"مسافة بين القبلات": منير عامر

هذا مشروع سياحة في كتاب .. ولكن المشروع لم يكتمل لبعض الظروف .. ويقولون ما لا يدرك كله لا يترك جله .. والكتاب يستحق القراءة فهو ممتع جدا .. وفيه الكثير من الأفكار التي تستحق التأمل.
والكتاب الذين بين يديّ هو (مسافة بين القبلات) للأستاذ منير عامر،وهو من منشورات دار العلم للملايين في طبعته الأولى سنة 1990م.
مقدمة الكتاب قصيرة جدا .. (ومسافة بين القبلات هي محاولة لاقتحام معالم الربع الأخير من القرن العشرين عبر رحلة حب يخاف فيها كل عاشق من الآخر .. لأن العالم الذي نحيا فيه يمتلئ بشراسة ناعمة.
فلتبدأ معي الرحيل إلى تلك المسافة لتعلم كيف يعيش الإنسان في هذا العالم لمتقدم جدا،والعاجر في نفس الوقت عن توفير حق الاطمئنان،هذا الحق الذي لا تقدمه التكنولوجيا ولكن تزرعه المشاعر المليئة بالأمل.){ص 7}.
تعودت أن أقرأ لصنفين من الكتاب .. من يتحدث عن علاقته بالمرأة دون اعتبار لحلال أو حرام .. وفئة لا تتحدث عن المرأة أصلا ... وهنا نجد صنفا آخر لدى مؤلفنا .. على كل نبدأ رحلتنا مع الكتاب .. بسؤال طرحه الأستاذ(منير) على السيدة التركية التي تعرف عليها في الطائرة .. سألها :
(أنا أعرف أنك تركية الطفولة والمراهقة فما الذي جعلك أمريكة الجنسية؟
قالت : يحدث لي ما يحدث لكل إنسان في هذه الدنيا،يريد أن يصرخ بأعلى صوت،وقد صرخت بأعلى صوتي في بلدي فكان مصيري مرة السجن،ومرة ثانية التفوق في الجامعة،ثم بعثة إلى أمريكا. هناك اندهشت بمدى الحرية من القشرة الخارجية فقط،وتزوجت من أمريكي أعلن إسلامه من الظاهر فقط،وعشت العذاب الكبير : الحياة داخل طاحونة،الزوج يعود كل مساء خائفا من الفصل من العمل،وأنا أخاف من إنجاب الأطفال في حياة غير مستقرة. كل شيء هناك يبرق وكأنه يقدم لك التعزية في فقيد غالٍ عليك،هذا الفقيد الغالي عليك هو أنت نفسك. نعم،أحسست أن زوجي لم يعد رجلا. كان كثير الخوف من فقدان وظيفته. وعندما ازداد خوفه عن الحد،ذهبنا إلى الطبيب النفسي ليبحث الحالة. قال الطبيب النفسي تلك الكلمات اللامعة : "اقتل خوفك بنفسك. حاول أن تدعو رئيسك على العشاء ومعه زوجته. اندمج معه في حياة اجتماعية وستكتشف أنه إنسان وليس مجرد وحش كاسر يخرج لك في الأحلام ليثير رعبك".
قلت للتركية الحسناء : لا أعتقد من شكلك الخارجي أن من يحيا معك تحت سقف واحد يمكن أن يخاف شيئا. إنك أنوثة فارهة (..) ضحكت التركية الجميلة وكانت ضحكتها نوعا من النور الذي يلمع في سماء النفس،وتظلله سحابة غائمة قليلا،ويعود النور صافيا مرة أخرى. سمعت من ضحك النساء كثيرا،لكن ضحكة هذه المرأة كانت كنهر رقراق يمر عبر غابة لم يدخلها أحد من قبل.)
قالت التركية بعد هذه الضحكة الجميلة : أنت عربي المزاج،حسي الرغبات،تحلم بالزواج من أربع نساء ولا تستطيع،لكن عليك أن تعيش في أمريكا قليلا وستجد رجولتك قد تيبست وصارت خاوية المعنى.
