نَظَرِيَّةُالنَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ: قَانُونُ الطُّولِ
للدكتورمحمد جمال صقر
لمااحتمل القَصْد في مادة "ق، ص، د" من متن اللغة العربية، أن يكون الإرادةأو الاتجاه أو الاعتدال، احتملت "القَصِيدَة" المشتقة منه مصطلحا علىمُفْرَدَةِ الشعر، أن تكون المُرادة أو المُعْتَنى بها أو المُعْتَدِلة، وليسأَحَبَّ إليَّ في فهم مصطلح "القصيدة"، من تَدْرِيج هذه المعاني الثلاثةالمحتملة.لقد كان طالب الشعر الأول إذا شغله أمر من الحزن أوالفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى -وعندئذ كان المقطع من التفعيلة- يُلَحِّنُهامن سِرِّ نفسه تلحينا يُمَثِّل مشاعره ويُهَدْهِدُها. ثم صار يُدَنْدِنُ الأصوات مُركبةً في كلمةٍ ذاتِ معنى -وعندئذ كانت التفعيلة من البيت- يكررها باللحننفسه. ثم صار يُدَنْدِنُ كلماتٍ مختلفةً مؤتلفةً في جملة واحدة -وعندئذ كان البيت من القصيدة- يكررها باللحن نفسه. ثم صاريُدَنْدِنُ جُمَلا مختلفةً مؤتلفةً -وعندئذ كانت القصيدة من الشعر- ينتقل من بيتِ الجملةِ منها إلى بيتِ الجملةِ باللحن نفسه.ولقدينبغي أن يُعَدَّ من مُخَلَّفَات رحلة طالب الشعر إلى القصيدة، البيتُ الذي يُروىيَتيمًا ليس معه غيره، والبيتان اللذان يُرْويان نُتْفَةً ليس معهما غيرهما،والأبيات المعدودات التي تُرْوى قِطْعَةً ليس معها غيرها- مثلما يُعدُّ من مسائلنقد الشعر الخلافية، ضَبْطُ طول القصيدة العمودية؛ أهو عَشَرات الأبيات، أم بضعة عشربيتا، أم سبعة أبيات، أم كل ما اكتملت فيه رسالة طالب الشعر وإن كان بيتا واحدا.وأَثْبَتُالأقوال في ضبط طول القصيدة العمودية المتوسطة، أنه بضعة عشر بيتا، وأن كل قصيدة زادتعلى ذلك كانت طويلة، وأن كل قصيدة نقصت عنه كانت قصيرة؛ فقد قَسَمْتُ عدد أبياتالشعر العمودي الذي اشتملت عليه الموسوعة الشعرية الصادرة سنة 2003م عن مجمع أبيظبي الثقافي (1442137)، على عدد قصائده (114234) -وهو جملة ما اجتمع لمُعِدِّيها منعصر ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث (ثورة سنة 1952م المصرية)- فكان متوسط طولالقصيدة بضعة عشر بيتا (12.62). وأَوْسَطُالأعداد المُبَضَّعَة وأَوْلاها بطول القصيدة المتوسطة هو الخمسة عشر، لأنه وَحْدَههو الوتر الكامل الذي آثره دائما طالب الشعر، من حيث عدد الخمسة عشر في نفسه، ومنحيث انقسامه على ثلاثة أقسام، ومن حيث تَخْمِيس كل قسم، وهذا غاية اكتمال الأعدادالمُبَضَّعَة.ولكنينبغي أن يُراعى طولُ البيت نفسه من داخل طول القصيدة؛ فأبيات كثير من البحورمتفاوتة التفعيلات أعدادًا ومقاطعَ أصوات، ثم يكون من البحر الواحدِ البيتُ الوَافي(المستوفي عددَ التفعيلات)، والبيتُ المَجْزُوءُ (المنقوص تفعيلتين)، والبيتُ المَشْطُورُ(المنقوص نصفَ التفعيلات)، والبيت المَنْهُوك (المنقوص ثُلُثَيِ التفعيلات)، والبيتالمُوَحَّد (المنقوص ما سوى تفعيلة واحدة). إنأطول أبيات الشعر العمودي (أكثرها أصواتا) -وإن لم يكن أكثرها تفعيلات- لَهُوَ البيتُالوافي من بحر الكامل (ثلاثون مقطعا صوتيا في ست تفعيلات: مُتَفَاعِلُنْمُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ) -وبحرالكامل من أكثر بحور الشعر العربي العمودي كله استعمالا بمادة الموسوعة الشعريةالسابقة- فليس أعدل من الاحتكام إليه في ضبط طول القصيدة المتوسطة، بضرب عدد مقاطعهالثلاثين، في عدد أبيات القصيدة المتوسطة الخمسة عشر، ليكون مقدار أربعمئة وخمسينمقطعا صوتيا (450) -وهو هنا في تسعين تفعيلة (90)- هو طول قصيدة الشعر العموديالمتوسطة.ينقطعطالب الشعر لقصيدته وقد انطبع في وعيه طول قصيدة الشعر العمودي المتوسطة، فيَقِفُعنده بأسلوب المُساواة، أو يَزيدُ عليه بأسلوب الإِطْناب، أو يَنقصُ عنه بأسلوبالإِيجاز. وهي ثلاثة أساليب بلاغية معروفة، يستدل عليها طالب علم الشعر بمنزلة طولالقصيدة الخاص من ذلك المتوسط العام، ويُعَلِّقُها بثلاثة معانيها المعجميةالسابقة، بحيث يكون فيها على أسلوب الإيجاز معنى الإرادة، وعلى أسلوب الإطناب معنىالاعتناء، على أسلوب المساواة معنى الاعتدال.ومنأسلوب الإيجاز كانت المُقَطَّعات القديمة والحديثة التي داخَلَ فيها طالب الشعرذلك الطولَ المتوسطَ، وشَبَّهَها قديمًا بقِلادة العنق التي تَكْفِي فيهاالحَبَّات، وشبهها حَديثًا بقَوْسِ السماء التي تَحْتَشِدُ فيها الألوان، فانطَوَتْله القصيدةُ بعضُها على بعض أو أغنى بعضُها عن بعض، حتى استفرغ وُسْعَه. ومنأسلوب الإطناب كانت المُطَوَّلَات القديمة والحديثة التي ضَاعَفَ فيها طالبُ الشعرذلك الطولَ المتوسطَ، فاجتمعت له في إهاب القصيدة الواحدة قصائدُ متعددة، انقطعلها انقطاعاتٍ متعددة، فأضاف كُلَّ مرة إلى مِقْدارِ الطولِ المتوسطِ مقدارًا مثلَهأو مقاديرَ، حتى استفرغ وُسْعَه. ومنأسلوب المساواة كانت المُقَصَّدَات القديمة والحديثة التي راعى فيها طالب الشعرذلك الطول المتوسط، فاستقامت له عليه القصيدة، وارتاح فيها إلى المُعَادَلَة منكُرُوبِ المُضَاعَفَة والمُدَاخَلَة!علىأطوال قصائد الشعر مُقَطَّعَةً ومُطَوَّلَةً ومُقَصَّدَةً، ينبسطُ سلطانُ قانون الطول،ويراعيه وُجودًا وعَدَمًا طالبُ علم الشعر، لأن طالب الشعر يخضع له عَفْوًاوقَصْدًا.

--