس (MALCOLM X) أخيرا، بعدما أسهمت آثار الظاهرة العنصرية في تأليف و ترسيخ وعي خاطئ ورؤية عمياء في وسط المجتمع الأسود، الذي قرن أفراده النزعة العرقية على الإطلاق ودون استثناء بالإنسان الأبيض حيثما كان.
    ثم إن الظلم الذي عاشه الإنسان الأسود في أمريكا، والصراع العنيف الذي فرض عليه خوض غماره كرها من أجل الحياة الكريمة، والحرية وإثبات الوجود، ثم بحثه عن جذوره وتأكيد إنسانيته؛ جميع هذه العوامل جعلته من جهة يصدرأحكاما من قلب واقع اجتماعي فاسد، تفشى فيه التمييز العرقي وبلغ أقصى الحدود، ويواجه من جهة ثانية حقد الأمريكيين البيض بحقد أقوى منه وأشد؛ بل جعله يستسلم بالرغم منه لسلطة الغضب.
    تلك كانت عقدة الإنسان الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك هو الواقع المأساوي الذي شغل كل تفكيره وما يزال حتى يومنا هذا، بعدما تحولت معاناته الشديدة إلى لازمة منكرة، تقتحم حياته الخاصة، وتلاحقه في يقظته ومنامه؛ إنها الشر الذي لا يمل من مطاردته ولا يكف عن ترصده لحظة واحدة، حتى إنه يكاد يشل قدرته على تمييز داء الميز العنصري ووضعه في حجمه الحقيقي.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  8. #8
    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الأول)
    يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب.
    ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.
    ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها وإدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة وأخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.
    ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.
    وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس.
    ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية، تلك المواضعات الأدبية والقيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر ومناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها ومعطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.
    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية والجماعية، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.
    ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة ومتلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، وهذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.
    فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.
    ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية، والوصفية، والحوارية من أسرار، ومواضيع، وقضايا، ومن بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة والمراهقة، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب، باعتباره مؤهلا بامتياز، في ما فشل فيه هو.
    ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وإن كانت هذه الملاحظة/ الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال، تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.
    ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.
    إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، لا تخلو من متعة ذهنية، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، و غيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية.
    وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره، وإذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.
    وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية؟
    ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، ومثيرة أحيانا.
    وما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي:
    الأول: فضول فردي صريح، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.
    الثاني: فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق والمروءة.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  9. #9
    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الثاني)
    وبالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة، وجميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:
    أولا: باعث المقارنة و البحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.
    ثانيا: باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية: تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة، وهذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.
    ثالثا: باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها.
    ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة.
    فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟
    في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة ، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم وتواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري اللغة والدين أربع طوائف:
    أولا: طائفة القراء العرب
    ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
    ثالثا: طائفة القراء الأجانب
    رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين.
    فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين: الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، ومن ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة.
    ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
    الأولى: يمثلها الكتاب العرب المسلمون.
    الثانية: يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون.
    ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، وبإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور: الأول: محور الإسلام (العقيدة).
    الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم).
    الثالث: محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل والحدث).
    إن أهم بواعث القراءة والتلقي، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.
    فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان والعقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.
    والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد والغايات على إنجاز قراءات خصبة و عميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا، ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، ومكانية، وحدثية:
    الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين: العربي وغير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها، وهو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام و الحرص عليها، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل، وفي عصر نشط فيه الاضطهاد، وصار فيه الفراغ الروحي شبه سائد، واستشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية.
    الثاني: يتمثل في ظاهرة اعتناق الإسلام، والتي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ، وإن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها وحكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه.
    ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.
    هذه حلقة أدبية نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا اللون من الأدب، وعسانا مستقبلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري والهام ...
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  10. #10
    أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية وموضوعة المكان
    (الجزء الأول)

    إن آصرة الذات المسلمة بعنصر المكان قوية عموما، والسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين أنماط الأدب الإسلامي، التي تعكس طبيعة وتماسك تلك العلاقة، خاصة عندما يرتبط عدد من التجارب الفردية بأمكنة متميزة، تعثر فيها الأنا على امتدادها الروحي، ولا شك أن التأثير جد عميق ومتبادل بين الذات المسلمة والمكان الخارجي، ثم إن من الأمكنة ما يمتلك سلطة وقوة فاعلة في حياة الإنسان، هذا فضلا عن اشتمال المكان على قيم، ودلالات، وإيحاءات.