قلت : أنا لا أنكر أنني عربي المزاج (..) ولم أفعل شيئا في حياتي تقريبا إلا من أجل حب امرأة. عملت في الصحافة لأني أحب امرأة،فهمت في السياسة لأني أحب امرأة،أعدت اكتشاف إيماني كمسلم لأني أحب امرأة. أطير إلى أمريكا لأن قلبي امتلأ بالشروخ،لأني أحب امرأة. وسوف أدخل المستشفى لإجراء فحوصات طبية.(..) قالت : ما دمت لم تحضر إلى أمريكا لتعيش إلى الأبد فلا تغضب واطمئن،لن تتيبس رجولتك. إن أمريكا (..) تعيش على حرف مقصلة اسمها الدولار. إن الدولار هو السيد والملك والبيت والحلم هو الذي يجعل كل شيء في الحياة مرغوبا فيه،وهو الذي يحول كل رغبة إلى دنيا فاسدة الطعم.){ص 12 - 13}.
بطبيعة الحال،لن تفوت على فطنتكم أن هذه التركية المنبهرة بالحرية الأمريكية قادمة من تركيا العلمانية المنفتحة .. فيما يتعلق برغبات الجسد!!
أما القادمون والقادمات من بلد محافظ .. فأترك لكم تصور الصدمة التي ستصيبهم .. ولماذا نذهب بعيدا؟
تقول الدكتورة مضاوي الحسون :
(وفيما يتعلق بي،أقول : إني عدت إلى بلدي،منذ ست سنوات،بعد أن أقمت سنين عديدة في الجامعات الأمريكية. وخلال ثلاثة أشهر،كنت أرفض كل شيء : المحيط،وزوجي،وكل شيء (..) بل إنني قررت فترة ما،ألا أضع حجابا ولا ألبس عباءة) {ص 57 ( حكم الأصوات : النساء العربيات يتكلمن ) / عائشة لمسين / ترجمة : د. حافظ الجمالي / دمشق / دار طلاس }
نعود للكتاب،ولا تسنوا حديث الدكتورة (مضاوي) الرافضة لكل شيء ..لكي لا نقول الكارهة لكل شيء!! بعد حديث طويل عن فيلم عن جاسوس خان بلده ليعمل لصالح "هتلر"،وكان المؤلف يشاهده مع التركية في الطائرة .. (قالت الحسناء التركية : ما تراه على الشاشة الآن هو ما يحدث لك لو انبهرت بأمريكا أكثر من اللازم،حينها تصبح كارها لبلادك،عبدا لهم،تحتقر نفسك مرة لأنك عشت في بلاد فقيرة،وتحتقر نفسكم كثر لأنك تعيش في مجتمع لا يسمح لك بالتنفس بعيدا عن الخوف. إنهم يمزجون الهواء هنا بالخوف،تماما كما حدث مع زوجي.
قلت آسف،استغرقني الفيلم قليلا،ولم أسألك هل طبق زوجك نصيحة الطبيب النفسي؟هل دعا رئيسه الذي كان يرعبه إلى الغداء؟
قالت : نعم فعل ذلك. والمأساة أن زوجة هذا الرئيس كانت تشكو من الفراغ العاطفي الشديد. ووجدت في زوجي شيئا مميزا. اكتشفت فيه أنه إنسان عاطفي وأنه إنسان له مشاعر،وأن زوجها مجرد رجل قاسٍ يجمع الدولارات فقط. إنها هي صاحبة الشركة التي يعمل زوجها مديرا لها،لذلك بدأت رحلتها العاطفية مع زوجي أنا.
وتساءلت مندهشا : زوجة الرجل المرعب تعشق زوجك الرجل الخائف؟!
فقالت التركية الحسناء في أسى شديد : نعم. حدث ذلك. كنت قد علمت زوجي كيف يقرأ الشعر. كنت قد علمته كيف يحكي حكايات ألف ليلة وليلة (..) واستخدم زوجي هذه القراءات في إغراء زوجة رئيسه المرعب،وكانت النتيجة طلاق زوجة رئيسه المرعب،وهجر زوجي لي. وجاءني رئيس زوجي بعد أن أصبح مفصولا من الشركة يطلب مني أن أدخل معه في "مشروع عاطفي"حتى ننتقم لأنفسنا. طبعا كان القرف قد ملئني من المسألة كلها فطردته. وعندما بلغ زوجي مسألة طردي لرئيسه السابق أجزل لي التعويض عن الطلاق وهذا ما جعل قرفي يزداد أكثر وأكثر. وأصبحت ثرية ووحيدة،وأعيش في نيويورك. لذلك قررت أن أزور أكثر بلدان العالم أصالة (..) قلت : هل أعجبتك صنعاء؟ أنا زرت الكثير من مدن العالم،ولكني أحب مدينة صنعاء. في يومها يعيش الإنسان فصول السنة الأربعة،ومع سكانها يرى الإنسان قمة التاريخ القديم الممتزج بالسخرية من العصر الحديث،لا رفضا للعصر،ولكن بحثا عن زمن متوازن،زمن لا يلهث فيه الإنسان فيترك ضميره تحت،ولا ينام فيه الإنسان في وهم القديم .
