حول مصطلح "الأدب الرسالي"

أنا لست متخصصا في اللّغة العربية ولا في الأدب، مع علمنا بسعة لغة العرب وتفرع علومها، وبتنوع وتعدد فنون الأدب في موضوعاته ومصادره وأهله وأغراضه، تتبعت النقاش الذي دار حول مصطلح "الأدب الرسالي" من خلال النصوص المنزّلة على موقع الفرسان، وأقدم تصوري للموضوع انطلاقا من ثقافتي العامة ومن رؤيتي واعتقادي.

إنّ البحث في أي موضوع أو مناقشته يستدعي تحديد الموضوع أولا، والموضوع هنا يحدد السؤال التالي: ماذا نعني بالأدب الرسالي؟ وهو سؤال عام لا يربط الأدب بجهة ما عرقية أو دينية أو لغوية أو تاريخية أو غيرها، الأدب الذي عرفة الإنسان منذ وجد أول مرة حتى الآن بما في ذلك الأدب الإسلامي وغيره على الإطلاق، ثم جاءت مجموعة من الأسئلة خصّت الأدب العربي بالذكر، وهو أمر طبيعي في نظري، فالإشكال الرئيسي متضمن في السؤال الرئيسي وهو "ماذا نعني بالأدب الرسالي؟ " ويتضمن هذا السؤال سؤالا آخر هو هل الأدب نوعان رسالي وغير رسالي؟، وإذا كان الأمر كذلك ماذا يعني كل منهما؟، أما المسائل الفرعية والخاصة تتعلق بأدبنا العربي باعتباره النموذج الذي يهمّنا في رسالة الأدب من بين نماذج عدة.

والأسئلة التي قيّدت الأدب العربي وخصته كنموذج وتجربة غنية وثرية جدا وهي تلقى كل التقدير والاحترام في العالم والعربي وخارجه هي: "هل كان الأدب العربي أدبا رساليا؟، بمعنى هل قدم رسالة هامة للأمة بنى لها قاعدة تفاؤلية وتشجيعية للعمل والمضي قدما نحو العلا؟ وما الدليل على ذلك؟أم كان متمحورا في غالبيته حول عنصر وجداني متضخم؟ومقارنة بالأدب الغربي، ما الفرق بينهما؟".
الموضوع تحدده ثلاثة أسئلة رئيسة: الأول سؤال عام حول رسالة الأدب أي أدب في أي عصر وفي كل مصر من غير استثناء، هل يوجد أدب رسالي وأدب غير رسالي؟، من منظور أخلاقي وإنساني واجتماعي وديني عام إسلامي وغير إسلامي، فإنّ كل نشاط إنساني في أي مجال من مجالات الحياة يحقق الفضيلة فكرا وسلوكا من حق وعدل ومساواة وحرية وغيرها، ويحفظ للإنسان مصالحه كفرد وكجماعة معا ويدفع عنه الضرر ويجلب له المصلحة ويدافع عن الخير ويرد الشرّ والرذيلة يُعدّ صاحب رسالة ورسالي، وأي نشاط يسير في التيار المعاكس لما ذكرت يُعدّ غير رسالي. لكن قد يتغير مضمون الرسالة واتجاهها من زمان إلى زمان ومن جهة إلى أخرى، حينما تتقيد بالطابع المحلي وتخرج من طابعها العالمي الإنساني. والناس في الأرض شعوب وقبائل يميزهم عن بعضهم البعض عدد من الخصائص، والحكمة الربانية من التمايز هي التعارف والتعاون والتفاهم لا الفرقة والتباغض والاقتتال
.
فحال الأدب عامة ولدى الإنسان من منظوره الإنساني والأخلاقي وفي هذا لا يتعارض مع الإسلام ومع العقل المستقيم والفكر السليم ومع أيّة شريعة عادلة يكون رساليا إذا حقّق الخير وارتبط بالفضيلة وجلب المصلحة للجميع وارتبط بالحق والعدل والحرية وبالنهضة والإبداع والحضارة واستمر على ذلك، أما الأدب غير الرسالي فهو الذي ينحرف عن خير ومصلحة الإنسان، أما بالنسبة للأدب العربي شعرا ونثرا فيما وصلنا منه حتى الآن، تعلمنا منذ الصغر بأنه ينطوي على الغثّ والسمين، طبعا دائما من منظور الفضيلة والمصلحة العامة، فالأدب السافر الماجن الإباحي دوره سلبي أما الأدب الفاضل الذي ارتبط القيّم السامية والمصالح العليا للإنسان فدوره إيجابي ومطلوب، ومنه أدب المقاومة والأدب التحرري والأدب النسوي والأدب الإنساني العالمي وغيره كثير، وحتى الأدب الذي يُتهم بالعبثية قد تكون له رسالة تقتصر على الإبداع الفني في الشكل المحتوى في نظر الكثير، وهي رسالة لا تقل أهمية عن الرسالة الإنسانية العظمى التي وجد لأجلها الأدب كمظهر من المظاهر الثقافية، باعتباره وسيلة من الوسائل الفكرية والفنية والثقافية التي تسهم في تغيير أوضاع وظروف حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وعرف الأدب العربي عبر تاريخه الطويل محطات ضعف ومحطات قوّة في رسالته في الجانب الفني والذوقي والجمالي وفي الجانب الاجتماعي.