    وإذا كان المكان فضاء يختزل شحنات دلالية، فإنه ينطوي على قيم ترتبط أساسا بالحياة الاجتماعية، والفكرية، والدينية، التي خاض غمارها كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومن ثم فإن المكان سيظل ذاكرة موضوعية، تتكامل مع ذاكرة الذات المسلمة إلى درجة التمازج، ويمكن اعتباره ـ بكل ما يشتمل عليه من معالم وموضوعات خارجية ـ موطنا خصبا للتأمل، والذكرى، والاعتبار، ومثيرا مساعدا على استرجاع أدق تفاصيل رحلة الفرد الحياتية؛ فالمكان يكاد يكون مدارا ونواة، بحكم ارتباط الذات المسلمة به، لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    ثم بالإمكان أن نقترب أكثر من تجليات المكان، ومظاهر الامتياز التي ينفرد بها في إطار هذا الفرع الأدبي المندرج في دائرة الأدب الإسلامي، والتي تكشف لنا بالتالي سبل توظيف الذات المسلمة الكاتبة لهذا العنصر الحيوي، وذلك في سبيل نشر تجربته الحياتية المتميزة، والإسهام في الدعوة إلى ما يعتقده و يؤمن به، ثم من أجل تحقيق تواصل فاعل مع المتلقي، إذ من خلال المكان يبسط الكاتب المسلم أمام القراء مشاعره وانشغالاته، ويضفي عليه بعقيدته حلة إيمانية، يتجاوز بها ما يقبع فيه من آثار القلق، واليأس، والغربة، والتمزق.
    إن القيمة الإضافية للمكان كامنة، كما أسلفنا، في خصب إيحاءاته ودلالاته من جهة، ورهينة بطبيعة الأحداث ومدى تأثيرها من جهة ثانية، إذ أن من الوقائع الحاسمة ما يذكر بأمكنة معينة، ومن الأمكنة كذلك ـ بكيفية جدلية ـ ما يذكر بلحظات سعيدة وإنجازات كبيرة في حياة الإنسان، ومنها بطبيعة الحال ما يذكره بنقيض ذلك كله.
    ثم إن من الأماكن ما يذكر الإنسان بأحداث طفولته، ومنها ما يذكره بأحداث فتوته وشبابه، ومنها ما يذكره بتجاربه المتميزة، وبأحداث متفردة عاشها في أحد أطوار حياته المتأخرة، وقد تتفق بعض المواقف مع بعض في مكان معين و قد تتباين في آخر، وقد تنسجم جملة من الإنجازات في أحد الأمكنة وقد تتنافر في غيره، وربما تعايش بعض الأفراد في مكان، لكن بعضهم يصد عن بعض في مكان آخر، إلا أن المؤكد هو امتلاك عنصر المكان تأثيرا وسلطة على سلوك الإنسان، عادة ما تكون منسوبة إلى عنصر الزمان.
    وإذا كان الروائي يصطنع بعض الأمكنة في ما يكتبه من رواياته، فإن الأمكنة في أدب السيرة الذاتية غير مصطنعة، لأن لها وجودا حقيقيا في العالم الخارجي، ثم إذا كانت للغة إمكانات التعبير عن المشاعر والرؤى الوثيقة الصلة بالمكان، فكذلك لها ذات الإمكانات على التعبير عما يختزنه خطاب السيرة الذاتية من شحنات الانطباعات والأحاسيس، النابعة من تفاعل الذات الإنسانية بالأمكنة على اختلاف طبائعها وإيحاءاتها.
    ونحن نرى عنصر اللغة مفتاحا لبلوغ الحقيقة ومعرفتها، بقدر ما نراها ـ أي اللغة ـ كشفا للذات والتاريخ، إلا أن لها حقيقة خاصة تميزها في قلب خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي التي تسمح بإنتاج قناة خطابية تواصلية، وإنشاء جسر رابط بين الفرد والمجتمع.
    فما من شك في كون المكان في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة عنصرا جد هام، يسهم في إنتاج العديد من المشاهد والخبرات، ويشارك في إغناء الخطاب، فهو متعدد ومتنوع، قد يكون على سبيل المثال مغلقا أو مفتوحا، وقد يكون رئيسا أو ثانويا، فرديا أو جماعيا، ثابتا أو متحركا، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا، مساعدا أو معاكسا، موحشا أو مؤنسا، ثم إن المكان يتميز بصفات أخرى غير هذه، كما أنه قد يجمع بين صفات متآلفة أو متناقضة، هذا بالإضافة إلى أن ثمة فضاءات مكانية مرئية في اليقضة والمنام في سياق رؤى معينة أو أحلام، وفضاءات مكانية متخيلة نادرا ما نصادفها.