قالت : أنا أحببت صنعاء أكثر مما أحببت أي مدينة في العالم،لكن باريس تعجب المرأة أكثر. باريس تعرف أن المرأة طفلة صغيرة تحب أن ترتدي ملابس عصرية وعطورا وحقائب ..){ص 14 - 15}.
يمكن للقارئ أن يعيد القراءة .. ويتصور سبب مأساة تلك التركية ال...
انتهى الفيلم ..(ضحت التركية الحسناء كثيرا وهي تقول : يبدو أنك تحب السينما .ألا تعرف أن السينما هي أوهام دفعتُ فيها أنا وأنت ثمانية دولارات؟
قلت : هل أصبحتْ نظرتك إلى الفن أنه وهم لقاء نقود؟ هل أصبحت تكرهين الأدب بعد أن غادرك زوجك إلى امرأة أخرى؟
قالت بعصبية : لا،أنا لا أنظر إلى الفن على أنه وهم،إنني أعرف أنه تركيز لخبرات آخرين،لكن ألمي من تجربتي لا يجعلني أنسى أبدا ما حدث لي. إن ألمي أكبر من الفنون التي أراها. فأنا أولا عشيقة لا تجد عاشقا،وأنا ثانيا جاسوسة لا أجد من يأخذ مني معلومات سواء عن أمريكا أو تركيا،وأنا ثالثة مقتولة بتجربة طلاقي،وأنا رابعا أحيا في داخلي مع رجل مشلول هو زوجي الهارب الخائف،وأنا خامسا لا أعرف ماذا أفعل بحياتي. أخشى أن يمر العمر دون أن أنجب وأنا الآن في الثالثة والثلاثين،وأخشى أن أتزوج من جديد فينهب الرجل الجديد ثروتي التي أخذتها تعويضا عن الطلاق. لقد بعت زوجي لقاء منزل بمائة وثمانين ألف دولار وأخذت منه تعويضا قدره مائتي ألف دولار دفعتها زوجته الجديدة كما تشتري أنت علبة سجائر من سوبرماركت.){ص 16}.
هذا يذكر بعنوان كتاب آخر هو (أمريكا ... الجنة والنار) للأستاذ عادل حمودة .. على كل حال .. بعد حديث طويل عن "ديجول" .. وعن مادة التيتانيوم .. قال المؤلف : (أمريكا قد تبدو لك من الخارج" عبيطة"كزوجك الذي يترك امرأة جميلة مثلك من أجل امرأة ثرية. لقد قارن زوجك بين مكسبه من الحياة معك فوجدها حياة فقيرة ماديا وإن كانت غنية زوجيا،فسرق منك هذا الثراء الروحي وباعه لامرأة ثرية بالفعل،وهكذا تفعل أمريكا مع معدن التيتانيوم.){ص 19}.
وأخيرا .. (مضت ثماني ساعات ووصلنا إلى نيويورك.إلى مطار كندي.
وفوجئنا بإعلان تلفزيوني : إنه يصور إنسانا يعوم بكل ملابسه تحت الماء وفي يده دولار يريد أن يستثمره فيظل يعوم حتى يجد البنك المناسب الذي يقدم له أكبر سعر للفائدة.
قالت التركية الحسناء : ما رأيك في هذا الإعلان؟
قلت : لاحظي أن الرجل يشبه زوجك بعد أن سرق منك ثروتك الغنية وباعها إلى امرأة ثرية. إنه يسبح تحت الماء مختنقا.
قالت : أنت بالنسبة لي كنز جديد){ص 20}.
عبر صفحات الكتاب الـ189 يمتد الحوار مطاردة لهذا الكنز (المتعفف) – استشهد بحديث أو شيء من هذا القبيل – وصولا إلى مسارح برود وي .. السياسية والتي تسخر من أمريكا التي تستجدي المال من حلفائها .. فيسخرون منها .. تاتشر .. ورئيس الوزارة الياباني .. والألماني .. إلخ.
وإلى ل نيويورك السفلي حيث لا تستطيع الشرطة أن تصل إلى ذلك العالم .. وسيل آخر من الأفكار والمعلومات الشيقة.
س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب.