أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل الصحوة الإسلامية
لا يختلف اثنان في كون المواجهة التي نشبت بين الشرق العربي العالم الغربي، تعتبر ظرفا تاريخيا حاسما، سعت فيه قوى الاستعمار إلى طمس هوية الذات والأمة العربية المسلمة، مما دفع بالإنسان العربي المسلم إلى المقاومة والتحدي من أجل الحفاظ على شخصيته وكيانه، وعلى انتمائه ومعتقده، لا سيما وأن القوى الأجنبية ظلت تستهدف الإسلام في المقام الأول، إذ رأته مركز قوة بالنسبة للإنسان العربي والحضارة الإسلامية، وقد بذلت أوربا كل ما في وسعها من أجل إتلاف الفكر الإسلامي، الذي رأت فيه خطرا يهدد مصالحها الاستعمارية.
لم يكن أمام الإنسان العربي المسلم خيار سوى العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح من نهج، بقصد إحيائه وبعثه من جديد، والاهتداء بمعالمه إلى الحياة الإسلامية الحقة، خاصة وأن العرب بعد مجيء الإسلام لم يكونوا يفصلون بين العروبة والإسلام، بحكم تلازمهما، ومن ثم رأى دعاة الإصلاح في العصر الحديث أن لسلف الأمة المسلمة سيرة يجب أن تتبع، وأن ما يعرفه العالم العربي من انحطاط و تخلف ما هو إلا نتيجة طبيعية لبعد العرب عن الإسلام.
و لقد كانت الدعوة إلى الإصلاح والتقويم، وكذا الاقتباس من الغرب بعلم ووعي نقدي ضرورة ملحة في مطلع النهضة العربية الإسلامية الحديثة، لكن هذا الصوت الذي ارتفع للمناداة بالإصلاح، والمطالبة بالحد من هيمنة الركود، ثم لدفع الفساد والانحراف عن طريق الجادة، والدعوة إلى الاستقامة، لم يكن الوحيد؛ بل إن صوتا آخر تعالى بدوره داعيا إلى اتباع نهج الغرب، وهي دعوة تمثل الخيار الوحيد، حسبما يرى أصحابها، للخروج من دوامة الجمود والقضاء على الجهل والتخلف عن الركب الحضاري.
وكان منتظرا أن يسود الخلاف بين مختلف التيارات (الإصلاحية)، وهذا ما حدث بالفعل، فاتخذ الصراع على اثر ذلك بعدا مزدوجا: فهو من ناحية تطور و تشعبت أشكاله ومظاهره، ومن ناحية ثانية استمر إلى يومنا هذا، حيث لا يزال الصراع قائما على أشده بين من يدعو إلى الخيار الإسلامي و من يدعوا إلى الخيار الغربي.
أما حركة الإحياء أو البعث، فقد شملت عددا من المجالات الحيوية: الأدب، والدين، والفكر، والسياسة، والاجتماع، وجاءت عبارة عن رد فعل في وجه الغزوالاستعماري بكل أشكاله، ومن ثم شغلت حقبة كاملة من التاريخ العربي الإسلامي الحديث، فأرخت بذلك لمرحلة البحث عن الذات، وإعادة بناء الحياة والشخصية العربية الإسلامية، ومن مظاهر هذه الحركة الإحيائية ما تم إنجازه على مستوى التأليف في منتصف العقد الرابع من القرن العشرين، إذ صدر في أقل من سنة (عام 1935ميلادية تحديدا) ما يزيد عن عشرين مؤلفا حول موضوع الإسلام.
لقد شهد هذا الظرف التاريخي حركتين لتغيير الوضع العربي الإسلامي، وبقدر ما كان بين الحركتين من تكامل، بقدر ما كان بينهما من التناقض الشيء الكثير، أما الحركة الأولى فقد انتصرت للتراث العربي الإسلامي، وسعت بإحيائه إلى الحفاظ على هوية الذات العربية المسلمة، وكيان الحياة والحضارة الإسلامية، وذلك ردا على المحاولات العدائية التي كانت تهدف إلى المس بمقومات وأسس الوجود الإسلامي.
وأما الحركة الثانية فقد غلب عليها طابع التغريب، إذ حاولت أن تنقل مظاهر الحياة الغربية إلى البلاد العربية الإسلامية، وتستوحي الفكر والأدب الغـربي، وقد بذلت جهودا للانسلاخ عن الثقافة العربية الإسلامية، والارتماء في أحضان الثقافة الغربية والأجنـبية عموما، لكن هذه الحركة على أي حال لم تخل من إفادة وإضافة أغنت الثقافة العربية.
إذن فبحلول القرن التاسع عشر الميلادي، بدا العالم العربي الإسلامي نهضته، واتقدت جذوة الإحساس بضرورة تكسير الجمود واللحاق بركب الحضارة، هذا بالإضافة إلى مواجهة تحديات الغرب، والتمسك بالحياة الروحية والفكرية العربية الإسلامية، فكان القرن التاسع عشر الميلادي بداية حقيقية لتاريخ الفكر العربي الإسلامي الحديث، وحقبة زمنية صادفت قيام عدد من الحركات الإصلاحية، نذكر منها:
أولا: الحركة الفكرية التي دعا إليها رفاعة الطهطاوي المتوفى عام 1873 للميلاد، وبث بوادرها في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
ثانيا : الحركة السلفية التي أقام جمال الدين الأفغاني ، المتوفى عام 1897 للميلاد، من خلالها دعوته إلى إحياء مجد العروبة و الإسلام، مع الأخذ باللازم النافع من أساليب الحضارة الغربية الحديثة، وقد اقتفى أثره في هذه الدعوة تلميذه محمد عبده المتوفى عام 1905 للميلاد، الذي سعى بدوره إلى الإصلاح الديني، والسياسي، والاجتماعي، واللغوي، وذلك باعتماد التربية وسيلة لخط سير حركته الإصلاحية، ولنا في سيرته الذاتية جانبا هاما من دعوته.
وكان طبيعيا أن تأتي الصحوة الإسلامية الحديثة ردة فعل قوية، بعد أن لاحت أولى مظاهرها من قلب النهضة العربية، واتضحت معالمها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عام 1868 للميلاد، وهي الحقبة التاريخية التي كانت بحق منطلقا للبعث الإسلامي الذي تنامى بشكل سريع في القرن العشرين.
ثم إن الاضطراب والقلق اللذين سادا عصر النهضة العربية، واللذين جسدتهما المعارك والنكبات المتوالية في حياة الأمة المسلمة، قد أسهما بقسط وافر في تكوين الوعي الفردي والجماعي العربي، وتعميق الإحساس بأهمية التاريخ للذات، وإحياء كل تقليد تراثي مساعد على اكتساب مناعة حضارية تحفظ الهوية اللغوية والعقدية.
وقد احتضنت السير الذاتية المواكبة لعقود القرن التاسع عشر الميلادي صورة ضافية لعدد من التيارات الفكرية وحركات الإصلاح، التي لم تعد سوى ثمرة عصر شاهد على الصدام العنيف بين جمود الفكر في الشرق وحركته النشيطة في الغرب، ثم إن ما كتب من نصوص موسومة بطابع السيرة الذاتية، خاصة في مستهل طور التجنيس، في كافة أرجاء العالم العربي الإسلامي، كان وثيق الصلة بالفقهاء، والعلماء والأدباء على حد سواء، إلا أنه كان مجسدا لطلب العلم بامتياز.
د. أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com