    ولا شك أن صفات المكان الكثيرة والمختلفة تدخل في علاقات متشعبة مع نفسية الكاتب، ومن ثم يضفي عنصر المكان تلقائيا جمالية معينة على فضاء السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، لا سيما عندما يقترن بأجواء الطفولة، أو الحياة العقدية والروحية للذات الكاتبة، وهو بالتالي يقوم وسيطا بين المؤلف والمتلقي في نقل كثير من الأحاسيس والإيحاءات، الدلالات والرؤى.
    وقد يختزل المكان رؤية كاتب السيرة الذاتية، وكثيرا ما يكون أول عنصر يطالعنا في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، خاصة عندما يتخذ منه الكاتب عنوانا ونافذة يطل منها المتلقي على فضاءات النص والخطاب، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال العناوين التالية: (الزاوية)، (عالم السدود والقيود)، و(الإلغيات)، و(عن السجن والحرية)، و(الطريق إلى مكة)، و(رحلتي من الكنيسة إلى المسجد .. لماذا ؟!)، و( لماذا اعتنقت الإسلام؟ .. من روما إلى مكة).
    إن للمكان في مختلف السير الذاتية الإسلامية الحديثة حضورا مكثفا، يفوق بكثير الواقع الزماني في أغلب المواقف والتجارب، ذلك لأنه عنصر وعامل مثير في حياة الإنسان المسلم، وفضاء واسع للاعتبار، والتدبر، والأمل، وهو من ثم عالم للاستفهام، والتطهير، والذكرى، ثم ليست مختلف الأمكنة ـ التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية ـ عبارة فقط عن بؤرة تتجمع فيها العديد من القيم؛ بل إنها تمثل محاور معينة، منها الثابت القار، ومنها المتغير المتحول، وبعبارة أخرى نقول: إن من الأمكنة ما يمثل قوة موجبة، ومنها ما ينطوي على قوى سالبة.
    فالصحراء ـ مثلا ـ والبحر، والقرية، والكتاب، والمسجد، والمقبرة، والمستشفى، والأماكن الإسلامية المقدسة (مكة و بيت المقدس)، جميعها أماكن تبعث في الذات المسلمة شعورا متفردا بقوة العقيدة، وأصداء مترددة من عالم الغيب ؛ إنها علامات بارزة راسخة في الذاكرة الإسلامية، يجدها الباحث ماثلة في الفضاءات التي يشتمل عليها خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ثم إنها شحنات دلالية كثيرا ما تجسد رمزا كثيف الدلالة ، يفصح عن التحولات النفسية والفكرية للذات المسلمة.
    إن الوجود بأكمله خطاب مفتوح من الله عز وجل موجه إلى الذات الإنسانية لتقرأه وتتدبره، ثم لتنظر في خلقه تعالى نظرة معتبر، ولتصغي في النهاية إلى صوت الفطرة، وتتمسك بالنهج الذي ارتضاه لها في حياتها الدنيوية، لكن ثمة أماكن أخرى، أبرزها السجن و المنفى، تشكل فضاء كثير من التجارب الحياتية بالنسبة للذات العربية المسلمة، ومجالا ضيقا معزولا عن العالم الخارجي، يحتد فيه الإحساس بالزمان والمكان، وتتضاعف فيه المعاناة النفسية بالدرجة الأولى.
    إلا أن قوة العقيدة تفرغ كل تلك الأماكن المعاكسة من معناها المتواضع عليه بين سائر الأحياء من الناس على الأرض، لتكسب فيها معاني ومدلولات مغايرة تماما، لا تزيد الأنا المسلمة، سواء الفردية أم الجماعية، إلا قوة وارتقاء، واقترابا من الله عز وجل، ولا تزيدها إلا دنوا من حقيقة عقيدتها ومغزى خلافتها في الأرض.
    هكذا تتمثل حياة الذات المسلمة ، بدءا وانتهاء، من الكون الفسيح وسط أحيائه وجميع موضوعاته إلى سجن النفس ومجاهدتها، ومن الاغتراب بين الأهل والناس وسط المجتمع إلى المنفى حيث العزلة عن العالم الخارجي، ثم من قلب الحرية وأحضان الحياة الكريمة إلى قلب المعتقل والسجن وما وراء قضبانه، ومن بهرجة واختلال المدينة وزيفها إلى توازن و تلقائية وبساطة القرية.