لا أرى صلة من بعيد أو من قريب بين التسمية أو المصطلح "الأدب الرسالي" كموضوع بحث علمي أكاديمي مطروح للنقاش لدى متخصصين أو غير متخصصين وبين موضوعات أخرى منفصلة عنه وظيفيا وهوية وفي طابعه العام كالنزعة الطائفية والخلاف السني والشيعي والمؤامرة الصهيونية والسياسة في الشرق الأوسط، صحيح الموضوع في مضمونه الثقافي مرتبط بما يجري في المنطقة من منطلق الثقافة وعي والوعي من إنتاج واقع والواقع تحدده ظروف وأوضاع سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وغيرها، لكن أقول بأن المصطلح في ذاته استخدامه في لغته لا يؤثر فيما يجري لأن قوة المصطلح في مرونته وكثرة استخدامه، يرفض المصطلح الأسر ويحتاج إلى حرية الحركة والتنقل من فضاء ثقافي إلى فضاء ثقافي آخر.

المصطلح "الأدب الرسالي" علميا وأكاديميا ووظيفة واستخداما وحتى في اللغة العربية كمصطلح عام له مدلوله يطلق على أي أدب من الآداب الإنسانية التي عرفها التاريخ ومنها الأدب العربي ومنه الأدب الإسلامي وغيره إذا ما ارتبط برسالة وأمانة ومسئولية في حياة الإنسان فرديا أو اجتماعيا أو وطنيا أو أمميا أو إنسانيا، لا صلة لهذا المصطلح بالنزعة الطائفية لأنه مجرد تماما من أيّة نزعة طائفية أو دينية أو عرقية جنسية أو جهوية أو غيرها فهو وسيلة لا غاية في ذاته، ولا صلة له بالاختلاف بين السنة والشيعة ولا يغذي الخلاف بين الجماعتين فالخلاف بينهما في الأصل تاريخي سياسي تغذيه مجموعة من الأوضاع والظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، والخلاف في جوهره ليس بين الشيعة والسنّة عامة فهو بين التطرف الشيعي والتعصب السنّي، ولا صلة للمصطلح بالمؤامرة الصهيونية وبالماسونية العالمية وإن كانت المؤامرة على العرب والمسلمين دينا وموقعا وحضارة وتاريخا وثقافة قائمة وبقوة في فكر وعمل النزعة المركزية الأوربية منذ القديم، لكن استخدام مصطلح في سياق سلبي وتجريده من استخدامه اللغوي التواصلي العادي وعام وإعطائه أبعادا دينية خاصة وطائفية ضيقة وسياسية مغرضة لا يكون إلا على سبيل التعسف والتزمت. ولا تتعارض أبدا تسمية "الأدب الرسالي" مع تسمية الأدب الإسلامي أو أي تسمية أخرى إلا في ارتباط الأدب بالرسالة المتفق عليها أو عدم ارتباطه بها، والرسالة رسالات في ماهياتها وفي أهدافها وفي أمصادرها وفي أصحابها، رسالة نشر الدعوة المحمدية، رسالة نشر القيّم الأخلاقية السمحة، رسالة النهوض الحضاري والثقافي والفني، رسالة الحرية والتحرر رسالة النضال والمقاومة، رسالة التربية والتكوين والتعليم وغيرها، وبتعدد الرسالات تتعدد الآداب بحسب ظروف الزمان والمكان.

إذا كان مصطلح "الأدب الرسالي" سيئ الاستخدام مغرضا سياسيا وطائفيا ودينيا وله أبعاد أيديولوجية كما يدعي البعض من دون أسس علمية أو واقعية تاريخية أو غيرها بحجة الدفاع عن الإسلام وعن الأرض وعن العرض ففي هذا الادعاء دعوة واضحة بقصد أو بغير قصد إلى إقصاء التواصل العلمي والثقافي واللغوي، وقبول القبوع والتقوقع في الأنا المتخلف المتهيب الضعيف، ورفض كل انفتاح على الغير، في الوقت الذي نحن فيه في أشد الحاجة إلى التأثر بحضارة العصر في حدود خصوصيتنا الثقافية والدينية والتاريخية، إلى متى نبقى نجادل فيما هو غير مهم ويمضي الوقت من غير حسيب ولا رقيب على حساب الفكر الحر الناقد البناء الذي كان وراء كل نهضة جادة وحضارة راقية وعلم رسالي وأدب رسالي وكل عمل رسالي.