    وإذا كانت للذات المسلمة، عربية أم أجنبية، تجارب مشتركة مع عنصر المكان، الذي تتماهى إيحاءاته مع شعور الإنسان المسلم، على أساس أن المكان هو جزء من تجربته الإنسانية، فإن ثمة أمكنة ترشح بالهدوء والسكينة، وأخرى تضيق بالقلق، والتمزق، والاغتراب، كما أن هناك أمكنة تزخر بالأسرار وتدعو إلى التأمل، وأخرى تعد ملجأ لمن ضل وأراد الاهتداء، ساعة هيمنة الشك وسواد الاضطراب.
    إن للمكان إيحاءات ودلالات في حياة الإنسان المسلم ، الذي له بدوره انطباعات معينة عن الأمكنة التي عاش فيها وعرفها في حياته، ثم إن للمكان طبيعة خاصة، تتحدد من خلال جغرافيته أو معماره، فمن الأمكنة ما يتميز بجغرافية بسيطة، ومنها كذلك ما يتسم بجغرافية معقدة، ومن الأمكنة بالتالي ما يتصف بمعمار بسيط، ومنها ما يقوم على معمار معقد، وجميعها تخلف آثارا في ذهن الفرد المسلم، ومؤكد أن المكان مسرح لكثير من الأحداث والوقائع، التي تحتفظ بها الذاكرة الفردية والجماعية الإسلامية؛ إنه فضاء يوقظ في الإنسان المسلم أحاسيس ومشاعر تختلف بواعثها.
    ولا شك أن المكان قد أصبح عنصرا حيويا في حياة الكاتب المسلم بامتياز، ذلك لأنه ارتبط بتجاربه الإنسانية، وبمسيرته الفكرية و العقدية، حتى صار ملجأ للتطهير ومحاسبة النفس، وباعثا على التأمل والتدبر، ومتنفسا للذات المسلمة المحتقنة بالأحزان والهموم الثقال، وفضاء مساعدا لهذه الذات على السمو و تجاوز ما يزج بها فيه من محن، وما تتلقاه من صدمات مدمرة.
    وفضلا عن كون المكان يمثل مثيرا خارجيا وموضوعيا، يبعث على استرجاع حدث معين، أو تذكر تجربة فردية أو جماعية، فإنه محط اهتمام الذات المسلمة، باعتباره ظرفا ماديا مسخرا لبذل الجهود، وتحقيق الأفعال، وخوض التجارب، والتعرض للابتلاء؛ إنه وعاء موضوعي، يحتوي تفاصيل التاريخين :الفردي و الجماعي، وفضاء مساعد على اكتساب الخبرات، وبناء الحقائق، وتطهير النفس.
    ثم إن أغلب التجارب التي يخوض الإنسان غمارها في مختلف أطوار حياته، ومعظم الأحداث التي يكون سببا مباشرا في وقوعها أو طرفا فيها، هي أحد المكونات الرئيسة للتاريخ الفردي الأكثر ارتباطا بعنصر المكان، الذي يظل بدوره المثير والباعث الأساس على استرجاعها.
    إن ما يثير الانتباه من بين هذه الأنماط المكانية المختلفة، التي تطبع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بمنحى خاص، هي تلك الأمكنة المرتبطة بطور الطفولة، والمساعدة في كثير من الأحيان على تشكيل أحد أهم المكونات الإسترجاعية، الذي يمثل لوحده وبغير منازع معلما بارزا وسلطة قوية، تبسط ظلالها على محكي السيرة الذاتية بوجه عام.
    هذا بالإضافة إلى أن الطفولة هي أهم طور تختزنه ذاكرة الإنسان، وإن كان من المتعذر الوقوف في أدب السيرة الذاتية على مستويات لغوية لفظية، تتدرج الذات الكاتبة عبرها من لغة الطفولة إلى لغة الشيخوخة، مرورا بلغة الفتوة، والشباب، والرجولة، والكهولة، بحكم أن أغلب السير الذاتية تكتب في مرحلة متأخرة من حياة أصحابها .
    ولا شك أن الامتياز الذي ينفرد به المكون الإسترجاعي الطفولي، يعود من جهة إلى انجذاب الإنسان نحو زمن طفولته في المقام الأول، وإلى حنينه المتنامي ثانيا إلى ذكريات سنه المبكرة والحياة في الصغر، خاصة وأن الإنسان كلما شعر بالحاجة إلى الأمن والسكينة إلا ويعود بذاكرته إلى عهد طفولته، الذي يمثل المهد، والبداية السعيدة، هذا فضلا عن كون كاتب السيرة الذاتية يجد فضولا شديدا في أعماقه، ورغبة جامحة في التغلب على استفزاز الذاكرة الطفولية، ولا شك أن من يكتب تاريخه الخاص لا يقدم على هذا الفعل إلا طلبا للإحاطة بجذوره ومنطلق حياته ووجوده، وفي هذاالطلب دلالة على المكانة الهامة جدا لطور الطفولة، وما للذكرى الأولى من قيمة متميزة في تاريخ الفرد وفي أدب السيرة الذاتية.
    ثم إن الطفولة في حد ذاتها تعتبر من بين أهم ما تختزنه الذاكرة، وهي تمثل أداة دفاعية ووقائية بالنسبة إلى الفرد، الذي يستعين بها عن طريق الاسترجاع لمواجهة قسوة الواقع في الزمن الحاضر، وقد يتم اختزال العودة إلى الماضي في طفولة الإنسان، التي هي بدون شك فاعل أساسي في بناء أدب السيرة الذاتية، ولا شك أن المكان غالبا ما يشكل معالم الصور الأولى المختزنة في الذاكرة، والمسترجعة من طرف كتاب السيرة الذاتية.
    ثم لا بد من الوقوف عند الهوية الحقيقية لمؤلف السيرة الذاتية، وذلك من خلال التمييز بين السيرة الذاتية التي يتخذ صاحبها طور الطفولة محورا في جزء منها، والسيرة الذاتية التي يحتفل كاتبها بطور أو أطوار حياتية معينة في جزء منها، خاصة وأن الهوية الإسمية تجمع بين السارد وما تجسد في ذاته من أطوار حياتية .
    إن المكان عموما بالنسبة إلى الإنسان، والمكان الطفولي بوجه خاص، يمثل ذاكرة موضوعية ماثلة أمام عينيه، وقد اكتسبت هذه الذاكرة المادية قوتها ورسوخها على مر السنين لسبب واحد، هو أن الذات الفردية قد تستطيع أن تتمثل نفسها بدون مساعدة العنصر الزمني ، لكن ليس بمقدورها أن تستغني عن الظرف المكاني في تمثلها الذاتي، وهذا العجز هو الذي جعلها أكثر قربا من المكان وأكثر ارتباطا به.
    وإذا كان بمقدور الإنسان أن يدرك الزمان بشكل غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، ويحدد الأحداث عن طريق التأريخ لها، فإنه يستطيع كذلك أن يدرك المكان حسيا وبكيفية مباشرة، ويميز ما بين الموضوعات المتواجدة فيه، ثم إن المكان يمارس على الإنسان سلطة من خلال تأثيراته البالغة الأهمية، وبناء على ما تعكسه طبيعته، وما يوحي به شكله ، فهو يثير فضوله ويشد انتباهه، ويوحي له بأفكار، ويخلف لديه انطباعات.
    وكلما ارتد سارد سيرته الذاتية إلى عهد طفولته، إلا ويجمعه اللقاء بهذه الذكرى أو بتلك، وهي في الأصل وقائع أو تجارب تجري في مكان معين، ولا تزيدها الأيام إلا رسوخا في الذاكرة الفردية؛ بل إنها قد تصير مصنفة لدى كاتب السيرة الذاتية إما من بين أجمل وأحسن الذكريات، أو من أقبحها وأسوئها.
    وغالبا ما يدخل عنصر المكان طرفا في تشكيل جمالية الذكرى، التي يرتبط سر المتعة فيها بالحركة عموما، وهي تعد بمثابة الروح المانحة لعالم الطفولة معناه الحقيقي المتميز، إذ الحركة تختزل عالم الصغار (الطفولة)، بقدر ما يختزل السكون عالم الكبار (الشيخوخة)، ثم إن كل الأحداث / الذكريات التي تقوم على مبدإ الحركة في أمكنة محددة زمن الطفولة، يستعصي على من هم ليسوا أطفالا أن يدركوا حجم معناها، وعمق دلالتها، وكذا أبعادها الإنطباعية.
    من المؤكد إذن أن لطور الطفولة في حياة الإنسان تأثيرا مميزا، وأن الطفولة باعتبارها موضوعا، ورمزا، ودلالة، لها من العمق والرسوخ في ذاكرته ما لاسبيل إلى إغفاله، إنها بحق موطن التجارب الإنسانية الأولى، ونبع إشعاع حيوي يستعصي جوهره على الوصف، ويعز عمقه على التحليل.

    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. السيرة الذاتية /منى الراعي
    بواسطة منى الراعي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-09-2017, 03:53 PM
  2. د.محمد حبش/السيرة الذاتية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-22-2013, 08:13 AM
  3. مقالات في أدب السيرة الذاتية ...
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 06-09-2012, 06:47 PM
  4. مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 08-30-2010, 10:24 AM
  5. السيرة الذاتية/د. مصطفى أبو سعد
    بواسطة ندى نحلاوي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-26-2009, 04:33 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •